الأخير

12.5K 402 223
                                    

الستون «الجزء الرابع»
دخل الشقة ولم تستقبله بإبتسامتها الحنون كعادتها، لم تظهر ببشاشتها لتخفف عنه، دخل وفتش عنها بقلق حتى وجدها نائمة فوق الفِراش تضع الوسادة فوق رأسها، زفر بضيق وهو يمسح وجهه وبعده خصلاته بتفكير قبل أن يتقدم ويجلس بالقرب منها ويزيح عن وجهها الوسادة برفق، هاله شحوبها والدموع المتجمدة على وجنتيها والإرهاق البادي على ملامحها فسارع بإيقاظها وهو يلوم نفسه على اندفاعه وتهوره وعصبيته «مودة»
فتحت عينيها المُثقلة بالإرهاق تنظر إليه بعتب قبل أن تعتدل وتهمس بإبتسامة متكسرة على أطراف شفتيها «حمدالله على السلامة، نص ساعة وهجهزلك العشاء»
تحركت لتترك الفِراش فأمسك بذراعها مانعًا يسأل بقلق «لسه تعبانة وضرسك واجعك؟» صمت قليلًا ثم ابتسمت وتحركت تقول في كذب «لا أنا تمام متشغلش بالك»
جذبها مرة أخرى يسأل بإهتمام «مودة»
تجاهلت كلماته وقلقه، نفضت كفه عنها برفق ونهضت مُغادرة للمطبخ، فما زال ضرسها يزئر من شدة الألم ورأسها يضج بالوجع، سقطت دموعها رغمًا عنها وهي تُخرج الطعام من البراد وتضعه على الطاولة، انهارت جالسة في تعب تبكي بصمت وتكتم نشيجها بتحمّل.. وقف يراقبها بحزن ضميره يؤنبه على ما فعله وصراخه عليها وإصراره على أن تبقى حتى يبحث لها عن طبيبة وحين ذهبت دون مشورته أمرها أن تترك العيادة في الحال غيرعابيء بألمها الذي دفعها لتفعل دون علمه، لم يكن يعرف أنها تتألم بتلك القوة.. تقدم ناحيتها يضم رأسها لصدره معتذرًا «أنا آسف معرفش إنك تعبانة كده»
انتفضت واقفة بتماسُك تمسح دموعها وهي تخبره «لا أنا تمام»
تحركت بإنهماك مقصود، تتحاشى الالتقاء بنظراته أو القرب منه، اقترب وسحبها من كفها للخارج، جلس بها فوق الأريكة يضم وجهها بكفيه يرجوها «مودة متبكيش كده» قالت بهدوء ونظرات متهربة منه «ماشي»
حثها برفق والندم يُغرق نظراته «بُصيلي»
رفعت له نظراتها الفاقدة للحياة المنهكة من شدة التعب فضم رأسها لصدره بحنو متألمًا لأجلها، ما كان عليه أن يقسو هكذا ولا يصرّ بعناد، سيحصد زرع فعلته ألمًا يتقاسماه طوال الليل «خدتي مسكّن»
تنهدت بصمت فربت على ظهرها قائلًا «مش عايز أكل تعالي خدي مسكن تاني وحاولي تنامي وبكره نروح الدكتور الي أنتِ عيزاه»
نهض ممسكًا بها مُتجهًا ناحية الحجرة تسطحت فوق التخت وحاجتها للكلام تتبخر، وزهدها يطفو، العتاب لن يفيد الآن والكلمات ستؤجج نيران حنقها منه فاختارت الابتعاد بالنوم والهرب. تمدد جوارها يربت على رأسها بحنان حتى نامت ونهض من جوارها ليستحم ويبدل ملابسه، ثم عاد وجاورها يعتذر لها بقبلات دافئة على جبينها.
في الصباح فتش عنها ولم يجدها فارتدى ملابسه وهبط للأسفل يبحث عنها، أخبرته والدته أنها نائمة بالداخل
قرر الدخول للاطمئنان عليها لكنها
صرخت والدته بغضب «استنى»
وقف مكانه قلقًا من نظرات والدته التي أردفت بغضب حقيقي
«البنت كانت بتموت يا بني آدم وأختك أخدتها للدكتور الي لقته متاح تقوم حضرتك تزعق وتحلف عليها وتطلعها من غرفة الكشف»
قطب بإنزعاج وضيق موضحًا «هي حتى مكلمتنيش تستأذني»
هتفت والدته بسخرية «يا سلام وريني تليفونك أشوف»
جلس ينفخ في ضيق، يحيط رأسه بكفيه في ندم فأردفت والدته توبخه على أفعاله وحماقاته «يعني إيه متروحش لدكتور طالما حضرتك قافل تليفونك؟ البنت تعبانة ومش قادرة ورغم كدا رفضت تروح مع أختك وقالت هتستنى، صعبت عليا قولتلها روحي ولما ييجي هتفاهم معاه بس حضرتك أبهرتني »
حاول الحديث فقاطعته «هي نايمة هتصحى وهاخدها بنفسي للدكتور وأوصلها بعدها لأهلها طالما حضرتك مش فارق معاك ولا هامك صحتها ومش أمين عليها»
هتف يرجوها بندم وتراجع «خلاص هدخلها أطمن عليها وهاجي أوديها الدكتور بنفسي»
حذرته بغلظة ونبرة شديدة اللهجة «مش هتشوفها، هي أصلًا بنت ناس ومحترمة إنها رجعت بعدها على بيتك واحترمت غيابك، واحدة غيرها كانت كمّلت الكشف وسابتك تخبط دماغك في الحيط وبعدها رجعت بيت أهلها»
تخطى والدته وخرج بغضب امتزج بضيقه وندمه.
في المساء راسل أخته ليطمئن عليها فأخبرته أنها بخير ومازالت بالمنزل.
بعد قليل
تسلل لحجرته، دخلها وأغلق خلفه فلم تهتم أو تلتفت لمجيئه من الأساس ظلت على وضعها مسترخية في فِراشه تقلّب صفحات الكتاب الذي تقرؤه
«مسا الجمال» قالها وهو يقف متأملًا لها يعانق كل ما فيها بشغف، أجابته بلا مبالاة «مساء الخير»
ابتسم قائلًا ويعقد ذراعيه أمام صدره «الأوضة نورت والله يا مودتي»
هزت رأسها مترفعة عن النظرإليه زاهدة ً«شكرًا»
سألها بنظرة ثاقبة «ممشتيش ليه زي ما قالت أمي»
أوضحت وهي تقلّب في صفحات الكتاب «مسيبش بيتي حتى لو أنت جولت، أنت عايز تمشي عادي، واحترامًا لمامتك أنا فضلت هنا معاهم»
ابتسم بإستحسان وإعجاب، قبل أن يجلس جوارها فتعتدل مُغلقة الكتاب منتبهة له «والي حصل بينا؟»
نظرت لعينيه بقوة قبل أن تردف بكبرياء وثقة «أجدر أصفيه من غير ما أمشي»
اعترف بإبتسامة واسعة ومزاح «بقيت بخاف من ذكائك»
هتفت بكبرياء وهي تقف وتتحرك في الحجرة «تجدر تخليه لصالحك أو ضدك»
غمغم بضحكة قصيرة مرتبكة «الي بنعمله في الناس هيطلع علينا ولا إيه»
اقترب منها ضمها من الخلف وأحاط خصرها فتركته دون أن تستجيب له أو تبادله عاطفته، عاملته ببرود.. فهمس «عايزه لصالحي، لو ضدي هرميكِ في السجن تونسي خالك»
صمتت فحرّك ذراعه ورفع كفه ليزيح خصلاتها وأعاد الهمس بصدق « معلش متزعليش يا مودتي»
فكت ذراعه عن خصرها وعادت للفِراش قائلة ببرود وابتسامة مُغيظة«تمام تصبح على خير»
تحرك تجاهها قائلًا «ايه هو الي تصبح على خير يلا بينا على شقتنا؟»
قالت بلا مبالاة وتهديد «لاه روح لوحدك أنا هنا لغاية ما تأذنلي عمتي وأرضى عنك»
استنكر بغيظ منها وحنق «ليه مترضيش؟ مش قولتلك معلش متزعليش»
قالت بسخرية «لا كتر خيرك متاكلش معايا»
اتجه ناحية الباب مقررًا «هصحي أمي وأقولها هتطلعي معايا فوق»
هزت كتفها بإستهانة منطوقة «متفرجش وأنت عارف»
نظرت لعينيه بقوة فعاد إليها قائلًا «أنتِ مراتي وليا حقوق ومحصلش حاجه لكل دا» ابتسمت وقالت مؤكدة في استفزاز «صح وعادي ممكن اطلع معاك وأجعد زي أي كرسي في الشجة لا أسمع لا أرى لا أتكلم»
زمجر بغضب وغيظ قبل أن يرحل قائلًا «خليكي مع نفسك»
أجابته بسخرية «خليني يا بتاع معلش»
خرج وأغلق خلفه بعنف فتسطحت هي برضا وأغمضت عينيها لتنام بعمق..
لن ترضى حتى يعتذر صاغرًا عن فعلته ويستسمحها العودة إليه بما يليق بفعلته وقلبها الذي يعشقه.
بعد مرور يومين أيام، أرسلت له والدته ليتناول الغداء معهم، جلس بصمت متجاهلًا وجودها في عبوس، فردّت له بضاعته وتحدثت بأريحيه لتُغيظه أكثر، تمزح مع أخته وتشاكس والدته وتتجاهله هو، يعض شفتيه في قهر وتوعد فتتفاعل هي معهما غير مهتمة به ولا تُظهر له اهتمامها بهجره لها وغروره كأن إبتعاده عنها جاءها نجدة ولاقى بقلبها قبولًا وصدى .. لكنها تموت شوقًا له ولوعة، اشتاقت حديثه ومزاحه وحبه الذي لا يشبهه حب، وحنانه الذي يواريه فيظهر رغمًا عنه، ورقة قلبه المخبأة والتي لا يُظهرها لسواها..
ترك الطعام ونهض بصمت فتنهدت بضيق رغم إصرارها على موقفها منه، تركت الطعام واستأذنت لتنفرد بالحجرة متشبثة بقرارها لن تحدثه حتى يعتذر عما فعل بحقها واستهانته بتعبها.
في منتصف الليل
تسلل لحجرتها، أدّعت النوم في فرحة فجاورها يهمس بحنين «ميمو»
أجابت بصوت تزعم فيه النعاس «أممم»
ضمها واضعًا رأسه فوق رأسها وهمس «أنا آسف وغلطان »
ابتسمت وقد نجحت أخيرًا بعدما شعرت باليأس منه، قبّل صدغها ورأسها مُكررًا «حقك عليا يا ميمو»
صمتت لا تمنحه إجابه ولا إنفعال يليق بتنازله، تغمض عينيها بتفكير
أدار جسدها ناحيته وهمس يستعطفها «مش دا الي عيزاه إيه بقا ما تحني »
فتحت عينيها واعتدلت جالسة تخبره بجدية «بسيطة كده؟»
ضمها مستنشقًا رائحتها يهمس بصدق «مش بسيطة والله؟ دا كفاية بعدك عني مطلعش بسيط خالص ولا قدرت اتحمله»
رغم تأثرهها بما قال وشعورها بصدق كلماته وقوة عاطفته تجاهها، لكنها صمدت بقوة ولم تكشف لها من دواخلها شيئًا «تمام»
حذرها بضيق ألا تتمادى «مودة أنا جيت اهو واعتذرت دا علشان أنا فعلا غلطت يومها فخلاص»
نظرت له بشوق خبأته سريعًا وقالت «وأنا جبلت إيه المطلوب مني؟»
ضمها هامسًا بلوعة «والله وحشتيني اسوأ تلت أيام مروا عليا»
سحب الحقائب التي أتى بها قائلًا «ودا عشا من بره وكل الي بتحبيه قومي يلا نطلع»
كتمت ضحكتها وقالت بمكر مستفزة له تلعب بأعصابه «خليها بكرة لما تصحى والدتك وتستأذنها»
انتفض واقفًا يهتف بعصبية «أنا قولت خلاص يلا»
أزاحت خصلاتها خلف أذنها وقالت بهدوء وهي تسترخي في جلستها «لاه بكره يا سيدي»
قال بسخرية وهو يرفعها فوق كتفه بسرعة «اتدلعي يا ماما واتمايلي وقولي بكره فوق »
«زين نزلني مينفعش كدا» قالتها برجاء ويأس لكنه رفض «لسه هحايل الله يخرب بيت خالك»
بعدما يئست من أن يتركها قالت بتأفف «ما اهو اتخرب على يدك»
ضحك من بين لهاثه منتشيًا «الحاجة الصح الي عملتها بعد جوازي منك يا مجرم قلبي»
انزلها أمام باب الشقة لكنه قيّد ذراعها وفتح الباب، دفعها للداخل وأغلق ثم هبط للأسفل ليحضر ما اشتراه لها.
تركها وغادر للمطبخ أحضر بعض الأطباق وكوبين، جهز لها العشاء كما تحب وتفضل وجلس منتظرًا، أطلّت بعد دقائق بمنامة قصيرة ناعمة ورقيقة مثلها، جلست تتأمل ما أحضره متدللة «حلو الأكل»
سألها بإهتمام «ضرسك أخباره إيه؟»
عبست بضيق متذكرة فعلته فقالت بإختصار «تمام»
إلتصق بها هامسًا «هي غيرتي عليكي متشفعليش؟»
صمتت واقتربت تتذوق الطعام بشهية قبل أن تدير له رأسها وتبتسم هامسةً «تشفعلك »
غمزها بمرح «طب إيه مفيش وحشتني؟ يومين وحشين من غيرك، أي حاجة تحسسني إني مهم»
أحاطت عنقه بذراعيها هامسةً برقة «لا وحشتني ومهم يا حبيبي طبعًا ومحبش إني أبعد عنك تاني»
هتف زين بإبتسامة واسعة «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»
ضربته على كتفه معاتبة له بضحكة خافتة «مفيش فايدة مش هتطلع من بطن الحوت ده خالص؟»
قبل أن يتناول شفتيها في قبلة طويلة هتف «لا تعالي أنتِ بطن الحوت يساع من الحبايب ألف الله يحرق خالك»
********************
استقبلته سكن حين جاء من المزرعة تُلقي بوجهه الشرارة الأول «تعالى يا حمزة»
اندهش حمزة من نبرتها والعبوس الراقد في ملامحها وسألها «في إيه يا سكن؟»
قالت بدهاء وهي تملّس فوق بطنها تجذب انتباهه لها وتوثق قولها بختم المنحة الربانية التي تحملها بين أحشائها
«اشتريلي بيت أسكن فيه لوحدي ويكون بتاعي»
سألها بسخرية وهو يرمقها بنظرة مشتعلة «وأنتِ مين معاكي هنا؟»
أجابت وهي تضع رأسها على صدره وتضمه «أمك»
كرر بنبرة قاتمة «أمك ؟» أشار لها لتكمل
«حجي يبجالي مكان بتاعي أكون الست فيه»
سألها لا ينضم لعاطفتها ولا يشاركها مشاعرها «فين أمي»
أجابت وهي تلثم خده في دلال يناقض كلماتها «زعلت مني وراحت عند راضية»
انتفض ممسكًا بكتفيها يهزها متستفسرًا «زعلت؟ ليه هببتي إيه؟»
عضت جانب شفتيها تؤنبه بنظراتها وهي تضع كفها على بطنها في إيحاء فواصل وهو يدفع السخرية من نظراته والاستهانة بمكرها، أجابت بضيق «هعمل إيه؟ أنا الي حامل مش هي؟ بتوكلني على مزاجها وعيزاني أعمل الي تجول عليه كله هو ولدي ولا ولدها؟»
ابتعدت مُردفة بعبوس «شكلنا مش هننفع مع بعض وأنا مش طايجة أصلا نفسي فعلشان محدش يزعل شوفلي بيت لوحدي»
فورًا رفع الهاتف لأذنة وهاتف والدته «أنتِ فين يا حبيبتي؟»
«عند عمتك يا ضنايا وهبيت هنا»
«ليه حصل حاجه»
«لا ه عشان تكونوا على راحتكم»
«خلاص يا حبيبتي براحتك»
نظراته المسلطة عليها أربكتها، أرجفت جسدها كورقة يابسة تجاهد الريح.. أنهى الاتصال وأقترب منها يلثمها بهدوء ورقة قائلا «عينيا يا سكني أنتِ تؤمري، بكره هجول لأمي تعيش فبيت أبوها وتسبلنا ده »
رفعت نظراتها وسألته بتوتر «صح؟ عادي مش هتزعل»
أجاب بهدوء وهو يضع كفه على بطنها «لا يا سكينة خالص دا أنت أم ولدي»
بهتت ملامحها حين نطق باسمها، ارتعشت في خوف وابتسم هو في ظفر قبل أن يسحبها قائلا «تعالي نجولها دلوك»
تحرك به دون أن يهتم بندائها عليه، واصل السعى ناحية المنزل حتى وصل ووقفا أمام والدته قائلًا «أمي إيه رأيك أرتبلك بيت جدي وتجعدي فيه ونروح وناجي عليكي سكن عايزة البيت لوحدها» كتمت سكن شهقتها بباطن كفها وتراجعت خطوة هاربة من نظرات ورد الحزينة الكسيرة، التي أجابت بنبرة آسى «ماشي يا ولدي»
بينما صرخت راضية فيهما «اتجنيتوا»
جذبته سكن من ذراعه «حمزة»
نفض كفها وواصل الحديث بجفاء «سكن أم ولدي يا ورد لازملها بيت لوحدها بتاعها»
طأطأت ورد رأسها وقالت بحزن عميق «ماشي يا ولدي حجها»
اقترب وقبّل رأسها موضحًا «متزعليش بس سكن دلوجت زيها زيك»
انتفضت سكن من مكانها تهتف بغضب لا تستطيع السيطرة عليه «زيها زي مين يا دكتور البهايم»
اندفعت ناحية ورد ودموعها تتساقط بهلع غير مصدقة، تضم عمتها صارخة «عمتي على راسي كل حاجة ليها»
راوغ حمزة بمكر «هي مش زعلانه يا حبيبي مش كده يا ورد» أجابت ورد باستسلام كاذب وهي ترخي أهدابها في بؤس «أيوة يا ولدي»
صرخت به سكن دون وعي «حمزة فيك إيه؟عيل مين الي يخليك تيجي على أمي والله أنزله»
زعق بها نافرًا من كلماتها «اكتمي يا سكن مش دِه طلبك » ضمت عمتها بقوة باكية «لا مش طلبي ده كان مجلب وأنا متوقعتش كدِه»
ابتسم حمزة قبل أن تنفلت ضحكاته تنشر الصخب حولهم، توقف وجلس جوار ورد يتصنع «لازم تشوفيلك بيت يا ورد»
فردت ورد كفها فضرب حمزة بكفه عليه في ظفر وهو يرفع رأسه ويهتف «أنا تشتغليني ليه ؟ »
عاتب والدته وهو يضمها « وأنتِ يا أمي تطاوعيها الهبلة دي؟»
قالت ضاحكة «وجعت دماغي فقولت إنت هتردلها عجلها»
قهقه الاثنان بينما سكن تطالعهما بصدمة وغيظ، أشار لها حمزة «خليكي عند أمك أنتِ وأنا هاخد أمي حبيبتي معاي، والله لو جبتيلي عشرة يا سكن ما في أغلى من أمي»
ضحكت راضية ساخرة «جيت تصيده صادك»
نهض حمزة وأشار لها «يلا جدامي عالبيت»تأففت متوعدة له قبل أن تخطو أمامه تجاه منزلهما.
************
بمنزل سليم
نادى بنبرة رائقة تحمل بين طياتها مشاعل من الأمل والفرحة «عاليا»
خرجت مسرعة تلف حجابها مستفسرة وهي تقف أمامه «ها يا سليم في حاجة؟»
ضحك بحبور وهو يشير لها في مرح «غمضي عينك لأول»
أضاءت الابتسامة وجهها وفعلت كما أمر، فدخل ووقف أمامها يطلب «فتّحي»
فتحت عينيها على وسعهما وهي ترى مفاجآته الغالية الثمينة، اندفعت تعانق جدها بحرارة «جدي»
ضمها الرجل مبتسمًا تترقرق الدموع بعينيه لأجل ذلك اللقاء وعاصفة اللهفة التي غمرته بها، ابتعدت عن جدها لتجد مستقرها بحضن سليم شاكرة«شكرا يا سليم»
تابعها جدها بنظراته الحنون المبتهجة حتى عادت إليه تمازحه وتأخذ بيده لتُدخله «نورت يا جدي»
أجلسته وجلست جواره تسأله عن أحواله وصحته، تشاكسه بشقاوة وتداعبه بمرح، تحكي له بحماس وتضحك بسعادة، تحذره بعصا الغلظة أن لا يهمل علاجه، وتهدد بشر مفتعل تتلون به ملامحها إن أهمل ، ثم تستعطفه أن يبقى لها وجوارها لا يتخلى ولا يترك، سئمت الخسارة وكرهت الرحيل... حين جاء سليم بصينية الضيافة، شهقت بإدراك، تناولتها منه شاكرة ممتنة وجلست، تطعمه بفمه وتتحايل ليشرب، تدغدغه بحب إن رفض فيزعن..
كل ذلك و سليم يتابعها مبتسمًا، لا يشارك ولا يتدخل يكتفي بحلو التأمل وروعة مراقبة جميلته عن قرب، يكتشف منها الكثير الرائع، انسحب بعد دقائق متشبعًا بفرحتها، راضيًا عما فعل...
نام جدها بتعب وتمدد فدثرته وغادرت تبحث عنه، وجدته بحجرة الدراسة خاصته، طرقت قبل أن تدخل وتقف أمامه، شجعها على التقدم دون أن ينهض «تعالي يا ست البنات» قالها بإنشغال وهو يقلب صفحات كتابه بإهتمام، نظراته تعانق الأسطر، لم يشعر باقترابها إلا حين امتلأ صدره برائحتها وعانقته من الخلف هامسةً «حلوة المفاجآة»
تجاهل قربها رغم تأثره، واصل ما يفعل مُخفيًا ارتباكه حتى لا تهرب وتتركه كعادتها «الحمدلله إنها عجبتك»
لثمت خده فتوقف عما يفعل، لاحظت ذلك فابتعدت تسأل «هتذاكر؟»
صمت طويلًا ثم تنهد وأجابها «أيوة خدي راحتك مع جدك يا عاليا»
مدت كفها له في دعوة رقيقة كلماتها تلمع في صفحة نظراتها المشبعة بالدفء «تعالى شاركنا يا سليم وأجعد معانا مش هحب إنك تجعد لوحدك، لما جدي يمشي هاجي أساعدك زي كل يوم»
قال بتفهم وهو يمسك بكفها ويضمه لا يحب أن يتركه هكذا مُعلقًا حتى وإن كان سيرفض «لاه عشان جدك يكون براحته »
ابتسمت مُصرّحة «جدي بيحبك وبيحب كلامك وجعدتك دِه كان بيروحلك مخصوص لما تخطب »
نهض يقبض على كفها بقوة،أحاط كتفيها وخرج يتعكز عليها متسائلًا «هتعشينا إيه؟»
أجابت بحماس «هعمل لجدي الأكل الي بيحبه وليك كمان بس هتساعدني»
هز رأسه بالموافقة «هساعدك يا ست البنات»
سألته وهي تترك ذراعه وتندفع للمطبخ «ها هتاكل إيه؟»
أجاب وهو يتّجه نحوها ليساعدها «مفيش مفضلات عندي الموجود هاكله ومن يدك هيكون جميل»
اتجهت ناحية البراد قائلة «أنت علطول كدِه قنوع وراضي»
وضعت أمامه بعض الخضراوات قائلة «جطعهم حلو فطبق يلا»
تناول سكينًا وشرع في التقطيع وهو يقول «عادي يا عاليا كل الموجود نعمة الحمدلله»
قالت متذكرة ما فات بشجن«كان متاح اشتري أي حاجة فأي وجت بس كنت أكل الموجود، أو أشارك جدي فأكلة بسيطة بيحبها، زيك معنديش حاجة بحبها أكتر من التانية»
ابتسم بصمت وهو يتابع تقطيع الخضراوات، اقتربت والتقطت قطعة ودستها بفمها تحت نظراته التي ارتفعت لتعانقها وهمست بخجل «بس عجبتني الشندوتشات الي عملتهالي يا سليم هحطها من المفضلات»
ابتسم وهو يحيد عنها بنظراته يهديء من اضطراب دقاته «أممم كدِه عيزاني اعملها تاني»
ابتعدت تضحك برقة قائلة «شوف أنت بجى» سعل جدها فقالت بسرعة «اطلعله يا سليم شكله صحي خليك معاه على ما أجيب الأكل»
ترك ما بيده وخرج يغسل يده ويجففها ثم جاور الجد ليتحدثا.. بعد مرور وقت جاءت عاليا بالطعام، جلست جوار جدها تمنحه دلالها واهتمامها، تنتقي له الطعام وتدسه بفمه، تقترح عليه وتتنافس معه كطفل صغير،ثم تمسح له فمهم وقتٍ لآخر بحنو لاهية عن سليم الذي يتابعها ببعض الغيرة الحميدة وقلب لاهث يريد أن يؤتى مثل ما أوتي جدها من حب ودلال محروم هو منه.. قليلًا ما يشاركهما سليم الحديث
يكتفي بالمراقبة والدعاء لها على صنيعها مع جدها ورقتها البالغة، يحترم هذا منها ويقدره فيصفو القلب وترتفع هي في قلبه لمنزلة أعلى، يتمنى أن يأتي دوره هو قريبًا لينال حظ قلبه منها وتنال لياليه بعضًا من عبقها، ويحظى بونسها.
رمته بنظراتها النادمة وهي تهتف بإدراك «سليم محتاج حاجة؟»
نفض كفيه حامدًا الله قبل أن ينهض مقدرًا لها انشغالها «لا عاليا، خلصي براحتك وهروح أنا أعمل الشاي»
شعرت بالذنب من ناحيته لإهمالها له فقررت أن تسترضيه بعد مغادرة جدها..
شرب جدها الشاي وآتى حمزة ليأخذه، رحبت به عاليا فدخل وجلس قليلًا، سائلها عن أحوالها وإن كانت تحتاج شيئا فشكرته بشدة.. أمسك بكف جده وغادرا يسيران بين الحقول ويتحدثان، يمازحه حمزة ويسرق منه الضحكات عنوه..
عادت عاليا أخذت حمامًا دافئًا واسترخت به منتظرة سليم الذي خرج في أعقابهم دون أن يُعلمها وجهته.
تعجبت والدته من خروجه في هذا الوقت ولم يمرّ على زواجه الكثير، فقررت سؤاله حين يعود..
كان يعرف وجهته جيدًا، بل قلبه المشتاق يعرفها، خلوة العم مستقر الروح وبئر الأسرار وليل يداعب نجومه ويشكى لها همومه، سجادة دافئة يسجد فوقها ويُلقي بأثقاله، يعترف فوقها بذنوبه ويستغفر فتعود السكينة لنفسه الطامعة في الراحة، ويرجع خفيفًا بزاد من قوة وشربة ماء من صبر... وقف يصلي بخشوع فجاء آخر وانضم إليه، آخر اشتاق مثله وغلبته الدنيا، يريد سلامة النفس والمشورة، لكنه لم يكن وحده بل جاء باثنان وبعدهما جاء واحدًا من أقصى الدنيا وأقصى المشاعر ليشاركهم القيام...
لا يعرف كيف تجمعوا وكيف للشوق أن يخطر على القلوب كلها مرة واحدة، أي نداء هذا الذي جعلهم يلتقوا في هكذا مكان باختلاف مشاعرهم وحاجاتهم، ليجدّوا ويطلبوا ويغرقوا في الأماني وتداعبهم الأحلام، حسان الذي تمناهم جميعًا حوله فتحقق الحلم..
أنهى سليم الصلاة وجلس يدعوا بتضرع وإبتهال قبل أن يستدير ويرحب بهم جميعًا ببشاشته المعهودة..
فكان أول من يمازحه زين «ايه يا عريس طلعت ليه؟»
ابتسم سليم ونهض ليقوم بدور العم يبحث عن الإبريق والأكواب ليصنع لهم جميعًا الشاي.
«الي جابك جابني» قالها سليم بمغزى وهو ينظر لعيني زين الذي تنهد وأومأ بصمت..
تحلقوا حول النار في انتظار وصمت، نظرات زين تدور في وجوههم حتى استقرت فوق ملامح حمزة المنشغل بهاتفه، الليلة سمع في أذان القلب نداء، واشتاق فلم يجد أحب من أن يأتي بحمزة لتلك الخلوة أمنية العم العصيّة التي لم يجرؤ على نطقها وحلمه الذي فاضت به النظرات، همس زين وهو ينظر للسماء «جبته يا عم»
ثم وجّه نظراته لهشام الذي همّ بالنهوض ليغادر لكنه استوقفه «اجعد يا هشام»
ابتسم هشام شاكرًا له «الله يخليك يا حضرة الضابط»
وقف زين وأمسك به رافضًا «طالما جيت اجعد»
قال هشام «أنا باجي كل ليلة هنا، النهاردة جيت لجيتكم كنت فاكر أنا بس الي أعرفها»
هتف زين بشجن «فقلب كل واحد منا مكان لعمك جمعنا من غير ميعاد فمكانه يا هشام»
هتف سليم الذي أعدّ الشاي «اجعد يا هشام» تحلّقوا جميعًا يثرثرون ويضحكون، يتبادلون الأحاديث والذكريات، وحده حمزة أحاط نفسه بالصمت مكتفيًا بالإستماع، إلا من بعض الأحاديث التي كان يخصه بها زين ليشاركهم ويهدم الحواجز.
