كان المساء قد أسدل ستاره الثقيل على القصر الكبير، مخلفًا ظلامًا مكثفًا يلف المكان بعباءته السوداء. الهواء البارد كان يحمل في طياته رائحة قديمة وعتيقة، مما زاد من رهبة الجو المحيط. كنا جميعًا نعلم أن هناك شيئًا غير طبيعي يحدث هنا، لكن لم نكن مستعدين لما رأيناه تلك الليلة.
في زاوية مظلمة من القصر، تحت ضوء الشموع الخافت، كانت الجثة ملقاة على الأرض. وجهها الشاحب المتعفن وسكين مغروس في صدرها، مشهد يكفي لزرع الرعب في قلوب أشجع الرجال. ملامح الجثة بدت مألوفة بشكل مخيف، وكأنها جزء من هذا المكان. لكن ما أقلقني أكثر كان تعبير وجه آثليت، التي ظهرت بعد فترة قصيرة. وقفت هناك بلا مبالاة، ملامحها جامدة، وكأن رؤية الجثث جزء من روتينها اليومي.
حولت نظري إلى مريم، التي كانت مسجاة على الأرض، مغمى عليها من هول المشهد. لم يكن غريبًا أن يغمى عليها، إذ إن رؤية جثة لامرأة في بداية تعفنها، متصلبة ولا تتحرك، كان كافيًا لإثارة الذعر في أي قلب بشري.
في تلك اللحظة، كسر نوح الصمت القاتل، قائلاً بصوت مرتعش: "الآن، يجب أن نبلغ الشرطة، وإلا سنذهب جميعًا إلى الجحيم." كانت كلمات نوح تتردد في أرجاء القصر، لكن آثليت كانت تستمع بلا اهتمام، بل بدأت عيناها تتسعان ببطء، ثم انفجرت ضاحكة بصوت عالٍ، مما أثار فينا جميعًا مزيجًا من الصدمة والارتباك.
"هل تظنون أن أحدًا سيصدقكم؟!" قالتها وهي تضحك مرة أخرى، ثم أضافت بتهديد خافت: "كل من يعلم بما حدث هنا سيكون مصيره مثلها. هل تفهمون؟" كانت تهددنا جميعًا، وصدى كلماتها كان يرعبنا.
صرخت إسراء بها، غاضبة ومذعورة: "ما الذي حدث لعقلك؟! نحن يمكننا أن نجعلك تدفعي الثمن! هل تدركين أن ما أمامك هو جثة امرأة مقتولة؟!" وقف الجميع متفقين مع كلام إسراء، التي اتجهت بخطوات سريعة نحو الباب لتستدعي الشرطة. لكن، ما إن خطت خطوة واحدة خارج الباب حتى سمعنا صراخها. ثم، لم نرها بعد ذلك.
مرَّ يومان كاملان بعد ذلك الحدث المخيف، وإسراء لم تظهر. لم يجرؤ أحد منا على الاتصال بالشرطة بعد اختفائها. وبدأت الأمور تتخذ منعطفًا أغرب، عندما اختفت الجثة بعد دقيقتين من صراخ إسراء، وضحكت آثليت مجددًا بصخب، واتجهت إلى غرفتها. الجميع تجمد في مكانه، مشدوهًا بمدى غرابة ما يحدث. هل اختفت الجثة حقًا؟
يأسنا كان يتعمق، حتى نطق يونس بنبرة حازمة: "هل ستظلون واقفين هكذا؟ هل تتخلون عن إسراء؟ إذا كنتم لا تهتمون بها، فأنا لا أستطيع التخلي عنها!" انتهى من كلامه وهرع إلى غرفته، ليتبعه نوح على الفور. أما نحن، فبقينا نحاول إفاقه مريم.
في ذلك القصر الملعون، كانت فكرة الهروب تراودني، لكن خوفنا من آثليت كان يحول دون تنفيذها. لم أستطع منع نفسي من التفكير في الهروب. في الليلة التالية، عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، كنت مستعدة للهروب. وصلت إلى البوابة الأخيرة، لكن سمعت همسات غريبة حولي. أدرت رأسي ولم أرى أحدًا. ألقيت نظرة أخيرة على القصر قبل خروجي، لكن يدي تجمدت، وقفل الباب التصق بيدي. ثم سمعت صوت امرأة يهمس: "ألم أحذركِ من الخروج من هذا القصر؟" شعرت بقشعريرة تتسلل في جسدي، كان الصوت ذاته صوت آثليت، لكن بهيئة تلك المرأة الميتة. وقبل أن أتمكن من الرد، غشتني الظلمة وغبت عن الوعي.
استيقظت في صباح جديد، شعاع الشمس يتسلل بخفة عبر الستائر ليضرب وجهي. تململت بأريحية داخل فراشي، متسائلة إن كان كل ما رأيته في الأيام السابقة مجرد كابوس. لكن الوقت لم يكن كافيًا للتفكير، إذ انطلقت أمي إلى غرفتي لتوبخني كالعادة، متهمة إياي بالتقاعس عن الذهاب إلى العمل.اعتدلت في جلستي، وخرجت من الغرفة بخطوات متثاقلة. لكن، ما إن خطوت خارج الغرفة حتى اكتشفت أنني ما زلت داخل القصر، ذلك القصر الملعون الذي حاولت الهروب منه. شعرت بالجنون يتسلل إلى عقلي. "ما هذا؟!"، تمتمت لنفسي، متوجهة إلى الدرج بحيرة.
