❤️السابع عشر♥️

8.2K 269 7
                                    

♥️السابع عشر♥️
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
فضل الصلاة على النبي

***
نهض من نومه مفزوعًا جسده يتصبب عرقًا، يلهث بعنف من شدة ما عاناه من ويلات، نظر حوله يتأمل الحجرة كأنه غير مصدق أن ما عاشه اللحظة كان كابوسًا مروعًا شديد الرهبة، رمى الدثار جانبًا ونهض يسّعُل بقوة
اتجه ناحية الباب فتحه ليجد والدته أمامه تسأله بقلق :
(خير يا حمزة مالك يا حبيبي..)
مسد رقبته وهو يطالع والدته بنظرة ذابلة وجفون مرتخية :(كابوس يا أمي)
سحبته ورد من كفه للخارج ثم أجلسته وجلست بجانبه قائلة بحنانها المعهود :
(استعيذ بالله من الشيطان واذكر الله)
غمغم بما أمرته به وهو مغمض العينين،  سرد حُلمه على مسامع والدته الذي كان يشابه ما رأته سكينة و نظر إليها يطلب جوابًا وردًا يناسب كارثية تلك اللحظات التي عاشها مع سكينة في الواقع والحلم .
ازدردت ورد ريقها بقلق جاهدت ألا يظهر له فيزيده همًا وغم ثم قالت تصرف تفكيره :
(خير يا حمزة، ربنا ينجيها ويسلمها ويحفظها من كل سوء)
ربتت ورد خلف كتفه تشجعه قائلة :
(جوم اتوضأ وصلي قيام الليل وادعي ربنا يزيح الغمة ياحمزة ويفك كرب جلبك ويطمنه)
طبع حمزة فوق ظاهر كفها المرتعش قبلة دافئة ونهض متجهًا للمرحاض ليتوضأ، تلك السكينة لا تفارق عقله ولا تترك أفكاره، بين كل الكلمات في عقله لا يجد إلا كلماتها له، وبين كل الحروف لا يكرر إلا حروف اسمها كأنه تعويذة ساحرة ستنقله لعالم آخر حين ينطق به، عالم صنعه هو بخياله،عقله لا يستجيب لفكرة أنها ابتعدت وانتهى الأمر، بل يقف عندها دائما كأن حياته كلها اختزلها  فيها هي،أنه يتعذب ويلتذذ بالتفكير فيها، سمًا ودواء، لايفهم كيف ذلك.؟
تنهد بقلة حيلة تُكبله ،لا يعرف كيف ينتزعها من عقله.؟ كيف لأفكاره أن تستسلم و تهجر حبها الضائع وتكف عن جلده بالندم،توضأ وخرج ليجد والدته لا تقل همًا عليه وإن سعت لتخبئة ذلك عنه، لكنه يراه ويلمحه في نظراتها التي غامت بإنفعالات شتى منذ أخبرها... هتف حمزة وهو يمسك بسجادة الصلاة :
(حجزتلها عند دكتور كبير فأسيوط يارب يهتموا ويكشفولها)
انتبهت له والدته مغمغمةً بأسف وخيبة عظيمة :
(مش هيعمل حاجه الدكتور يا حمزة)
صدمته بقولها، فجلس مقتربًا منها يسأل بخوف تملّك منه :
(ليه هي فيها إيه.؟)
تنفست ورد بقوة، ثم قالت بتردد واضح :
(مش متأكدة وكنت عايزه أشوفها بس حاسة الموضوع أكبر من دكاترة يا حمزة)
صمتت مُفكرة تبعد نظراتها عنه مستغفرة، ثم عادت تطمئنه :
(سكينة محجوبة عني مش عارفة أشوفها بجالي مدة ياحمزة،  علشان كِده كنت عيزاك تجبهالي هنا)
رمش بعينيه في تيه، قبل أن يسألها :
(مش فاهم يا أمي)
أغمضت ورد عينيها قليلًا تصفي أفكارها لتُجيبه بحذر :
(بص يا حمزة سكينة فيها حاجه مش عارفه أفهمها ولا أوصلها، ادعيلها ربنا يحفظها وينجيها)
نهض خالي الوفاض، يحمل فوق ملامحه بؤس العالم وفوق كاهله يأسه، أفكاره لا ترسو على شاطىء الأمان، تُبحر دون هدى تلطمها أمواج القلق وتقسو عليها رياح الكدر.
********
بعد مرور يومين
ذهب ليرى إبراهيم المنقطع عنه منذ جاء، لا يجيب على اتصالاته ولا يأتي ليراه كعادته.. اشترى له بعض الملابس التي أعجبته في طريقه له والكثير من الحلوى للصغار، طرق الباب ففتحت له خالته منى وأدخلته مُرحبةً به، سألها حمزة بإهتمام :
(فين إبراهيم مختفي كِده)
مصمصت منى بإستياء وضجر من أفعال بكريها :
(معرِفش ماله يا حمزة جافل على نفسه ومشغلنا أغاني وعمال يصوت زي البنته، الله يهديه وجعلي راسي)
ضحك حمزة قائلًا يستأذنها الدخول عليه بعدما سحب حقيبة بلاستيكية في يده مما أحضره لهم :(هدخل أشوفه)
قالت منى تلومه على ما أتى به :
(ليه يا ولدي التعب دِه ما في كل حاجه الحمدلله إنت ممخليناش ناجصين حاجه)
قال حمزة وهو يمسك مقبض باب حجرة إبراهيم :(حاجه بسيطة يا خالتي)
دعت له منى بحرارة: (ربنا يحفظك ويراضي جلبك يا حمزة ويسترك دنيا وآخرة)
أمم خلفها وطرق الباب، زعق هيما بغضب :
(قولت سيبوني لوحدي مش بتفهموا.؟)
فتح حمزة الباب ودخل مُغلقًا خلفه، يرمقه بنظرة مستاءة وهو يعاتبه :
(بتزعج لأمك كِده.؟ إنت اتهبلت.؟)
لوى هيما فمه بإمتعاض، وهو يخبره بلا مبالاة :
(قولتلهم محدش يطقر عليّ)
سحب حمزة الكرسي وجلس فوقه يسأله بينما نظراته تتوزع في الحجرة المقلوبة :
(في إيه.؟ وإيه المزبلة الي عاملها دي.؟)
أشاح عنه إبراهيم ومازالت ملامحه تحمل النفور والغيظ، صرخ حمزة بوجهه :
(ما تتكلم في إيه.؟)
اقترب منه هيما قائلًا بغضب مستعر، نادبًا حظه وسوء اختياره :
(فركشت أنا والاكس)
استنكر حمزة بغيظ :(نعم يا روح أمك.؟ وفركشتوا ليه بجا.؟)
رفع هيما حاجبه مفكرًا قبل أن يحكي له بغيظ :
(متخيل الحقيرة كانت عرفاني مصلحة..؟)
شبك حمزة حاجبيه في عدم فِهم، منتظرًا أن يتابع تفسيره، فقال هيما :
(عرفتني علشان أعرفها عليك وتروح مطعمك وتتصور معاك)
ابتسم حمزة قائلًا :
(يبجا متستاهلش تزعل عليها جوم يلا)
ثم أمسك بالحقيبة البلاستيكية ورماها تجاهه قائلًا :
(شوف الهدوم دي مجاسك ولا لا.؟)
تلقف هيما الحقيبة بحماس بدد حزنه، فتحها وفض ما فيها مُعجبًا يقول لحمزة بشكر وإمتنان وهو يرتدي ما جلبه له :
(أخويا وحبيبي، ما تفسده المززه تصلحه الهدوم وحمزة)
ابتسم حمزة لكلماته وهو يتابع ويعاين ما يرتديه هيما بعناية، اقترب هيما منه قائلًا بغمزة:
(فداك المزة يا حمزاوي والله)
اضطربت نبضات قلبه على ذِكر تدليله الخاص، تذكرها فابتسم بمرارة،ركل أفكاره عنها وسأل هيما :
(الفلوس الي معاك خلصت ولا لسه.؟)
أجابه هيما بتقدير، متذكرًا خسارة حمزة الفادحة في مطعمه الجديد فقال :
(معايا كتير متقلقش )
قال حمزة له بمراعاة وحزم :
(هحطلك تاني تبقا معاك لغاية ما نرجع)
بهتت ملامح إبراهيم وإندفع يسأله بخوف :
(تيجي من فين.؟ إنت رايح فين.؟)
تنهد حمزة وهو يوضح له :
(جالي شغل فالسعودية تلت شهور فمطعم تبع واحد صاحبنا، يومين وهيطلع التأشيرة والورق)
قال هيما بصدمة مستنكرًا ما أخبره به:
(هتمشي.؟ وخالتي ورد وأنا)
أجابه حمزة بإشفاق وهو يراقب ملامح إبراهيم التي تبدلت من السعادة للحزن :
(هطلعلها تأشيرة عمرة وهتسافر معايا طول المدة واهو داخل رمضان تجعد هناك)
جلس إبراهيم ببؤس، صامتًا مطرق الرأس بحزنٍ عتيق، فترك حمزة كرسيه وأقترب يجاوره ضمه من كتفيه مشاكسًا :
(مالك يالااااا...؟)
رفع له هيما عينين يترقرق فيهما الدمع وهو يخبره:
(متعودتش على غيابك وكمان تلت شهور ومش هتسيب خالتي)
ضربه حمزة موبخًا يشاكسه بحنو :
(احنا خلفناك ونسينا ولا إيه.؟)
بكى إبراهيم متأثرًا لا يصدق أنا أبيه وأخيه وصديقه سيبتعد عنه، عاتبه حمزة :
(هو أنا ههاجر ولا هموت بجولك تلت شهور)
لم يقتنع هيما بكلماته وظل صامتًا مطرق الرأس، فتنهد حمزة يوضح له :
(محتاج دِه يا هيما، جلبي محتاج المكان هناك وراحته)
مسح هيما دموعه وقال بنبرة جافة :
(ماشي)
ازدرد حمزة ريقه وفكر قليلا ثم سأله بتردد :
(سكينة عاملة إيه يا هيما.؟)
كان حمزة يوقن داخله أنها ستتواصل مع ابراهيم مرةً أخر.
أجابه هيما متذكرًا بحماس وفرحة :
(اسكت)
ابتسم حمزة قائلًا ببعض المرح :
(سكت إيه.؟)
قال هيما بفرحة غامرة متشفيًا :
(اتخانقت هي وهشام)
انتبه حمزة لكلماته واعتدل يسأل بإهتمام :
(وبعدين.؟)
قص عليه هيما ما حكته له في أخر مراسلة بينهما، احتل الحزن نظرات حمزة وهو يقول :
(هي تحكيلك ليه؟)
قال ابراهيم وهو يهز حاجبيه بمكر:
(بقينا أصحاب،)تابع يغيظه
( قالتلي مقولكش وإني مفتنش عليها بس أنا فتان عادي)
ابتسم حمزة يوضح بسخرية :
(هي كانت فاكرة هتتجوزه وتعيش بعيد عنهم .؟) وبعدين ما تكلمه حسان ماهي خلاص منهم)
هتف هيما وهو يمط شفتيه بعدم فِهم :
(معرفش بقا، بس عايز الحق هي صعبت عليا ياحمزة بتعيط قوي، كل مكالمة)
التهم القلق راحته وقطب في إنزعاج مما يقوله هيما، ليوصيه حمزه :
(اتواصل معاها ومتسبهاش يا هيما)
نفخ هيما قائلًا بأمنية :
(يكش يطلقها واتجوزها أنا أهو اجيبها والله وأكيد بيها العزال الي عرفتهم)
ضحك حمزة على كلماته وهو يصفعه خلف رأسه، لكن هيما تابع هازئَا :
(هما الحلوين كِده ملهمش حظ)
تركه حمزة ووقف مقررًا المغادرة، سلّم على خالته وودعها ثم عاد لمنزله.
سألته ورد بقلق حقيقي :
(مش عارفه بُعدك دلوجت صح ولا غلط يا حمزة)
أجابها بتعب وحزن ملأ قلبه :
(محتاج الفترة دي أبعد ومفيش مكان أحسن من هناك، محتاج جوي يا أمي)
تنهدت ورد بقلة حيلة ويأس وهي تخبره بإستسلام :
(ربنا طلبك تجف فبيته وتغسل همومك ووجعك يبجا خير يا حبيبي)
تابع بحزن عميق الأثر على ملامحه :
(استعدي يا أمي أول ما يطلع الورق هنمشي)
قالت بإبتسامة مهزورة :
(على خير يا حبيب أمك)
*******'**'****
غادرت لدرسها غير مهتمة، ضاربةً بتحذيره عرض الحائط، فبعد ما حدث أمرها ألا تغادر المنزل ولا تخرج لأي سبب كان حتى يرى ماذا سيفعل في أمرها.
وقفت أمام محل الملابس الذي تقف عنده دائمًا متذكرة وقفتها معه هنا وابتسامته، حنانه وطيبة قلبه معها،تنهدت مُلقيةً نظرة أخيرة على الملابس المعروضة وغادرت.. شهقت بزعر وهي شعر ذراع قوية تسحبها لمدخل أحدى العمارات القريبة..
رفعت رأسها لتتبين صاحب الفعلة المشينة فلم تجد سواه هشام.. غامت نظراتها بالحزن
وهي توبخه بضيق بينما تفلت منه ذراعها:
(مش هتبطل العادة دي)
قال بشراسة وغضب شديد :
(مش جولت متطلعيش من البيت.؟)
هتفت في تمردٍ وعناد:
(جول براحتك أنا لسه بيت أبوي مش فبيتك ومش هسيب دروسي ومذاكرتي)
سخر منها بغلظة وهو يرمقها بإستحقار :
(وإنتِ الصراحة فالحة جوي فيها الدراسة)
صوبت كلماته الغليظة لصدرها كخنجر طعنها، لامته بنظرة حادة :
(متشكرة، بعد إذنك هروح الدرس علشان متأخرش)
قال بعناد وهو يرميها بنظرة مستهينة :
(طالما جولت مش هتروحي يبجا مش هتروحي)
هتفت منفعلة بغضب من قراراته التعسفية :
(في إيه.؟ لما أجي بيتك ابجا اتحكم براحتك)
أمسك أناملها وقام بلويها بين أنامله بقوة، كادت تفلت عنها شهقة امتزجت بصرخة ألم لكنه حذرها في قسوة (اتكتمي، دي علشان متعليش صوتك تاني)
اتسعت عيناها على ملامحه في خوف، خرجت نبرتها مرتجفة محطمة مثلها تمامًا :
(سيبني)
مال فمه بإبتسامة قاسية، وهو يميل هامسًا :
(لما تجولي أنا آسفة)
تألمت بشدة وكلما عاندت ضغط بقوة، حاولت التملص أو الصراخ لكن عينيه كانت تحذرها بعدم التمادي أكثر لو فعلت، كما أنا المكان لا يسمح لها بتلك الرفاهية،قال من بين أسنانه بحنق وهو يرى دموعها تهبط مستسلمة لألمها  :
(بتجفلي المكالمة فوش عمي.؟ اتهبلتي.؟ وتزعقي وتعلي فصوتك فكراني إيه)
دفعة جسده بذراعها الأخر وهي تصرخ في رفضٍ وإعتراض :(ابعد عني)
تركها ووقف يراقب هروبها، أمسكت أول الأمر بالباب الحديدي تتنفس بقوة، لا تصدق أنه تركها وأنها نجت بعدما عاشته وشاهدته في عينيه المظلمة، بعدها ركضت بعشوائية وعلى وجهها  كل آيات الفزع والمفاجآة، أكثر من سيارة كادت تصدمها لكنها غير مبالية تتمنى لو يحدث، أبواق السيارات نداءات العابرين وكل الأصوات تداخلت بعقلها... حتى وقفت تلتقط أنفاسها تستعيد وعيها ماسحة دموعها الغزيرة لترى بوضوح محددة وجهتها، استقلت  أول سيارة أجرة متجهةً للموقف الخاص بقريتها.. استراحت بعدما دفعت الأجرة، نظرت لأناملها متألمة مازالت حمراء تحمل أثر جنونه وعنفه، كلما دلكتها اشتد الألم فكتمت تأوهها وانسابت دموعها.
بعد مرور نصف ساعة كانت بالمنزل تركض لحجرتها، تشيعها مودة بنظرة غامضة لا مبالية
دخلت الحجرة واندست بين الأغطية تنتحب بقوة لاتستوعب ما فعله معها اليوم.
رن هاتفها فأخرجته من الحقيبة بعدما مسحت دموعها، وجدته هو فأغلقت الهاتف واستسلمت للإنهيار.
*********
سأله حسان هشام الذي كان يجاوره في أحد المطاعم القريبة من شقتهم التي اتخذها حسان للسكن بعد خروجه وعودتهم للقرية:
(عاملة إيه سكينة يا ولدي.؟ زينة.؟)
أجابه هشام وإمارات الرضا تعلو ملامحه منتشيًا بسيطرته الذكورية عليها :(كويسة)
وصاه بإهتمام أبوي:(خلي بالك عليها ومتقساش، هاودها دي لسه صغار)
حك هشام ذقنه النابتة قائلًا:(علشان صغيرة لازم تتشكم وتتعود على طبعي)
لامه حسان بنظراته الناعسة قائلًا:
(كله بالراحة والمحايلة والمسايسه)
هز هشام رأسه بعدم اقتناع، لكنه ساير عمه في كلماته، داخله موقن أن سكينة تحتاج لبعض الشدة في المعاملة لتستقيم، يشعر أنها مُدللة بعض الشيء وعنيدة، لا ترضيه أفعالها الطائشة ولا جنونها الغريب، لذلك اضطر للتعامل معها بحدة وقسوة اليوم ربما ترتدع ولا تكرر أفعالها ثانيةً.
هتف حسان وهو يسعل :(هروح مصر بكره)
انتبه له هشام مضيقًا نظراته فوق ملامح عمه بإستفهام نطقه فورًا:
(ليه.؟ في حاجه.؟)
ارتبك حسان قليلًا لا يريد مصارحته بالسبب الأساسي للسفر وهو رؤية ورد وأخته منى، اضطر لخداعه وتضليله :
(لاااه بس محاببش الجعده هنا،)
قال هشام وهو ينفث دخان سيجاره ونظراته تتحد مع قوله :(ارجع البلد وسطنا)
قطب حسان في ضيق يذكره ببنود الصلح :
(والاتفاج الي بينا وبينهم)
قال هشام بتحدي وشفاهه تميل ببسمة ساخرة :(يبلوه ويشربوا ميته)
استنكر حسان قول هشام ومقصده الكارثي :(وه كِيف عاد)
أوضح هشام بإستهانة ولا مبالاة :(لو خايف من حمزة فهو مش هيعمل حاجه وهيخافوا عليه يدخل السجن، ولو خايف من رفعت برضو مش هيجدر، وفلوسنا وأرضنا رجعتلنا)
صمت هشام ثواني مُفكرًا ليستطرد بغيظ :
(والي مع سكينة خلاص هيعتبر عندنا برضو ووجوده بإسمها مسألة وجت مش أكتر)
انزعج حسان من كلمات ابن أخيه، فصارحه :(مش مستريح لكلامك يا ولدي، أنا مش هخالف عُرف واتفاج لكلام رجالة وإلا نبجوا حريم عاد)
تضايق هشام من كلمات عمه والذي ظنه سيعينه على أفكاره لكنه قابله بالرفض القاطع لما يقول.
استغفر حسان في حزن ثم عاد ببصره له هامسًا بيأس وحزن مظلم داخل نفسه :
(لما جالي أبوك إنك زيي مصدجتش،بس لما جعدت معاك واتكلمنا وسمعت الي سمعته دلوجت اتأكدت)
صمت حسان ببؤس يزفر أنفاسه الملتهبة وهو يتابع بحسرة (لا المال ولا الجاه يساوو حاجه جدام طلة رضا من حبيب ولا جعدة وسط عيلة ودفا)
صمت هشام متجاهلًا ما يسمعه، فهو ليس بحاجه عظة رجل متهدم شاخ بذنبه وعشقة، تأكد ظن حسان وتقديره لشخصيته فابتلع باقي نصائحه قائلًا :
(هات عنوان خالتك مُنى)
أجابه هشام بلا مبالاة :(معرفش غير الجديم ودِه غيرته.. بيجولوا حمزة سكّنها جريب منهم)
لمعت عينا حسان بفخر وإعجاب، لينهض قائلًا(فيه الخير واد عبدالحكيم.. تربية ورد بصحيح)
مال فم هشام باستهزاء من إطراء عمه لحمزة، لكنه بدل نظراته المتجهة لعمه لإشفاق، فماذا ينتظر من رجل أُحرق وأضحى رمادًا
غادر حسان لا يعجبه ما يراه من ابن أخيه ولا نظراته التي يفسرها جيدًا لكنه يؤثر الصمت فليذق هذا المتعجرف ماذاق وإن لم يرتدع ستؤدبه الحياة يومًا ما.
**********
تجعدت ملامح راضية بتعبير كريه حاولت إخفائة بين طيات جمودها وهي تلمح هشام واقفًا أمام باب المنزل يستأذن الدخول،رحبت رغمًا عنها وهي تشعر بثقل غريب على صدرها من وجوده لكنها رحبت به :
(اتفضل يا ولدي)
دخل المنزل في أدب، مُلقيًا السلام مُحمحمًا :
(ازيك يا مرات عمي أخباركم إيه.؟ سكينة جاعدة.؟)
جلس فوق الآريكة القريبة في بهو المنزل وبجانبه راضية تخبره بحزن :
(موجودة بس تعبانة شوية)
قطب في ضيق ظنًا منه أن والدتها تصرفه بحجة مرضها أو أن الصغيرة تتهرب وتتعلل، لكن راضية أكملت تروي فضوله :
(تعبت جوي بالليل ووديناها الداكتور)
سألها بقلق :(خير مالها..؟)
أجابته راضية توضح بضيق في نفسها :
(سخنت وتعبت، في صدع فكف يدها)
أجلى هشام حنجرته بحمحمة، مرتبكًا من قولها، أخفض نظراته مُفكرًا ما كان يظن أن عبثه معها أوصلها لتلك الحالة والألم الشديد والتسبب لها بهذا، تنهد قائلًا وهو يرفع نظراته إليها بتوسل :(هينفع أشوفها.؟)
صمتت راضية متحيرة، ليرجوها هشام بقلق :
(هطمن عليها ومش هتعبها)
تعجبت راضية من اهتمامه وملامحه التي تبدلت للحزن فجأة، لاتدري متى ارتبط بفتاتها ليهتم. نهضت مستسلمة قائلة بتقدير :(هطلع أشوفها وأجيلك)
أومأ برأسه في صمت وتفكير، يتأمل المكان حوله بنظرات متأنية.
في الأعلى جلست راضية بجانب فتاتها تربت على خصلاتها وتلملمهم هامسةً بحنان :
(سكينة جوزك تحت وعايز يشوفك يا مّي)
تلوت سكينة في اعتراض وألم، عبست في حزن وتضيق جعل والدتها تهمس في شفقة :
(أجوله نايمة.؟)
هزت سكينة رأسها بالموافقة، نظراتها مثبتتةً على الحائط أمامها في إعياء وتعب.طبعت أمها قبلة دافئة فوق رأسها وانسحبت تخبره
هبطت رسائله لهاتفها عديدة متتالية، لكنها الآن ليست في حال جيدة ولا بميزاج رائق، مبهوتة تستوعب فعلته وعنفه معها، تشعر بروحها تنسحب منها وأقدام كثيرة تدفعها لحفرة ضيقة مظلمة، لهثت بعنف من مجرد التخيل، نهضت جالسة تلتقط أنفاسها
رن هاتفها باسم ما كانت تتوقع ظهوره في تلك اللحظة، كانت عمتها ورد تمنت أن تُجيبها وتُعلمّها بما حدث لها وحالتها، وبكت كثيرًا جدًا على مسامعها علها ترتاح.
توقف الرنين فبكت سكينة بحرارة وندم، تتطلع للهاتف بنظرات تملوءها الخسارة والحسرة, ورد لم تيأس أرسلت إليها رسالة أخيرة قبل سفرها ما جعل سكينة تتخبط وتضيع أكثر (وحشتيني يا بت جلبي، اصبري على المحنة بعدها فرج كبير جوي يا بتي، وأحفظي نفسك وصونيها، صلاتك وأذكارك مهمين، وابجي روحي نامي فالبيت لما تتعبي جوي لغاية ما يأذن ربنا)
رن هاتفها باسمه، ففتحت تجيبه بنشيج باكي :
(أيوة خير يا هشام)
تنهد براحة حين وصله صوتها، لكنه سرعان ما سألها بقلق :(إنتِ بخير.؟)
عاجلته بسؤال من بين بكائها :(إنتَ عايزني أكون كِيف بعد الي عملته.؟)
بررلها بغرور  :(أنا مجصدش ومفكرتش هتوصل لكِده)
هتفت بصوت عالي سرعان ما أخفضته حتى لا تتأزم الأمور  :(اهو وصل ينفع تسيبني دلوجت ياهشام)
شعر بالندم من فعلته، فقال يستميلها وينال رضاها:(متزعليش مني ياسكينة)
تنفست بقوة مبتلعة دموعها ثم هتفت بنفاذ صبر (ماشي تمام ينفع تجفل دلوجت)
قاله بهدوء :(طيب اهدي وهكلمك تاني)
أنهى الاتصال فرمت الهاتف جانبًا وانكمشت تضم ركبتيها لصدرها، تبكي بشدة وقد ضاقت عليها دنياها.
********
جلس منهكًا فوق الآريكة، طالعته والدته بنظرة مُحبة وهي تسأله بإهتمام :
(خلصت يا حمزة تجفيل.؟)
تمطأ قائلًا وهو يتثائب مُرهقًا :(أيوه الحمدلله خلاص)
مال حمزة ناحيتها يستعطفها بإبتسامته الخلابة :(نفسي فحاجه يا وردتي..؟)
ابتسمت قائلة :(خير الابتسامة دي بيبجا وراها كارثة)
ضم شفتيه يكتم ابتسامته ويمنعها من الظهور، فكر قليلًا ثم توسلها :(ينفع أشرب سيجاره.؟ مش عايز أعملها من وراكي)
زوت حاجبيها بضيق، ثم هتفت بغضب :
(هو إنت بتشرب أصلًا يا حمزة)
اعتدل مرتبكًا، تهرب من نظراتها قائلًا بكذب:
(لا)
خُفها كان له بالمرصاد، ليهتف متألمًا وهو يفرك ذراعه المصاب (أيوة أحيانًا).
هتفت بإنزعاج وهي تشمله بنظرة حائرة :
(شكل مزاجك رايج وبتدلع عليا ياحمزة)
سحب كفها وقبله عدة قبلات متتالية وهو يدللها قائلًا:
(أمال اتدلع على مين يا وردتي دِه إنتِ حبي الأول والأخير)
همست بمكر وهي تضربه بخفه فوق رأسه :
(الأول بس مش الأخير، بكره تتجوز وتدلع على مراتك)
عبس يمط شفتيه مستنكرًا :(هو إنتِ لسه عندك أمل ولا إيه.؟)
مالت تنظر لعينيه بنظرة ثاقبة وهي تهمس بيقين وابتسامة حنون:(الأمل فالله وحده، ربنا مش هيخذلني فيك ياحمزة أنا واثقة)
لثم باطن كفها متنهدًا بحرارة، ليشاكسها من جديد وهو يرفع نظراته إليها بعتاب :(كان مالنا ومال قنا وناسها ياورد كنا راضيين ومرتاحين، لو سبتيني أتجوز زهرة كان زماني مخلف دلوجت)
أسفت لأجل عتابه الرقيق الصادق رغم المشاكسة والابتسامة التي بينت عكس ذلك، فقالت تلومه (أبوك جالك إيه.؟اصبر بعد الصبر جبر)
قال بمزاح وهو يبتعد متمددًا فوق الآريكة الواسعة :(ياخوفي تلبسوني فحيط إنتِ وأبويا ويطلع لا فيها سكن ولا حاجه ومطبخينها علشان غرض فنفسكم وأطلع أنا المغفل.. ولا تكونوا بتهزروا معايا زي فيلم أحمد عز)
قهقهت ورد قائلة وهي تنهض واقفة :
(ماشي يا مغفل لو فضلت عايشه لغاية ما تنول سكن هفكرك ولو موت هتيجي تجولي)
انتفض من استرخائه هامسًا بحزن :
(بعيد الشر عنك يا أمي ربنا يديكِ الصحة وطول العمر وميحرمنيش منك أبدًا)
علا صوت أذان العصر فأشارت له بحماس :
(جوم يلا اتوضا وصلي يلا)
نهض على الفور، مرددًا خلف الأذان داعيًا الله أن ييسر أموره ويصلح له الحال.
*******
هناك رن هاتف مودة فطالعت اسمه على شاشة الهاتف بتردد لأول مرة، ليست بتلك اللهفة التي كانت تتملكها قديمًا حين تلمح اسمه، شردت متذكرة أزمتها مع أختها وعراكهما الأخير، السور الذي بُنيّ بينهما بسببه هو. حتى أن سكينة لملمت أغراضها كلها وهجرت الحجرة من يومها وازداد انطوائها وانعزالها أضعافًا مضاعفة، تركت دروسها وهجرت مذاكرتها طوال الوقت صامتة حزينة، تستيقظ صباحًا وتصعد فوق سطح المنزل تجلس فيه وحيدة، أحيانًا تسمع شهقاتها وبكائها حين تصعد للطيور وأحيانًا صامتة بنظرة ثابتة وأعين زجاجية، ومرات تراها مهزوزة مرتعشة نظراتها تتوزع  بزيغ في المكان بغير هدى، لا تأكل إلا القليل ولا تثرثر بحيوية كعادتها كئيبة ضائعة.
وللحق أوجعها ذلك كثيرًا لكن قلبها أيضًا يؤلمها، أنه لشعور بشع أن تشعر أنك غير مرغوب من الشخص الذي أحببته بقوة، وأنه لم يرك من الأساس وكل رؤيته وتفكيره كان لأقرب الناس إليك.
لا تعرف كيف تخمد تلك المشاعر المتأججة بصدرها وتخرس صوت غضبها منهما، ونقمتها على فعلة سكينة.
تلك التي حملتها أمانة حبها لحمزة فخانت، هل تقربت منه عن عمدٍ.؟ أم كان طيشًا منها وتهور كعادتها؟ إعتادت سكينة أن تُفصح عن مشاعرها دون مواربة، تمتلك الجرأة التي تفتقدها هي.؟ والاندفاع الذي لا تمتلكه.
هل أحبت سكينة حمزة.؟ وإن أحبته كيف تركته ووافقت على تلك الزيجة بسهولة دون إعتراض.؟ الكثير من الأسئلة لا تجد لها إجابة واضحة. وحدها سكينة من تملك الإجابات
مسحت وجهها تنفض عن عقلها الشرود وعادت بنظراتها للهاتف، أجابت من شدة إلحاحه.. (السلام عليكم إزيك يا دكتور.؟)
جاءها صوته الرائق (وعليكم السلام ازيك يا مودة عاملة إيه.؟)
اجابته وهي تنقر بقلمها فوق المكتب بحركات رتيبة مملة (الحمدلله بخير أخبار مرات خالي.؟)
قال بنبرة هادئة (تمام تسلّم عليكِ)
عبست مودة متذكرة هدية ورد لأختها ونقاشهما سويًا وخوفهم من حزن مودة إن عرفت وتدبيرهم لأمر هدية أخرى لترضيتها.
أفاقت على ندائه (مودة مودة)
تنهدت تجيبه بعملية ومشاعر حيادية (أيوة يا دكتور)
سألها بإهتمام (فين عمتي.؟ موجودة عايز أكلمها)
قالت بطاعة (تمام حاضر دجيجة)
انتظرت ورد متمنية أن تجود عليهما سكينة ببعض الكلمات أو ينتهي كل ذلك وتمسك الهاتف وتشاكس كعادتها مع حمزة.
أغمضت ورد عينيها متحسرة بألم على حالهما،انتبهت من شرودها حين هتف حمزة بلهفة :
(ازيك يا راضية وحشتيني الشوية دول)
تهللت راضية واتسعت ابتسامتها حين وصلها صوته وراضتها كلماته (ازيك يا حبيبي عامل إيه.؟ وإنت وحشتني يا غالي، صحتك كويسه، خفيت يا حمزة.؟ )
قهقه يهدأها قائلًا:(واحدة واحدة يا راضية هجاوب عليهم كلهم مرة واحدة)
ابتسمت ورد وهي تمد كفها تريد مهاتفة راضية وشكرها، فناولها الهاتف قائلًا :
(خدي ورد كمان مش صابرة وعايزه تكلمك)
قالت ورد بإمتنان كبير :(ازيك يا راضية عاملة إيه إنتِ والبنته.؟)
قالت راضية بمحبة :(ازيك يا ورد طمنيني عنك وعن حمزة)
شكرتها ورد قائلة :(كتر خيرك يا راضية على الي عملتيه مع حمزة وشيلتك ليه فتعبه)
استنكرت راضية الشكر :(واه يا ورد دا ولدي، هو في بينا شكر من الأساس)
قالت ورد بمحبة :(ربنا يخليكِ ليه وميحرمكيش منه ولا يحرمه منك وتفضلي سند ليه)
ابتسمت راضية قائلة (آمين يارب)
هبطت سكينة الدرج، لا تدري مَن تهاتف والدتها ولا يهمها.. عينا مودة كانت عليها بترقب، تستكشف ملامحها وعينيها الذابلة وإرهاقها الواضح، تعمدت مودة أن ترفع صوتها وتُعلمها بهوية المتصل :(حمزة بجا بخير يا أما)
فهمت سكينة ما ترمي إليه مودة فتابعت السير ومازالت ملامحها تحمل نفس التعبير، غبية مودة تظن إن ذكرته سيظهر على وجهها التأثر ولا تعرف أن من تأثر هو قلبها الذي تبعثرت دقاته وتعالت بصخب، دخلت المندرة الصغيرة وأغلقت خلفها غير مهتمة.
سألت ورد راضية ونظراتها تهرب لولدها :
(أنا وحمزة هنسافر السعودية جريب يا راضية محتاجه حاجه.؟)
قالت راضية بإندهاش (ليه.؟ عمرة.؟ ولا إيه.؟)
أجابتها ورد موضحة (حمزة جاله شغل هناك اهو يبعد شوية ونعمل عمرة)
سألتها راضية بقلق (هتيجوا تاني ولا.؟ ولا يكون خلاص هتمشوا وتعيشوا هناك زي ما عملتوا زمان)
هدأتها ورد بلين ورفق (لا يا حبيبتي)
قالت راضية من بين نشيجها الباكي (حمزة لو بعد تاني يا ورد مش هسامحك، المرة الأولى وجولت يكبر بعيد عن البلد ومصايبها وإنتِ ترتاحي، إنما دلوجت مبجاش ينفع أنا عيزاه وسطنا وجده محتاجه)
قطب يستمع اكلمات عمته بتأثر، لتهمس لها ورد برفق مقدرةً كلماتها تعذرها فيما قالت :(حجك يا راضية وإن شاء الله ميطولش)
مسحت راضية دموعها وأكملت :(ادعي لسكينة ياورد هناك)
انقبض قلبه وانتبه يسمع كلمات عمته بإهتمام، سألتها ورد (سكينة كويسة مالها خير.؟) ادّعت ورد الجهل، لتسرد لراضية على مسامعها معاناة سكينة:(والله ما عارفه مالها.؟ ضعفانه ولا بتاكل ولا تشرب وسابت دروسها ومذاكرتها، مبتنامش دجيجتين وتجوم مفزوعة)
أوصتها ورد بحزن :(ارقيها يا راضية دايمًا وخليها متسيبش الصلاة)
أطاعت راضية (حاضر)
سألتها ورد قبل أن تُنهي الاتصال (عايزه حاجه نجبهالك)
(تسلموا ياحبيبتي وابجي طمنينا عليكم)
(حاضر مع السلامة)
#انتهى

ملاذ قلبي سكن حيث تعيش القصص. اكتشف الآن