انسحب حمزة برفقة عمار وبقيّ الثلاثة، زين الذي جاء لسبب ووصية أوصاه بها العم وهشام الذي يخصه الأمر ويعنيه.
نهض سليم بعدما أحس أنه تأخر على عاليا لكن زين رفض قائلًا « اقعد يا سليم في كلام مهم ووصية ليك»
قطب سليم بتفكير وهو يعاود الجلوس مُنقلًا نظراته بين هشام وزين..
أخرج زين من جيب بنطاله ورقة مطوية أعطاها لسليم الذي التقطها ببعض التردد وفتحها يقرأها على ضوء النار..
قرأها بعجالة قبل أن يرفع لهم ملامحه المصدومة مضطرب المشاعروالأفكار.
********
دخلت صومعته فوجدته يجلس أرضًا صامتًا بحزن، تظهر عليه علامات التفكير العميق والإنشغال، شعرت لوهلة أنه لم يحس بدخولها ولم ينتبه غارقًا في أفكاره التي تتقاذفه، تحتاجه الليلة لأن يرممها وترممه، داخلها ضجيج وفوضى وحده من يقدر على لملمتها، انتبه لمجيئها ووقوفها أمامه بفتنة طاغية لا تقاوم «سليم»
فرد ذراعه في دعوة صامتة عنوانها نظرة حب دافئة، جلست جواره منكمشة جواره مرحبة بهذا الدفء، ضمها لصدره في حاجة ماسة لقربها وضعت رأسها على كتفه فاستنشق رائحة خصلاتها بإفتنان وهو يسألها «صاحية ليه؟»
همست بصدق تستلقي بروحها المتعبة فوق قلبه «حسيت إنك واحشني»
اتسعت ابتسامته فسألته بإهتمام وهي ترفع رأسها وتطالعه «سرحان في إيه يا سليم؟ من ساعة ما جيت وإنت هنا وجافل على نفسك ومتبدل»
أسرعينيها التي يعشق هامسًا «جلبي فيه حاجة محيراني يا عاليا»
همست بسرعة مشفقة «سلامة جلبك ينفع تحكيلي»
نظر إليها متحيرًا لا يعرف هل يطلعها على ما في نفسه أم يكتم، وجد في ابتسامتها المشجعة الأُنس والمسرة فقال بصوت مبحوح «عمي حسان....»
شجعته بحنو وهي تفعل فعله وتفرد كفها جواره داعية للسكينة ومتفردة بالاحتواء تلك المرة..
لبى الدعوة بقلب خافق وروح تحلّق في فضاء العشق، داعبت ثغرة ابتسامة حلوة ذاته بهاءً في عينها ووسامة، حكى لها بإسهاب عن علاقته بحسان وتعارفهما وما قاله له والبشرى، ابتسمت معه وضحكت، أدمعت وفرحت..أخبرها ما كان من أمر الوصية ورغبة حسان الذي استأمنه
وكتب له ورثه من الأرض بيعًا وشراء
لينتفع بها ويصرف منها على تعليمه وحين ينتهي من دراسته ويصل لغايته
يحوّل أرضه لمزارع فاكهة مختلفة الألوان والأشكال يباشرها هو بنفسه ويزرع بتلاتها بيديه، وأن يبنى على أرضها منزلًا صغيرًا لتحفيظ الأطفال القرآن، وما إن تأتي المزرعة بثمارها يقسم لجزئين واحد يوزع على فقراء القرية والقرى المجاورة والنصف يبيعه وينفقه فيما يرضي الله ورسوله
استحلفه أن يقبل ولا يحرمه الأجر، أبوه الحقيقي تكفل به ليصبح شيخًا فيدع أبوه الذي تبناه أن يكمل الناقص ويتكفل بتعليمه حتى يصل لما يحب ويرضى وينفع الناس بعلمه.
احتار سليم وشاركته عاليا الحيرة بجدية قبل أن تبتسم وتقترح «متحترش استخير يا سليم وربنا هيدلك»
استحسن القول والرأي السديد فابتهج وهتف بإمتنان «ربنا يخليكِ ليا يا عاليا ولا يحرمني منك، من غيرك مش عارف كنت هعمل إيه»
ابتسمت عاليا وقالت بمرح «يا سليم هو أنا جولت حاجة»
رفع كفها لفمه ولثمه قائلًا «ولو مجولتيش كفاية سمعتيني وشاركتيني التفكير والرأي» اقترب منها فابتعدت متراجعة قبل أن تنهض قائلة بإرتباك «هتذاكر ولا هتنام؟»
قال بخيبة ملأت ملامحه لكنها لم تتسرب لنبرته «هذاكر شوية يا عاليا نامي أنتِ»
تثاءبت قائلة وهي تخرج من الحجرة «تصبح على خير»
**""""""""""
في اليوم التالي
تتبعت خطاه حتى رحل للمسجد، ودعته بابتسامتها الحنون ولطف نظراتها ثم جلست جوار والدته تسأل «عمتي هنعمل إيه غدا؟» نظرت لها السيدة بإمعان ثم ابتسمت قائلة «أبرار هتعمله أنتوا غداكم فوج»
انحشرت ابتسامة عاليا في جدار الرفض وهي توضّح بضيق «لاه هنتغدى معاكم هنا وعلطول مش هناكل لوحدنا تاني»
تسألت السيدة بعجب «ليه يا بتي أنتوا لسه عرسان خليكم براحتكم»
اعترضت عاليا بلطف «لاه ناكلوا مع بعض كلنا مفيهاش حاجة»
قطبت السيدة منزعجة تسألها بضيق «سليم الي جال يا عاليا؟ هو الي مش راضي؟»
أجابتها عاليا بإبتسامة دافئة «لاه متكلمش أنا الي عايزة كده، أنا مش جاية عشان أفضل لوحدي فوج ولا نبعد وناكل وحدنا»
ابتسمت السيدة بإندهاش وإعجاب ونظراتها تستقر فوق ملامح عاليا الصادقة، فقالت «لما تكملوا شهر زي كل العرسان»
احتدت نظرات عاليا قيلًا وأخبرتها بتهديد لطيف «خلاص تطلعوا تاكلوا معانا، لا تبعدوا عن سليم ولا هو يبعد عنكم»
تدخلت أبرار ممازحة «زهجتي من الشيخ ولا إيه؟»
ابتسمت عاليا وأجابتها بمحبة «جنبي ومش عارفة أشبع منه هزهج؟»
ضحكت أبرار قائلة «سيدي يا سيدي»
نهضت تُعلن المساعدة«تعالي يلا نجهز غدا قبل ما الوجت ما يسرجنا»
قبل أن ترحل وجّهت نظراتها للسيدة برجاء خجول «لما الخطبة تبدأ ناديني يا عمتي اسمعها»
أومأت والدته مبتسمة برضا، فانسحبت عاليا بصحبة أبرار وبعد قليل علا صوت ميكرفون المسجد فتركت عاليا ما بيدها وغسلتها ثم ركضت للخارج بلهفة طفلة، جلست جوار والدته قرب النافذة تستمع بفرحة وتنصت بإهتمام ومحبة لا تفوّت حرفًا، تبتسم منعزلة ومنشغلة بسماعه لا ترى نظرات والدته المتعجبة المنبهرة ولا ابتسامة أبرار ودموع عينيها.
تهمس بين الحين والآخر بهيام «ماشاء الله ربنا يحفظك يا حبيبي» وأبرار ووالدتها يطالعان بعضهما بذهول، حتى انتهت الخطبة وعادت هي من شرودها.
بسرعة غادرت وتوضأت أدت فرضها وخرجت تنتظر مجيئه ، تهللت بدخوله ونهضت تستقبله تحت نظرات والدته المبتهجة «حمدالله على السلامة»
ابتسم هامسًا برضا «الله يسلم جلبك يا ست البنات»
دخل وقبّل كف والدته وجاورها، وجلست هي قريبًا منه تتأمله بإعجاب متلهفة لأي طلب منه أو كلمة تخرج من فمه لها.
«جوم غيّر يا ولدي وتعالى نتغدى»
نهضت عاليا في أعقابه، وجدها خلفه فسحبها وأمسك بكفها وصعد.
جلست أبرار جوار والدتها تشيّع مغادرتهما مؤنبة والدتها «شوفتي عاليا يا أما بتحب سليم كيف؟ كنتِ هتجيبي مين يحب سليم كده»
هزت والدتها رأسها مؤكدة بندم حارق «صُح يا بتي، سليم طيب وهي طيبة ومتعلجة بيه»
بعد قليل تحلقوا حول الغداء، كانت أول من تحدث وقطع الصمت أبرار «الخطبة كانت حلوة يا سليم النهاردة» ثم لكزت عاليا ممازحة «عاليا مفوتتش كلمة متهيألي حفظتها»
طأطأت عاليا بخجل معترفة لهم «مفوتش خطبة للشيخ سليم جبل كده عشان أفوتها دلوك»
صاحت أبرار «يا سيدي عالحب»
ابتسم سليم في صمت قابلت نظراته بنظرات والدته الراضية فتنهد براحة، لتميل أبرار وتهمس لعاليا «الخطبة عجبتك لدرجة جولتي ربنا يحفظك يا حبيبي»
توردت عاليا بخجل وحرج فنهرت السيدة ابنتها «بت يا أبرار اعجلي وابعدي عن عاليا»
خبأ سليم تأثره وحافظ على ثباته وصمته بينما قالت أبرار بغبطة «خدتي جلب الشيخ وأمه هنيالك، الي يرضي الشيخ ياخد حبابي عنين أمه»
صمت سليم كعادته، رزينًا هادئًا وخجولًا، انتهى الغداء وساعدت أبرار ثم جلست جواره، استأذنتهما والدته لترتاح قليلًا وانشغلت أبرار بدراستها، فنهض سليم «يلا بينا يا ست البنات، قريتي الكهف؟»
قالت بحماس «بالليل نسيت؟»
أجابها وهو يخبي ابتسامته «مبفتكرش غيرك الصبح»
دخلا الشقة وأغلق خلفهما، سألته وهي تترك كفه وتتجه للمطبخ «تشرب حاجة؟»
قال وهو يتجه لحجرة الدراسة خاصته «اعملي حاجة سخنة وتعالي ياعاليا»
تسللت للمرحاض لتأخذ حمامًا دافئًا تزيح عن جسدها آثار عملها بالمطبخ، بعدها ارتدت ملابس بيتية مناسبة وتشبه مزاجها الرائق وصففت خصلاتها، رشت عطرها المفضل وأظهرت شفتيها بلون وردي ناعم ثم خرجت تصنع له ما يحب..
*******
بعد مرور أسبوع «مساءً»
دخلت عاليا الشقة تبحث عنه فلم تجده، قطبت مندهشة فهو صعد أمامها للأعلى أين ذهب؟، تنقلت بين الغرف حتى وقفت داخل حجرتها منبهرة، كتمت شهقتها بباطن كفها وهي تتأمل الفستان الأبيض الرقيق المفرود فوق التخت بنعومة وجواره مكملاته، أمسكت بالورقة الموضوعة جوارهم بقلب خافق وفضتها بلهفة
«حق اختيار توقيت دخولك بيتي كان من نصيبك وبقرارك، وحق اختيار توقيت دخولك حياتي والاكتمال بيكِ من نصيبي وبقراري.. اسمحيلي يا عالية المقام يكون الليلة... سبتك تلبسي الفستان ومزعلتكيش وأنا فاهم نواياكِ، الفستان واليوم والحفلة ميهمونيش، الفستان الي عايز أشوفك بيه قدامك والحفلة خاصة بيا أقضيها معاكي زي ما أحب، مستني رسالتك لما تجهزي»
جلست قليلًا تستوعب ما يحدث، نفضت رأسها لا تصدق أن هذا هو سليم بسرعة وقفت راكضة متجهة ناحية المرحاض، تحممت وخرجت لتكون عروسًا كما طلب، عروسًا بلمساته هو وكما يحب، بليلة خاصة جدًا..
شكرت في نفسها سكن وتوجيهها لها ومساعدتها في التواصل الخاص مع تقى طبيبتها التي يمكنها البوح لها وطلب المساعدة دون حرج أو خجل والحقيقة ساعدتها الجلسات كثيرًا في هدم الحواجز والتقرب من سليم وتقبل الواقع في وقت قصير، وزوجة عمها دائمة الاتصال بها واحاطتها برعايتها ونصحها بمودة مما سهل عليها الكثير في وقت قصير.
ارتدت الفستان الناعم رقيق التصميم ووقفت منبهرة عاجزة عن وصف جماله وابرازة جمال قدها الممشوق، دارت تتأمله بضحكة متقطعة قبل أن تقف وتنثر زخات من العطر الذي اختاره ويريده الليلة.
فردت شعرها الطويل المجعّد خلف ظهرها وكم تمنت لو تمتلك الوقت لتسويته بمكواة الشعر لكن لابأس.
زينت ملامحها برقة ثم توقفت تطالع وجهها برضا وهي تلتقط أنفاسها بقوة ثم تزفر في محاولة بائسة للسيطرة على انفعالها.
زفرت بقوة وهي تمسك بهاتفها وتراسله «سليم أنا جاهزة»
ابتسم وراسلها «نبدأ على بركة الله يا ست البنات؟»
«استأذنتي والباب مفتوح يا سليم»
«يبقى هسمي الله يا عاليا وادخل»
وخرجت من الحجرة تحاول السيطرة على ارتباكها ورعشة جسدها، انتظرته حتى فتح الباب وخطا للداخل مُغلقًا خلف، أخفضت رأسها بخجل فتقدم منها منبهرًا بطلتها الملائكية.. يتأملها كلها وهو يخطو تجاهها بلطء، حتى وقف أمامها لا يفصل بينهما الكثير... «ماشاء الله اللهم بارك»
رفعت له عينيها في نظرة خاطفة وجسدها يرتجف وأنفاسها تعلو.
أمسك بكفيها هامسًا «خايفة ليه؟»
همست «مش خايفة بس»
ترك كفيها وضمها لدفء صدره، احتواها بين ذراعيه بصمت، دس أنفه بتجويف عنقها ثواني ثم مرره على كتفها مغمض العينين يهمس بإعجاب«ريحتك يا عاليا»
ملّس بكفه على خصلاتها الطويلة مستحسنًا تركها له طبيعيًا «بحبه بطبيعته إياكِ تلعبي فيه»
سألته برقة «اشمعنا النهاردة»
ابتعد يهمس وهو يداعب ذقنها الناعم بأنامله «زي النهارة اتولدت يا عاليا»
تخلت عن خجلها وعانقته بعفوية هامسة «كل سنة وأنت طيب»
ثم ابتعدت تعاتبه بمرح «مش الاحتفال بيه حرام»
همس وهو يلف ذراعه حول خصرها ويجذبها لحضنه «حرام إني عايز اتولد بين إيديك مرة كمان؟ حرام إني فنفس اليوم أحب أشوف الدنيا من حضنك ولا حرام اني مرة اتولد ببكي ومرة عايزها اتولد بضحك »
همست في توهة وهي تذوب كليًا من كلماته «سليم مش عارفه أرد»
رفعت ذراعيها وعانقت رقبته بهما فهمس وهو يتحرك بها «مين جال عايزك تردي، الليلة عشان أنا أتكلم بكل اللغات وأنتِ تسمعي ولما تحبي تتكلمي أنتِ اختاري ليلتك وبلغيني»
عضت شفتيها بخجل فهمس وهو يمد أنامله ويحررها من بين أسنانها رافضًا «ممنوع يا عالية المقام»
ابتسمت وحررتهما فرفعها قليلًا ودار بها وهي بين ذراعيه، توقف أخيرًا يلهث تحرك بجسدها راقصًا رقصتهما الرومانسية فهمست «بتعرف ترجص سلو يا شيخ»
ابتسم قائلًا بفخر وهو يمسك كفها فتدور حول نفسها «شيخ في الجامع وهنا فحضن عاليا سليم، سليم الي يحب إن مينجصش حبيبته حاجة ولا تتحرم من حاجة أبدًا والي كان شايلها هي وبس كل حاجة»
توقفت عن الدوران وعادت لأحضانه تتمايل بين ذراعيه على دقات قلبه وإيقاع أنفاسه ابتسمت بحياء لذيذ فضمها بقوة لصدره هامسةً «هنا فحضنك أنا قررت أعيش الي معشتوش يا عاليا، وأجرب معاكي كل حاجة»
همست بتأثر «وأنا يا سليم،بس كنت خايفة متدنيش الفرصة دي»
ابتسم لها يهمس بفهم «عارف وفاهم وحاسس، فقررت أفهمك بطريقتي إن كل الفرص بين إيديكِ وسليم معاكي غير»
همست بعاطفة «بحبك يا سليم»
همس بإبتسامة حنون «ليلة ليا بطريجتي وليلة ليكِ بطريجتك زي ما تحبي بجى تركي هندي مصري»
همست بخجل «موافقة»
لم تشعر أثناء رقصتهما أنه شغلها وتحرك بها تجاه حجرتهما حتى سمعت صوت إغلاق الباب بقدمه همس يلهيها عن خوفها «مش حابب مسلسلاتك التركي دي»
زمت شفتيها بإعتراض «مش هتخليني أسمعها»
أجاب بإبتسامة واسعة «لاه يا عاليا مش هتسمعيها تاني، هتعيشها فحضني»
مال يلثم شفتيها ووجهها بقبلات رقيقة ناعمة، يختبر معها المشاعر الأولى للقرب، يمهد لها الإقتراب ويغرقها بحنوه ورقته، حين شعر بإستجابتها الخجول وذوبانها واصل بإتقاف وصبر والمزيد من الشغف والعشق.
**********
في منزل حمزة
جاور والدته فسألته وهي تتابع سكن بنظراتها المهتمة «مال مرتك يا حمزة؟»
ضحك قائلًا وهو يتابعها بنظراته الدافئة «من بليل تبكي وتجول هتحبوا العيل أكتر مني»
كتمت ورد ضحكاتها فقال حمزة وهو ينظر بأفكاره للماضي «هرمونات هتطفح علينا يا ورد، من جنانها لعفريتها لهرموناتها ويا جلبي لا تحزن» قهقهت ورد وهي تربت على كتفه في مؤازرة وحنو، تذكره «بلوتك وحبيبتك وأم العيال يا حمزة»
تناول كوب الشاي مرتشفًا منه مُعلنًا استسلامه «ماشي ربنا يصبرني»
واسته ورد بمرح «الشيلة التجيلة للرجالة يا حمزة»
قال حمزة ومازالت نظراته عند زوجته الجالسة تنقر فوق هاتفها بإنشغال «هسافر للمطعم ولإبراهيم»
ابتسمت ورد بتفهم ثم سألته «وبلوتك هترضى؟ تجعد من غيرك»
قطب قائلًا بتفكير «ربنا يهديها»
مصمصت قائلة بتهكم «والله يهديها؟ تشتكي منها ودلوك عينك هتطلع عايزه تسيب التلفون وتاجي جارك، تجول يهديها وأنت مش جادر تمشي وتسيبها»
ضحك قائلًا وهو يضمها مشاكسًا «جلبك أبيض يا أم حمزة، مش دِه اختيارك والي كنتِ عيزاه ارتحتي»
تركته ورد ونهضت قائلة «أيوة هاتولي أنتوا بس عيال ومالكمش صالح»
شاكسها حمزة بمرح «هتبعيني لبت أخوكي بعيل يا ورد دي أخرتها»
أجابتهوهي تنظر لعينيه بسعادة «خلصت مهمتي معاك وسلمتك ليها والشهادة لله هي مش مجصرة يا حموزتها»
تركتهما ورد وصعدت لحجرتها، فترك حمزة ما بيده واتجه ناحية سكن «مشغولة عني فأيه يا بت؟»
رفعت وجهها من على الهاتف تضم شفتيها قائلة «عايز مني إيه يا دكتور البهايم؟»
سحب الهاتف وأغلق النوافذ المفتوحة وجلس جوارها يضمها لصدره قائلًا «هسافر مصر يا سكن يمكن أخد شهر رمضان هناك» ابتعدت تطالع عينيه ونظرته المستكينة قبل أن تنهض منتفضة وتنفجر صارخة «تروح فين وتجضي رمضان فين؟ دا أنت يومك لون بهايمك »
كتم ضحكته وتزعم الجدية قائلًا «بت اتأدبي»
ضمت شفتيها بغيظ وهي تدفعه بعيدًا قائلة «أنا زهجت منك خلاص رايحة لأمي»
أنهت كلماتها وصعدت للأعلى في عزم فاستوقفها مستفسرًا «طيب وطالعه الأوضة ليه هترجصيلي رجصة الوداع ولا إيه؟»
استدارت مزمجرة في غيظ منه توضح «هجيب هدومي»
رفع حاجبه وقال بتسلية وهو يقترب منها «الهدوم الي أنا جايبها هتاخديها ليه»
تنفست بسرعة قبل أن تتحرك وتتجاوزه قائلة «خليلك هدومك يكش تنفعك»
خرجت من المنزل قاصدة منزل والدتها وهي ترغي وتزبد وهو خلفها يتابعها، دخلت فوجدت جدتها أمامها تتعكز على عصاها، دخل حمزة خلفها فتراجعت للخلف ممسكة به تقول «أنت جاي ورايا ليه» ابتسم قائلا «جاي بيت عمتي مجيش»
نظرت لجدتها بقلق وتوجس في خوف من كلماتها ومهاتراتها التي تزعج حمزة وتحزنه، فقالت «امشي»
رفض بعناد «لاه»
ما إن نطقت جدتها باسم خالها حتى زفرت بقوة وسحبته للخارج قائلة «يلا بينا من هنا» شد على ذراعها متعجبًا من قرارها «إيه مش فاهم؟»
وضّحت بضيق «جدتك هتزعلك أنا عارفة ومش ناجصه خناج ووجع جلب، متهيألي فمرة هضربها والله»
ابتسم بحنان وتقدير لإحساسها به ومحافظتها على شعوره «يلا بينا يا سكني نتخانج فبيتنا»
***********
اعتادت توبة أن تتخذ طريق الحقول للوصل إلى بيتها، تحب السير وسط الزرع والنخيل، لمعت عيناها بظفر وتوهجت حين رأته في وسط حقوله،ألقت عليه سلامًا عابرًا في تجاهل كأنها لا تعرفه وسارت خطوتين أو ثلاثة عقلها كان مشغولًا بتلك الرسالة التي تحملها له «الحشرية»
وصلتها فوقفت تضرب الأرض بقدمها مزمجرة تثير العواصف الترابية حوله قبل أن تستدير وتهتف «طالما وجفتني اتحمل»
ضاقت نظراته وتوقفت عليها في صبر وتحدي فتابعت بغيظ «أبرار بتجولك هي مش هتتجوز جوز صحبتها»
هتف وهو يشيح بعيدًا في تجاهل «أنا كلمت أخوها، يعني كلامي مع رجالة مش معاكي»
تأففت بصوت مسموع ثم قالت «هي جالتلي أجول لأختك بس بما إني حظي العفش وجعني فشوفتك فخلاص»
هتف ببرود حتى ترحل وتتركه «ماشي»
لكنها تابعت بغيظ «أنت دايمًا اختياراتك زفت»
صاح بغضب «امشي يا توبة مش ناجصك وبطلي تتكلمي فالي ميخصكيش»
أردفت بلا مبالاة مستهزئة به «أبرار صاحبة سما صاحبة سكينة بتلف فنفس الدايرة مش عايز تطلع منها»
أصابت كلماتها شيئًا بداخله فصمت بإنفعال مكتوم وضيق رسمت حدوده النظرات.
اقترحت بهدوء مغيظ محاط بنبرة ساخرة «ما ترجع لسما، أو أجولك امشي إرجع تاني السعودية حلوة، أبو اختياراتك الزفت»
ضرب هشام كفًا بكف رغم ما يعتريه من غضب «أنتِ غريبة» وقف أمامها ينظر لعينيها بقوة قائلًا«أنتِ مالك باختياراتي يا توبة؟ ولا ألفّ فدايرة أو مستطيل حتى، اش حشرك أنتِ؟ عاملة نفسك شيخة وأنتِ بتجفي تتكلمي مع راجل غريب وتجوليله اختياراتك»
اتسعت عينيها وتراجعت خطوة تسيطر على انفعالها وحرجها، أخفضت بصرها لا تتأهب سوى لتجرع الندم من بين كؤس كلماته، شعر بانتصاره عليها فتابع «لولا إنك صاحبة أختي كنت روحت لأهلك»
لم يبتلع النقاب شهقتها المتفاجئة وذهولها لكنها تماسكت وقالت بسخرية واستهانة عمياء البصيرة «متوقعة منك أي حاجة وعارفة أنك تعمل أكتر من كدِه»
استفزته بشدة فصرخ بها «امشي ولو اتكلمتي معايا تاني هروح لأهلك عشان مخيبش ظنك»
رغم ارتعادها من نبرته وقسوة نظراته، رمقته بإشمئزاز واستدارت راحلة، سمحت لدموعها بعد خطوات بالتقافز والإندفاع ولسم الندم الذي ارتشفته أن يسري في شرايينها ويقتلها ببطء، عادت للمنزل وانعزلت بحجرتها، خلعت خمارها ونقابها وجلست تخفي وجهها بين راحتيها باكية في ندم، تتجنب الإلتقاء به حتى لا تُخطيء، حتى لا تتجاوز لكنها تندفع وتفعلها بحماقة كبيرة، شيء يسيطر عليها ويقودها ويخنق بصيرتها بإشتياق مذاقه مر وتركه عذاب... كل المساء تعاهد نفسها ألا تضعف، أن يعلق اسمه في الحلق وإن استقر يكون موضعه فوق سجادتها ليلًا.. أن تُخفيه بين طيات نفسها، جاد عليها زمانها بحبًا عفيفًا كوردة نضرة فخبأتها بين طيات نفسها حتى ذبلت لكن ظل عبقها فيها وفي النفس التي احتضنتها، تزوج ولم تفقد الأمل، الشمعة تصغر ولا تنتهي حتى طلقها وعاد حرًا طليقًا وتجددت في النفس الآمال... تراه فتفقد السيطرة تبوح بما يغيظها منه وبين كلماتها حبًا مس شغاف القلب تتمنى لو شعر به.
اليوم وخز ضميرها وكان إشارة لها بألا تتمادى أكثر ولا تنسى.. الإندفاع الأهوج وجرأتها ليست من طبيعتها لكنها أمامه تفقد كل شيء.. لكنها نادمة بحق ومتوجعة من جرأتها.
أبدلت ملابسها بأخرى وصلّت فرضها ثم جلست تدعو الله الثبات وألا يميل قلبها ولا تخطيء، وأن يعينها على شيطانها فلا يتمكن منها..
*********
عاد للمنزل واجمًا شارد الذهن، في بئر عينيه أسرار تتعلق بدلو الحزن، أبدل ملابسه وجلس أمام المنزل يفكر فيما قالته له توبة، اليوم صفعته بالحقيقة تلك الغيمة السوداء.. جاورته ورد بحنو، ضمته بنظراتها وسألته «مالك يا ولدي جاعد لوحدك كدِه حتى مكلتش معانا»
تنهد بحزن أسر فؤادها فانتبهت له بإشفاق ومنحته ابتسامة مشجعة ليبوح بما في نفسه ويحكي لها ما حدث بالتفصيل..
حين انتهى اعتذر منها بشدة، هو وعدها يومًا أن يكون صريحًا معها وهي وعدته حسن الإصغاء والمشورة والنصح والتفهم.. ابتسمت لتطمئنه ثم انقلبت الابتسامة لضحكة فنظر إليها ببلاهة، ربت على كتفه قائلة «أجولك تعمل إيه؟ وتسمع كلامي»
قبّل كفها بمودة وامتنان وهو يهز رأسه بتأكيد فقالت «روح خبط على بابها واختارها هي...»
استنكر قولها بدهشة «كيف يعني؟»
أوضحت ورد بضحكة متسلية «مش اختياراتك غلط اختارها هي وتورينا هتجول إيه على اختياراتك»
ضحك هشام بإستمتاع لا يصدق قول عمته ولا تلك المكيدة التي لاقت استحسانه ورغبته في ذات الوقت فلما لا تكون تلك الحشرية زوجته.
توقف بعبوس عن التفكير يسأل عمته «هيوافجوا..؟»
منحته الفخر في قولها والشجاعة من نظراتها قائلة «إيه يعيبك؟ هيلاجوا أحسن منك فين» ثم همست بفطنة وبنبرة أثارت فيه الشجن «أحسن الندم هتلاجي التوبة»
تراجع بجزعه مصدومًا يتأملها بإرتباك فابتسمت وهزت رأسها تؤكد ما وصله
لتقترح بعدها «أنا هروح معاك وهناخد عمار معانا» سألها بفرحة لمعت بنظراته «صُح هتروحي معاي؟»
أكدت بمرح «أمال..دا لوعُزنا «رغبنا» هناخد سليم معانا واسطة كمان»
لثم ظاهر كفها شاكرًا «ربنا يخليكِ ليا يا عمتي وميحرمنيش من وجودك يارب»
ربتت ورد على رأسه مبتهجة لأجله ثم قالت «جوم أنا مكلتش عشانك يلا نجهز الوكل وناكل تلاجي أمك نامت»
قال مندهشًا وهو يساعدها على النهوض «مكلتيش عشاني أنا»
قالت بمرح وهو تسير معه تجاه المنزل «أيوه مجدرتش أكل وأنا شيفاك حزين وجيت من الزرع مسهّم «ساكت» ومش رايج زي عادتك»
قال بصدق نبع من مودته الحقيقية لها «أنتِ أحلى حاجة حصلتلي يا عمتي والله»ابتسمت بصمت وقور وهي تتحرك معه تجاه المطبخ ليجهزا العشاء، هو يثرثر معها في الكثير وهي تستمع بإهتمام وتنصحه بحب وتوجهه برزانة وعقلانيه.
حتى أخبرته سهوًا بسفرهم القاهرة، فتوقف عن المساعدة وزفر بضيق شعرت به وابتسمت له، جلسا أرضًا بعدما افترشا الأرض ووضعوا الأطباق، شعرت بصمته وربطته بما قالت وصرّحت عن سفرها، قالت مداعبة في حنو ومرح «ليك الحج كيف حمزة تجولي اجعدي متمشيش ووجتها هجعد»
رفع نظراته وقد انجلى الهم عنها والحزن يسألها بضحكة متكسرة «ينفع أجولك يا عمة متسبنيش أنا محتجلك معايا؟»
منحته الخبز قائلة بمشاكسة «وإيه يجلل من نفعه يا واد عزام إلا لو خايف على الوكل بتاعكم مني»
ضحك هشام واقترب يضمها مقبلًا رأسها بتقدير فأوضحت له «مش عايزه أمشي من هِنا خلاص يا ولدي، عايزة أكون جارالحبايب كلهم، الغربة معادتش تليج ليا ولا أليج ليها»
سألها بحرج وهو يطأطئ رأسه «وحمزة هيرضى يسيبك؟»
ابتسمت لذكره الذي جلب الدفء لقلبها وقالت «مش هيرضى وهيزن ويتحايل زي العيال بس أنا وصلته لبر الأمان وفاضل أوصلك أنت»
ابتسم لها في امتنان وشكر، يغبط حمزة عليها ويحمد الله على وجودها الآن ودخولها حياته ليتغير كل شيء، تذكر عمه وعذره في حبه لهذه السيدة، ترحم عليه وعلى أمواتهم وواصل الحديث مع عمته والثرثرة في كل شيء وأي شيء التبس عليه أمره وعز عليه فهمه، استشارها فيما مضى وسألها عن رأيها فيما هو قادم، طلب منها المعونة ورجاها أن تنير له بمصباحها الطريق حتى يصل.
************
تابع زوجته حتى اختفت خلف الباب وبعدها أمسك بهاتفه ونقر فوقه منتظرًا إجابتها على «أممم مش اتفجنا طول ما أنا هنا متكتبيش ؟»
عاتبته بضحكتها الرقيقة «مفيش وحشتيني دا أحنا بقالنا كتير متقابلناش يا حمزة»
تنهد قائلًا «الي بينا أنا اتفجت عليه معاكي من الأول وحددته»
ضحكت بنعومة متفهمة ما يقول ومتقبلة له «حمزة أنا فاهمة بس غيابك عني طوّل وبجد وحشتني»
ابتسم بهدوء قائلًا«جاي أخد شهر رمضان عندك »
قالت بصخب امتلأ بحماسها «هستناك عشان نروح الدكتور سوى ونشوف البيبي»
ابتسم مؤيدًا «ماشي لما أجي نتكلم في الموضوع دِه»
غازلته بالكلمات وتدللت،حكت له عن أيامها والأحداث التي فاتته وهو يجيبها برزانته المعهودة وابتسامته المنمقة حتى دخلت سكن فانهى الاتصال «تمام يا هيما لما أحجز هقولك سلام»
جاورته سكن تستفسر وهي تدفع بجسدها لأحضانه «حموزتي كنت بتكلم مين»
تذكر فصبغت شفتيه ابتسامة رائقة وهو يُجيبها «إبراهيم»
نام لكنها مازالت مستيقظة تشعر ببعض الألم، أمسكت بهاتفه وفتشت فيه قليلًا لتتسلى وتطرد الملل فتحت آخر رسائله وفضتها لتنتفض جالسة في صدمة ألحقت بعشقها الهزيمة.. رمت الهاتف وصرخت توقظه من نومه.
استيقظ حمزة من نومه على نزاعها وأنينها الخافت وبكائها، اعتدل وحاول إيقاظها برفق مشفقًا عليها مما تعانيه «سكني في إيه فوجي أنتِ بتحلمي»
فتحت عينيها تتطلع حولها بتوهة وضياع، توزع نظراتها في الحجرة قبل أن تستقر على وجهه الشاحب وعينيه التي يطمس القلق جمالهما اللحظة وهو يحيطها بدفء، اعتدلت جالسة فضمها لأحضانه وهي على صمتها تتذكر الكابوس ومعاناتها.. استعادت وعيها وابتعدت عن أحضانه قائلة «أنت متجوز عليا يا حمزة؟»
استنكر قولها فتابعت متذكرة كابوسها «ومرتك حامل وهتروحلها مصر»
ضمها مبتسمًا يربت على رأسها بحنو هامسًا «مجدرش أتجوز غيرك معرفش أعملها يا سكني، والعيال الي مش منك مش عايزها»
توسلته بهمس «خلاص متسافرش»
أوضح بحنان «شغلي يا حبيبي مجدرش، أنا مش عارف هعمل إيه حاسس أمي عايزة تفضل هنا خلاص وأنا معدش ينفع أسيب جدي والجماعة ولا عاليا الي بجت مسئولة مني فهضطر ارتبها كل شهرين أخد شهر هناك»
همست دامعة «مجدرش أبعد عنك شهر»
لثم رأسها متفهمًا شعورها«ولا أنا ربنا يسهل ويدبرها» تسطح فوق الفِراش محتفظًا بها بين ذراعيها يطمأنها ويمنح السكينة لقلبها في كلمات حب تتدفق على شفتيه بسهولة وعاطفة شديدة حتى عادت للنوم من جديد.
في الصباح سألته ورد وهي تراقب أفعالهما «الكلام على إيه النهاردة يا حموزتها؟»
جلس حمزة جوارها يفرك رأسه بكفه يبوح بشيء من الحرج والاستياء «حلمت إني متجوز عليها ومرتي حامل وكل دِه كنت بستغفلها عشان عايز واحده هنا وواحدة هناك»
ضحكت ورد ضحكة رائقة قبل أن تقول «والله حلم زين جوي ومرتك التانية حبلى«حامل» فأيه يا حموزتهم؟»
ضحك حمزة وأخبرها «تصدجي نسيت أسألها المرة الجاية هجولها تحضر السونار معاها»
ضرب كفه بعدها بكف والدته وضحكاتهم تمزق الصمت من حولهما.
جاءت من خلفهما معترضة «مش اتفجنا تسبيلي حمزة»
قالت ورد تجاريها فيما تفعل «لاه لما تسلميني الأول أنا هسلمك إنما كدِه لاه مستغناش عن حمزاوي»
مالت ورد تجاهه لتغيظها أكثر، فدبدبت سكن بقدميها في إعتراض وغضب امتزج بسخطها، أدار حمزة رأسه لها قائلًا «اعجلي يابت المجانين أنتِ أبو هرموناتك»
تخطتهما وسارت في اتجاه منزل والدتها قائلة «رايحه لأمي ومتجيش ورايا»
نهض قافزًا وجاورها في سيرها فوقفت مكانها غاضبه «أنا جولت إيه؟ متجيش ورايا أنت جاصد عشان عارف هرجع لما تروح معاي عشان جدتي»
ضحك قائلًا بغمزة «تعالي بس جوليلي مرتي التانية حلوة؟كان واد ولا بت؟»
نظر لورد التي تتابعهما مُلقيًا بأمنيته «جبيلي أنتِ واد واسميه عبد الحكيم وهي تجيب بت واسميها ورد»
فغرت فمها تتابعه بغضب مكتوم وذهول ليردف بحالمية «المهم أوصفيلي مرتي يا سكن كِده.. حلوة؟ شكلها؟ جمرين وتخطف الجلب والروح،وشعرها؟ حلو وريحته حلوة ، عينيها؟ بشوف فيها نفسي صح.. هل يصفها هي أم يتمنى ما يريد أن تكون عليه الأخرى، نظرت لعينيه مستنجدة كغريقة تبحث عن الإجابة كطوق نجاة لكنه أخفاها وغمز لها ليؤكد أنه يفهم ما تريد فحجبه.. دفعته وعادت لتجلس جوار ورد تشكوه «شايفة وسامعة طيب خليه ياخدني معاه» اعترضت ورد «السفر تعب عليكي يا بتي وجعدته عفشة ليكِ»
اقترحت متوسلة «نسافر بالطيارة»
قال حمزة مُنهيًا الجدل «لاه فكراني سويرس من يوم ما عرفتك وأنا مشطب أول بأول آخر فلوس عملت مطبخ عاليا وجبتلها الأجهزة»
قالت بحماس «هحجز من فلوسي»
رفض «لاه أنا طول الوجت هكون في الشغل ومش فاضي أهتم بيكِ وأراعيكِ»
قالت برجاء «هروح معاك المطعم واستنى في المكتب»
قال بإستياء «لاه»
صرخت به «مصمم ومرتب شكلك متجوز صُح»
ضرب جبهته بيأس من هواجسها وشياطينها فشيعت دخوله للمنزل بقرارها «لو مشيت وسبتني ياحمزة مش هكلمك»
قال باستهانة، ساخرًا من قرارها «يا سلام تبجي عملتي فيا معروف لو صدجتي»
تركته وغادرت لمنزل والدتها باكية، فنهضت ورد ودخلت للمنزل قائلة «سبحان ما تولد مرتك يا حمزة» ابتسم حمزة لكنها أردفت بإنزعاج «والله وحتى لما تولد الحزينة هتجولك بتحب عيلك أكتر»
*******
في اليوم التالي مساءً
وأثناء وجودها بمنزل والدتها أرسل لها «معادنا الليلة يا حلوة فمكانا»
قفزت واقفة من جلستها تدور حول نفسها تحت نظرات الجميع المندهشة... لفّت حجابها وخطت تجاه الباب تناديها والدتها «هاتي حمزة وتعالي اتعشي»
لوّحت سكن بإمتعاض وهي تقف مكانها«لما تنام أمك، والله ما أجيب جوزي أنا يتهزج كل شوية»
ابتسمت راضية بحنو وتقدير قبل أن تقترح عليها سكن «جهزيه على صينية هاجي أخده، جدتي بتسد نفسه وتزعله يا راضية وأنا بتضايج»
قالتها سكن بحزن قبل أن تخطو للخارج متجهة ناحية منزلها، قبلت ورد وضمتها ثم صعدت للأعلى لتستعد.
ارتدت الفستان المعني باللقاء ولفّت حجابها، تخلت عن النقاب لعدم وجود أحد أضافت القليل من مساحيق التجميل التي تبرز جمالها وتزيدها فتنة، نثرت على جسدها العطر الذي يحبه ثم نظرت لنفسها برضا وانسحبت.. حينما رأتها ورد بالفستان ابتسمت ابتسامة جميلة فسألتها سكن «مش هتسأليني رايحة فين؟»
ضحكت ورد واسترخت قائلة بفطنة «لاه عشان عارفة إنك رايحة تحججي الحلم الي شوفتيه فالمندرة»
كتمت سكن شهقتها المتفاجئة وسألتها وهي تحملق فيها «عرفتي منين حمزة جلك؟»
أجابتها ورد بهدوء وهي تمرر أناملها على المسبحة «لاه مجالش بس أنا عارفة» تأملتها ورد بدقة قائلة بإعجاب «الفستان حلو عليكي زي ما شوفتك بيه يا سكن»
سألت سكن ببلاهة وهي تدور حلو نفسها «شوفتيني بيه؟»
صرّحت ورد بدهاء «شوفتك بيه فعملتهولك عشان تشوفي أنتِ بيه ويشوفك حمزة»
هزت سكن رأسها ببلاهة قبل أن تطرد الحيرة والشك وتسألها «مزعلتيش لما أديته لمودة؟»
ضحكت ورد وغمزتها قائلة «ليه أزعل هو كان شافك بيه خلاص في الحلم »
ضيقت سكن عينيها على ورد قائلة «مش ساهلة أنتِ يا أم حمزة»
ضحكت ورد قائلة «يلا يا سندريلا جبل الساعة ما تيجي اتناشر»
ضحكت سكن بشغف ولهفة قبل أن تخطو ناحية الباب متفاعلة بكل جوارحها مع اللحظة.
يجلس فوق السور يدندن، يهز رأسه مع نغمات فمه بطرب، سبقها عطرها إليه فأغمض عينيه وسحب ما يقدر من الهواء المحيط بهما وعبّق به رئتيه وهو يهتف «اتأخرتي كتير يا سكن»
جاورته هامسةً «متأخرتش جيتك في الوجت المظبوط يا واد خالي»
همس وهو يقترب بوجهه منها حد التلامس «عرفت ليه متجوزتش زهرة وليه جلبي جفل؟»
سألته وهي ترفع أناملها وتمررها على ملامحه «ليه يا حمزاوي»
لثّم جانب شفتيها وهو يأخذ من رائحتها أنفاسًا مسموعة «عشان كنت مستنيكِ»
نهضت وتحركت لتقف أمامه مستعرضة «إيه رأيك يا حمزاوي حلو الفستان؟»
تحرك تجاهها ببطء، دار حولها ثم وقف أمامها وأحاط خصرها مُقربًا لها «عينيا بتجول إيه؟»
نظرت فيهما بقوة قبل أن تبتسم وتهمس «حاجات كتير وكلها حلوة» أدمعت عينيها فرفعت أناملها لها تمنعها مما جعله يهمس «بتبكي ليه؟»
ضحكت موضحة له «مفيش»
ابتسم برقة وهو يمسك ذقنها ويقربها منه أكثر مداعبًا أنفها بأنفه هامسًا «الدكتورة جالت ينفع تسافري يا سكني»
رفعت ذراعيها وأحاطت عنقه في عناق سعيد وبهجة خاصة «الحمدلله مكنتش هجدر أبعد عنك»
أبعدها عنه وهمس وهو يلثم خدها وجانب شفتيها بعاطفة «فهمتي الدكتورة جالت إيه يا سكني؟»
هزت رأسها برفض وأنفاسها ترتفع ممتزجة بأنفاسه، أراح جبهته فوق جبهتها موضحًا «كيسين حمل يعني تؤام يا سكني»
شهقت بنعومة لا تصدق كلماته، ابتعدت تنظر لعينيه التي منحتها التأكيد والإجابة الصريحة، ضحكت بفرحة وتمايلت بإبتهاج، ابتسم وثبّت جسدها بأحضانه قبل أن يمنحها ما تريد وتتمنى بشغف وكرم لا ينتهي
*******
في الصباح
قبل استيقاظ زوجته، كان ينهض ويغادر للجلوس مع والدته التي جلست أمام المنزل ترتشف كوب اللبن مراقبةً ظهور الشمس... ألقى تحية صباح مُعبقة بقبلاته الحنون فوق رأسها وجلس جوارها بصمت قطعته هي «مش هرجع تاني مصر يا حمزة خلاص»
استنكر قولها وقرارها «ليه يا أمي أنا حياتي كلها هناك»
قالت بإقرار «وأنا حياتي كلها هنا جنب حبايبي يا حمزة وهكمل الي باجي منها هنا»
قال بحزن عتيق «بتصعبيها على حمزة كدِه»
وضعت كوب اللبن جوارها وربتت على كتفه مؤازرة له داعمة بفخر «مش بصعبها وأنت آن الأوان تستقر هنا يا حبيبي وسط أهلك وناسك وحبايبك، ربيتك وكبرتك عشان مستنيه الوجت الي تخلِف فيه أبوك»
عارضها بحزن «حياتي كلها هناك وشغلي، لا هجدر أجعد هنا ولا أجدر أمشي وأسيبك»
وضّحت ورد متفهمة «عارفة بس هتلاجي حل بإذن الله، أنت دلوك عكاز جدك يا حمزة وكبيرنا، ربيتك تليج بمكان أبوك ومكانته في جلوب الناس، وأنا مجدرش أسيب عاليا وحدها تاني معدش ليها غيرك وغيري وعمتك مجدرش اعتمد عليها يدي محتجانا زي عاليا وعيال خالك مجدرش أسيبهم فنص الطريج هما وعمار»
عاتبها بحنو «كل دول أهم مني؟»
ابتسمت مُربتةً على كتفه قائلة بتقدير «كل دول تحت جناحك دلوك مسئولين منك ومني الي فات مات بس الي جاي عايزينه زي ما اتمنينا يا جلب أمك، أنت خلاص أنا مطمنه عليك بس هما لا»
صمت لا يروقه الحديث منزعجًا للغاية، ضحكت قائلة «هتتجمص يا واد عبد الحكيم ولا إيه ؟ طول عمرك بتفهمني من غير ولا كلمة جرالك إيه؟ افهمني المرة دي ولا اتعديت من البجرة بتاعتك »
ابتسم وانحنى مُقبلًا كفها بمودة وتقدير «الدنيا كلها فكوم وأنتِ لوحدك فكوم، أفرّط فروحي ومفرطش فيكِ يا أمي سكن متملاش مكانك ولا تعوضني غيابك»
ربتت فوق رأسه بحنو، ثم مازحته بلطف امتزج بشفقتها «أنت مش هتلاجي مكان ولا وجت لحد يا حموزتها هي مش وراها غيرك أصلًا»
همس وهو يضمها لأحضانه «برضو بحبك أنتِ يا كل الورد مهما عملت ومهما ادتني كل حاجة ليكِ ومنك غير»
ابتعدت عنه قليلًا قائلة بحماس ونشاط «جوم نتمشى في الزرع يا واد عبد الحكيم جبل ما تصحى بلوتك»
نهض ولفّ ذراعها حول ذراعه قائلًا «يلا يا حبيبة جلب واد عبد الحكيم»
سار بها بين الحقول قائلًا «سكن مجالتلكيش حصل إيه عند الدكتورة؟»
أجابته بإبتسامة حنون، في قرارة نفسها تعرف ما سيقوله وخبأته عنهما حتى يعرفه بنفسه ويأتيها بفرحته «لاه»
قال بسعادة «فيها توأم يا ورد»
اتسعت ابتسامتها وقالت برضا «الحمدلله ربنا عوّض صبرك يا حبيبي»
قال وهو يهرش مؤخرة رأسه «لو طلعوا زيها هيطلع عيني»
ضحكت ورد بسعادة قبل أن تقترح عليه «أخد أنا عبد الحكيم وابعت ورد لراضية تجننها وخليلك سكنك »
قصّ عليها ما كان أمس منها «الليل كله تبكي وتجول لما أولد ولدني أنت، أنت مش دكتور بتولد البهايم خلاص ولدني في البيت عشان عيالي ميتبدلوش..»صمت قليلًا متذكرًا يحكي
«مذنباني الليل كله وتهديدات بالجتل والحرق عشان شاكه فيا إني هحبهم أكتر منها وهدلعهم وأسيبها»
قهقهت ورد بإستمتاع وقالت «مين غيرها كان يجدر يدي لحياتك طعم ولون يا حمزة غيّرتك وغيّرتها»
هز رأسه مؤكدًا كلمات والدته «صح يا ورد، أتاري الحياة من غيرها مكانتش حياة» سرى بينهما صمتٌ طويل ثم
أجلسها برفق فوق حجر صغري كبير موضوع بين قطعتي أرض وجاورها استنشقت ورد الهواء الطازج بقوة وزفرته هامسةً وشمس عينيها تشرق فوق ملامحه «كل الحب ليك والشوج لأبوك الغايب الحاضر يا حمزة »
#تمت بحمد الله
٢٠/٧/٢٠٢٤

ملاذ قلبي سكن حيث تعيش القصص. اكتشف الآن