نزلت الدرجات بحذر حتى وصلت إلى الطابق السفلي، حيث وجدت حوراء ويونس يجلسان معًا، بانتظار اجتماع آثليت المقرر بعد ساعة. كان وجه يونس مليئًا بالكدمات، وكأنه خرج من معركة للتو. نظرت إليه بدهشة، وسألته: "ما الذي حدث لك؟"
رد عليّ بحدة: "ليس من شأنك!" ثم غادر المكان غاضبًا.
حاولت الاستفسار من حوراء، لكنها هزت كتفيها بلامبالاة، وكأنها لا تعرف شيئًا. سألتني بسخرية: "هل حاولت الهروب كما قلتِ لي أمس؟"
أجبتها بيأس: "نعم، حاولت." وبدأت أروي لها ما حدث لي في الليلة السابقة. نظرت إليّ بصدمة، وقالت: "أنتما متفقان!"
ترددت في فهم ما تقصده: "متفقان؟ مع من؟"
أجابت حوراء: "يونس، لقد كان يقص عليّ نفس الموقف الآن."
بدأت أدرك سبب الكدمات على وجه يونس، فاندفعت بسرعة إلى الخارج لأبحث عنه وأستفسر منه عن التفاصيل.
في المساء، اجتمعنا جميعًا بناءً على أوامر آثليت، التي أصرت على ضرورة الاجتماع. قالت بلهجة صارمة: "غدًا ستُقام حفلة تجمع بعض الكبار هنا في القصر. وأحذركم، أي تصرف غير مرغوب أو محاولة غير مدروسة، ستواجهون نفس مصير إسراء." كانت تنظر إليّ بنظرات ملتهبة، ثم وجهت كلامها إلى يونس ونوح: "أي شيء غريب يحدث غدًا، لا أريد سماع تعليق واحد. مفهوم؟"
أجبنا جميعًا بالموافقة، وتفرقنا كلٍ إلى عمله. بينما كنت أفكر في ما حدث في الليلة الماضية، تساءلت إذا كانت إسراء ستعود يومًا ما، أو إن كانت قد ألقت بنفسها إلى مصير مظلم. كل هذه الأفكار كانت تدور في رأسي حتى تذكرت شيئًا مهمًا: أين كانت حوراء عند ظهور الجثة؟ ولم لم تظهر زينه حتي الآن بعد ؟!
تذكرت أننا كنا جميعًا في الطابق السفلي، لكن زينة كانت بجواري وحوراء لم تكون هناك. استدرت لأرى من بجواري، لكنني وجدت حوراء تبتسم لي ابتسامة غريبة، ليست الابتسامة المعتادة بل ابتسامة مرعبة. بدأ العرق يتصبب مني وأنا أشعر بالخوف الشديد، حينما بدأت ملامح حوراء تتغير لتظهر تلك المرأة المخيفة مرة أخرى.
يا إلهي، أين ذهبت حوراء؟ اندفعت مسرعة عبر السلم، أبحث في كل زاوية عن زينة وحوراء. ذهبت إلى غرفة آثليت، حيث كان هذا آخر مكان رأيتها فيه، لكنها لم تكن هناك. وزينة لم تظهر أيضًا، مع العلم أنها كانت معي في نفس الغرفة الليلة الماضية.
فتحت كل الغرف، محاولة العثور على أي أثر لهما. وفجأة، لاحظت أن إحدى الغرف مضاءة بشكل غير عادي. دفعت الباب ببطء، وصوت صريره العالي كاد أن يصم أذني. ما رأيته كان يتجاوز القدرة على التصديق.
من فتحة الباب، رأيت ضوءًا ساطعًا يضرب وجهي. في الداخل، كانت زينة وحوراء واقفتين كالأصنام، تحدقان في آثليت. لكن ما لبث أن تغير وجه آثليت إلى وجه مشوه، حروق تغطيه بالكامل، وعيناها جاحظتان، وأسنانها متسخة بلون مزيج من البني والأصفر. شعرت برعب لا يوصف، وكأن الموت يحيط بي.
بدأت في التراجع إلى الوراء ببطء، لكن فجأة اصطدمت بشخص من الخلف...
يتبع ......______________________________________
أنت تقرأ
حقيقة مزيفة
Mistério / Suspense"في هذا العالم المتشابك بين الواقع والخيال، تختبئ الحقائق المزيفة كألغاز لا تنتظر سوى من يجرؤ على كشفها. هل نستطيع حقًا أن نميز بين الظلمة التي نعيشها وبين النور الذي نصطاده؟ هذا ما سأكشفه، حيث تتقاطع الحقيقة والأوهام في لعبة لا تنتهي." ( جارى التعد...