Part 4

119 21 0
                                    

(الزمن)

لماذا قد يظن المرء أنه يعيش في حالة من تكافؤ الفرص، والعدل في الحياة الطبيعية قد يكون هذا مهم، لكن ماذا عن فكرة تكافؤ الفرص في نسبة مرور الوقت؟...

بالتأكيد هذا أغرب شيء سمعته في حياتي.. عندما وجدت هذه الجثث المتعفنة، والحافلة التي أصبحت قطعه من الصفيح الصدأ.
بدأ يونس يروي لي قصة وادي الغِربان، وكيف يمر الوقت فيه.
في هذا الوادي لا يوجد نسبة معينة متساوية للجميع يمر بها الوقت، مثل الطبيعي، بل هو عكس ذلك.. فقد تمر دقيقة على أحدهم بمقدار ساعة عند آخر ، والأمر الأكثر غرابة أنه لا قاعدة في هذا المبدأ.
ق

د يولد الطفل من بطن أمه ويكبر قبلها، وقد يموت الأحفاد وأبناء الأحفاد ومازال الجد على قيد الحياة. هنا لا يوجد قاعدة محددة، في وادي الغِربان قد تشيب في سن البلوغ، وقد تبقى صبي حتى تبلغ الخمسون عاماً.

لقد مر يومان وباقي واحد لم أتوقف عن البحث على سلمى طيلة الوقت، ربما يكون حديث يونس عن أمر الزمن في وادي الغِربان أصابني بالذعر والخوف عليها ولكن هذا لم يجعلني أكِل من البحث. حدثني يونس أن السبب الوحيد الذي يجعلني أبقى لفترة أطول هو أن أكون من أهل الوادي. غير ذلك لا يوجد مكان لي بينهم.

في الليلة الأخيرة لي في هذا الوادي، الهدوء يسود في المكان، الجميع نائمون، حتى الغِربان لا أسمع لهم صوت.. نعم هذا وقتي المفضل جلست أمام خيمتي وأخذت أنظر الى السماء، لفت نظري نجم كبير بجانب القمر مباشرةً، كان لمعانه شديد للغاية كان يمكن تفرقته عن باقي النجوم بسهولة وفي هذا السكوت سمعت صوت من خلفي يقول:
إنه نجم سهيل..
التفتُّ الى مصدر الصوت، كانت زينب تجلس بالقرب من خيمتها ومضت بضع خطوات ناحيتي ولكنها لم تجلس بينما أنا أحدق بهذا النجم المميز وأنظر اليها. فقالت:
أتدري ما معنى ظهور هذا النجم الآن.؟
فهززت رأسي نافياً.. فجلَسَت على بُعد خطوات كثيرة مني وقالت:
ستخفت حدة حرارة الصيف تدريجياً ويجعل طقس الليل معتدلاً، وبعد ثلاثة عشر يوماً سيختفي.
أتدري.. عندما أعلم بظهوره أتبسم تلقائياً وأقضي هذه الثلاثة عشر يوماً أنظر اليه في السماء كل ليلة وأحياناً أجلس هنا حتى شروق الشمس.
أنه حقاً رائع.
فقلت:
إنه رائعٌ فعلاً..
وجدت نفسي أسألها دون تفكير:
كم عمرك؟
فأجابت بسؤال:
كم تظن؟
فقلت:
أظن أنك لم تتجاوزي الخمسة وعشرون عاماً.
فأبتسمت وقالت:
أنا في السادسة عشر..
فأجبتها والصدمة تغلب على ملامح وجهي:
يمر وقت عمرك سريعاً!! 
فأجابت:
نعم أنا أسرع من كبر من أسرتنا أنا في الحقيقة أصغر من أخي يونس ولكن لا يمكن أن يلاحظ أحد هذا فأنا أبدو أكبر منه بكل تأكيد.
فقلت:
أظنك محظوظة... كم هو قاسٍ أن يمر عمر المرء بطيئاً ، ويعيش في هذا العالم القاسي ويواجه كل هذا العناء طوال حياته، إذا كنت من أهل الوادي فكنت سأتمنى أن يمر وقتي بأقصى سرعة بكل تأكيد.
شعرت بتأثر زينب قليلاً بعد حديثي هذا فقالت وهي تنظر لي:
لماذا تكره الحياة الى هذا الحد
فأجبتها:
أنا حقاً أكره مواجهة الحياة، وفكرة التعامل مع كل شخص بطريقة مختلفة، كل شخص له طبع، عليك أن تعاني وتبذل جهد لتعامل كل فرد بما يناسبه، أنا لا أكره البشر ولكن أحب الإنعزال قليلاً، أو أكثر من قليلاً...
انا أحب عائلتي كثيراً ولكنني أعيش بمفردي، أحب أختي التي لم أتحمل مسؤولية الإعتناء بها في هذه الرحلة، وأبي الذي عانى من الحديث معي عن أمر انعزالي عن عائلتي، وأمي التي طالما تحايلت عليّ للزواج ولم اكترث، أنا الآن هنا لا أعرف ان كنت سآراهم مجدداً أم لا.
أبتسمت لي وأخذت تحدق مجدداً الى النجم ثم نظرت اليّ وقالت:

لا تقلق.. عندي يقين أنك ستجد سلمى وستعودان الى والديكما سوياً.. وكل شئ سيعود كما كان أنا أتوقع هذا... أريدك الان أن ترتاح قليلاً وأن تستعد للغد أظن أن غداً لن يكون أفضل أيامك.

غريبٌ هذا الشعور الذي أصابني بعدما سمعت حديث زينب. جعل الأمل يدب في أعماقي. وكأن شيء في داخلي يحدثني أننا سنعثر عليها غداً..
كنا قد قسمنا الثلاثة أيام على عدة أماكن حول صخرة كبيرة ميزناها بقطعة كبيرة من القماش للبحث حولها. وغداً سنسلك أخر طريق قد نجد فيه سلمى. ربما لا أدري ماذا سأفعل ان لم نعثر عليها غداً. أو الى أين سأذهب، ولكن هذا لا يشغل تفكيري الآن كل ما جال بخاطري أن علينا أن نجدها... غداً.

لقد حل الصباح وبدأت أستعد للمضي مع يونس وهذه المرة أحضر معه أربع رجال من قبيلته وأخبرني أن علينا توسيع مدى البحث هذا اليوم فوافقته وأنطلقنا في مجموعات.
وصلنا الى الصخرة التي ميزها يونس بقطعة كبيرة من القماش،وكان قد غطى نصفها المواجه لنا. أما النصف الأخر فلم تكن تغطيه تلك القطعة القماشية. نظرنا الى الصخرة من الجانب الأخر فوجدنا آثار أقدام حيوان ما أسفلها . تغطي الأرض وتقطع كل المسافة التي سنسلكها. تعجبنا قليلاً وقررنا تتبع تلك الآثار.
وفي الطريق كان عليّ أن أشكره:
شكراً لك على كل ما فعلت من أجلي أنت حقاً نعم الصديق وأسعدتني كثيراً معرفتك.
فأبتسم يونس وأردف:
لا تقل هذا يا أخي، أعدك أنني لن أكِل حتى نجدها وإن لم نعثر عليها اليوم فربما لاحقًا.. لن أتوقف عن البحث ياصديقي.
أومأت له برأسي مبتسماً وأكملنا طريقنا بين الصخور العملاقة في وسط الصحراء. حتى وقف يونس أمام صخرة ما كان يبدو أنها مميزة عن الأخريات، وقف أمامها قليلاً وحدّق بها وكانت تظهر عليه الصدمة. ظل على هذا الوضع الصامت للحظات حتى تحدث:
لقد كانت آثار أقدام غراب. وتنتهي هنا.
فنظرنا أعلى الصخرة ووجدنا غراب يطلق نعيقه في السماء مراراً و تكراراً تعجب يونس من الأمر ولكن انا لم أفهم، أظنه أكتشف شيئاً ما منحوتاً على تلك الصخرة.
فألتفت إليّ قائلاً:
لقد قادنا الغراب الى هنا.... أعرف أين أختك.

وادي الغربان  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن