"وحيد"
(بين الوعي واللاوعي)نظرت حولي لم أجد إلا الفراغ، فأغمضت عينيّ وفتحتهما فوجدتني في منزلنا القديم، ألتفتُّ يميني فوجدت أبي وأمي وقد ظهر عليهما الصغر كانت أمي تعد الطعام بينما أبي يجلس أمام باب المنزل.... أظنه يراقب أمراً ما، أقتربت أكثر حتى تبيّن لي ما كان ينظر اليه، لقد كان أنا... في السابعة من عمري عندما كنت أجلس بمفردي وأرسم طيلة اليوم ، لقد كان هذا روتيني طوال العام ولكن هذه اللحظة... أنا لا أتذكرها أخذت أنتظر حدوث شيئ ما، حتى طرق بابنا رجل طويل ذو لحية كثيفة، وكأن وجهه مألوف بالنسبة لي.. التفت إليه أبي وظهر عليه التوتر الشديد عندما رآه فدخل معه للمنزل وأغلق بابه وتركني وحدي في الخارج.. غريبٌ ما أراه فأنا لا أتذكر أبداً أني قابلت هذا الرجل ولكنه لا يبدو غريب عني، أخذت أستمع لحديثهما الذي أمتلئ بالضجيج والحديث المتداخل في بعضه،
ولكن ظهرت جملة مفهومة وحيدة من هذا الحديث عندما قال له أبي:
أذهب من هنا وكما قلت لك.. لا علاقة لك بوحيد...أسمعت؟ثم رحل الرجل وزادت حيرتي أكثر بعد حديث أبي معه، نظرت من النافذة لقد كنت كما أنا أرسم دون أن أشعر بكل ما حدث في الداخل، نظرت الى يميني فوجدت مالك ينظر لي بإبتسامته الخبيثة ويلوح لي بيديه قبل أن أفقد وعيي...
أفقت مرة أخرى في مدرستي المتوسطة، لا أشعر أنني بخير هذه المرة وكأن عقلي لا يعمل، وسط ضجيج وازدحام المدرسة لفتت إنتباهي فتاة ترتدي ملابس بدوية وتجلس وحولها العديد من الفتيات، تمعنت في نظري حتى تأكد شكي.. إنها زينب، مازلت غير مصدق وجودها هنا.. فتقدمت اليها فانصرف الفتيات من حولها، ووقفت من مجلسها فحدثتها:
هل هذا حقيقي؟
فقالت مبتسمة:
أنت من يعلم.
فقلت:
ولكنكِ لم تكوني في المدرسة من قبل
فقالت:
أنا لست في المدرسة يا وحيد..
فأقتربت مني وأشارت الى قلبي وأردفت:
أنا بداخلك يا حبيبي
فقلت:
أنا لا أفهم شيئاً.. أنا لم أكن هنا قبل أن أراه، مالك... كل ما يحدث لي بسببه
زينب.. أخبريني كيف أوقفه وكيف أنقذ أختي.. أحتاج مساعدتك
فوجدتها تشير الى السماء فتبدل النهار الى ليل في غضون لحظات وظهر نجم سهيل لامعاً كعادته في السماء فأشارت بسبابتها إليه وقالت:
تذكر ياعزيزي.. سهيل في السماء.زادت حيرتي وزاد توتري بعدما رأيت مالك مرة أخرى يقف بعيداً عني هذه المرة، فأنصرفت زينب من أمامي وهي تبتسم لي وتلوح لي بيديها، فنظرتُ الى مالك وجدته يقف عاقداً يديه امام صدره، وفي هذه اللحظة فقدت وعيي مرة أخرى.
أفقت مرة أخرى في منزلي، لقد كنت في العاشرة من عمري هذه المرة، جاء نفس الرجل طويل القامة مرة أخرى ولكنه كان يبكي هذه المرة بينما نسختي الصغيرة كانت نائمة، أستمعت الى حديثه مع أبي بوضوح هذه المرة فقال له هذا الرجل:
لقد عانيت طيلة سنواتي الماضية، لا أجد الحلول ولا أعلم ماذا أفعل لكي تغفروا لي خطئي..
فقال أبي:
قد تعتبره خطأ ولكنها جريمة بالنسبة لنا، كنت ستعيد هذا الطفل الصغير حينها لتكسب من ورائه المال، أنت لا تفكر الى في نفسك، وعليك أن تعلم ان هذه أخر مرة أسمح لك بدخول بيتي.
فأنصرف الرجل وبدأت أمي تبكي كثيراً وأخذ يهدئها أبي حتى طُرق الباب مرة أخرى ففتح أبيوكان الطارق هو يونس..
لقد أعتدت المفاجآت، فلم تصيبني زيارة يونس بالحيرة إطلاقاً.. فدخل الى المنزل دون أن يكترث بوجود والدايّ فأقتربت منه وحدثته:
ماذا تفعل هنا ياصديقي.
فأجاب:
أنا هنا لمساعدتك
دب الأمل في أرجاء جسدي، وزادت ضربات قلبي فسألته:
كيف؟
فقال:
عليك أن تستعين بعقلك وقلبك، عليك أن تبحث في داخلك عن الحقيقة..
فقلت:
لا أفهم.. أرجوك يا أخي.. ساعدني.. كيف أوقفه.. أشعر به في كل مكان إنه يدور حولي، ولن يتركني وحدي إلى أن يجن جنوني.. أنا لا أفهم ماذا حل بي، هل أنا مستيقظ أم نائم... أنا في وعيي أم لا.. لا أستطيع التفريق لقد أرهقت كثيرا ولا أملك المزيد من الطاقة، ساعدني..
فقال سائلاً:
هل رأيت زينب أختي؟
فقلت:
نعم في المدرسة.. ولكنني لم أفهم منها أيضاً.. لقد قالت لي مثلما قلت الآن أنها في داخلي، وأشارت الى سهيل.. ماذا يعني هذا.
فقال مبتسماً:
أنت من يستطيع الفهم..
فقلت:
يونس.. هل مازلتم على قيد الحياة؟
فقال:
نحن فكرة.. والفكرة لا تموت.. نحن في داخلك يا أخي
بداخلك..!لقد فقدت وعيي مرة أخرى وأفقت كما كنت في الصحراء بجواري أختي سلمى وأمامي مالك، مازال يبتسم إبتسامته الخبيثة، ربما لم أدرك كلياًّ أنني في وعيي ولكنني أفترضت ذلك، نظرت إلى مالك دون خوف لقد بدأت أجمع الخيوط، دار في عقلي حديث زينب:
أنا في داخلك
وأخيها يونس:
نحن فكرة والفكرة لا تموت
مرة أخرى زينب:
تذكر.. سهيل في السماء.
يونس:
هل رأيت زينب أختي؟
أبي:
أذهب من هنا وكما قلت لك.. لا علاقة لك بوحيدإنه الصراع في عقلي الذي لا يتوقف أدركت حينها أن كل هذا في داخلي، ومن فعل بي هذا يقف أمامي مباشرةً، أدركت أن قوتي ستكبر إن ابتعدتُ عن العاطفة وأعترفت بالحقيقة.. حقيقة أن كل ما حدث كان ورائه مالك العامري، وأن كله كان فقط من صُنع عقلي،وأنه لا يوجد أحد في وادي الغِربان
أنت تقرأ
وادي الغربان
Short Storyرحلة في الصحراء، ستغير حياة وحيد الشاب المائل للعزلة، وسيخوض من خلالها أصعب مواقف حياته..