11

114 2 10
                                    


بسم الله الرحمن الرحيم

11

1 تشرين الأول
أقفَل سَروبْ باب السّيارة بَعد أن نزل ، وانتظر واقفا حتى وضعت آماليا قدميها على أرضية المرآب الخاص بمنزل العائلة . كانت ممسكة بِكيس ممتلئ أصدر احتكاك الأشياء التي وضعت فيه صوت
خشخشة خافتا . وكان سروب ممسكًا بمثله ، أقفل الأخير السيارة باستخدام المفتاح الآلي و مَشيا جنبًا إلى جَنب حتّى دَخلا البيت . كان البهو مظلما أكثره ، اقتربت آماليا من سروب أكثر وقالت :
-" أتظن أنهم سوف يصدقوننا ، خصوصا أننا أقفلنا هواتفنا ؟ "
التفتَ إليها سَروب مبتسما ابتسامة هادئة وديعة :
-" ولماذا لا يفعلون ؟ أنتِ لستِ أول أخت تقضي نصف يوم مع أخيها ! . . ألم تفعلي ذلك مع أسود أو بقية إخوتك يوما ما ؟! "
أطرقت آماليا ببصرها وأشاحت إلى الجهة الأخرى :
-" بلى ولكن . .. أتعرف ؟ أنا حمقاء كبيرة ، لمَ اخترت الهروب بدلا من مواجهتهم ؟ . . لن أخشاهم وأنت بجانبي "
أتبعت قولها بابتسامة رائعة في وجه سَروب الذّي رغم أنها أبهجته من ناحية ، أشعلت مخاوفه وقلقه من ناحية أخرى . توقّف فجأة وقال لآماليا :
-" هناك شيء لم تعرفيه بعد . . لقد ذهبت العائلة بأكملها اليوم إلى منزل السيد سامر . . "
-" منزل خالتي مريم .. . لماذا ؟! "
قال سروب بتردد :-" لقد مَاتَت إحدى بناتها . . لا أدري من "
فتاة ذات شعر طويل تصفع أخرى ذات شعر أحمر فتسقط الأخيرة على الأرض ، الفتاة نفسها صاحبة الشعر الأسود تنكّب على رسمِ لوحةٍ بدقّة عظيمة وتركيز ، الفتاتان تجلسان على أرجوحة وتحكي الأولى
للأخرى أمرًا جَعلها تشهق متفاجئة وتتصلب في مكانها من وقع الصدمة ، ثمّ الفتاتان ذاتهما تجلسان في وسط غرفة مظلمة أُشعلت فيها شموع وتتحدثان بصوتٍ هامس ولكنّه لحوح وكأن كل واحدة منهما
تحاول إقناع الثانية ، لاحقا تتسللان ليلا . . ثم اختلطت الصور وانعدمت الذاكرة عند هذا الحدّ . رمشت آماليا عِدّة رمشاتٍ متتالية بسرعة ، ثمّ نظرتْ إلى سَروب نظرة فَزِعَة
، سألته بصوت قَلقٍ جزع ظهرت فيه بحة التعب :
-" من أخبرك بذلك ؟! "
لم يستطع سروب أن يمنع الشفقة من أن تتملك ملامح وجهه ، سَارع للاقترب من آماليا وهمّ بعناقها بينما يقول :
-" لقد أتانا الخبر ظهيرة هذا اليوم وذهبت العائلـ . . "
بَتَر قوله متفاجئًا إِثر رؤيته آماليا تركض بسرعة إلى الطابق الأعلى مُتجاهلة إياه ، لكنه لم يكثر التفكير في الأمر بل لَحِقها فورًا . خطوات آماليا المتتابعة على السيراميك بنُسقُ سريع استرعت انتباه الأشخاص الثلاثة الذين اجتمعوا في الصالة ، كَان الطابق العلوي عبارة عن مساحة كبيرة وعلى طول الجدار كانت هناك أبواب تُفضي إلى الأجنحة الخاصة بأفراد العائلة ، وفي الطرف الأيمن كانت هناك العديد من الأرائك يطل عليها
مطبخ للتقديم ، كانت هذه الجلسة هي المكان الذي اعتادت العائلة على التسامر فيه قبل النوم أو انتظار شخص متأخر كما الآن . كَانت المساحة المتبقية عَداها مغمورة بالظلام ، لم يستطِع رَاهبْ رؤية آماليا لكنّه ما إن سَمِع الخطوات تقدّم إلى الأمام وتوقف عن حومه بالقرب من مدفأة كهربائية وضعتْ في أحد الأركان . رأت آماليا راهِبًا يعترض طريقها ولَمحتْ عيناه المحمرتين ، توقّفت قبل أن تصطدم به وسألته من بين لهاثها وهي تستند بكفيها
على ركبتيها ، كانت ضعيفة البنية :
-" أينَ هي أمي ؟ "
أشاح راهِب برأسه إلى جهة الجلسة وهو يرمقها باستغراب ، تعدّته آماليا على الفور وواصلتْ خطواتها المحمومة حتّى بَلغتْ طرف أول أريكة ، كانت أمها تجلس عليها مُغرقة أبصارها
في كتابٍ تُمسكه بيديها ، استندت آماليا بكفها على ذِراع الأريكة ، لم تلتقط أنفاسها ، ولم تبالي برفض أمها الظاهر ، سألت بجزع :
-" من مات من بنات خالتي مريم ؟ . . من التي ماتتْ أخبريني سريعا أرجوكِ "
رَفعتْ فاتِن حاجبها الأيسر ببرود ، والتفتتْ إلى آماليا ، لَسعتها بنظرة متعجّبة وكاد تحديقها فيها أن يستمر مصحوبا بصمتٍ استحقاريّ كإجابة على سؤالها لولا أنّ سَروبْ ظهر ، فَقالتْ :
-" ما رأيكِ أن تسألي أخاكِ لمَ لمْ يذهب بكِ إلى منزل خالتكِ حتّى تعرفي بنفسكِ ؟ فقد كان يعلم أيضًا "
تأذّت آماليا داخليًا إلى حدٍّ بعيد ولكن همها الأكبر كان في هذه اللحظة هو معرفة هويّة الشخص الذي ماتْ لذلك عاودتْ سؤال أمها مرة أخرى وبترجٍّ أكبر تحت أنظار راهِب وإياس التي حوتْ
خيبة تراءت لسروب فيها ظلال من الشفقة :
-" هذا لا يهم الآن لقد انتهى النهار .. أخبريني من التي ماتت أرجوكِ .. [ ثم التفتت وبحثت بعينيها عن راهب وما إن رأته سألته ] ألا تعرف أنت أيضًا ؟ [ أشاحتْ عنه بيأس وعمّت الثلاثة بنظرات ملهوفة ]
قولوا لي هل هي الابنة الوسطى أم الكبرى . . من التي ماتتْ ؟! "
كانت اللوعة في صوتها قد بلغتْ حدًا مؤلما ، فانحنى غضبُ فاتن وحُنقها بالرغم منها تحت وطأة الأمومة وحنانها اللا إرادي ، وقفت ووضعت كفّها على كَتِف آماليا وجلَبتها لتجلس
بالقرب منها على الأريكة التي كان لونها خليطا بين الرمادي والأسود وهي تقول بصوتٍ لم تفارقه آثار البرود تَمامًا :
-" ملاذ هي التي ماتتْ .. لقد فارقت الحياة قبل يوم أمس ، في الساعة الثالثة ليلا"
ارتجفتْ أنامل آماليا ،وَقفتْ إِثر وقع المفاجئة ، ثم أطرقتْ بِرأسها وهَمستْ في داخلها هَمسةً ضئيلة قبل أن يجرفها طُوفان الذكريات " كنتُ أعرف . . أن هذا ماسوف يحصل .. لم يجدِ أي شيء ، مثلما قالتْ هِيَ بالضبط " استولى عليها شعور لا تعرف كنهه بالضبط ، كَان أقرب إلى الإحباط أكثر منه حُزنًا ، إحباط شديد وكأنّها ألفتْ نفسها وحيدة فجأة في صحراء يحفّها الظلام من كل الجوانِبْ . كَانتْ تعرف
السبب وراء موت ملاذ ، بل وتعرف أنها انتحرتْ ، لكن لم يكن من الحري بهذه المعرفة أنْ تتسبب لها بشيء سوى زِيادة الألم والوحدة فَقدْ كان السبب سِرًا يستحيل أن تخبر بِه أي كائن
وإلا اقترفت خيانة عظمى أو جلبتْ لنفسها مهالكَ مخيفة . ظلّت واقفةً في مكانها قُرابة الخمسة دقائق ، بَعدها مَدّ سروب يده إليها وأمسك بكفها قائلا بهدوء ومواساة :
-" تَعالي إلى غرفتكِ .. تحتاجين إلى الراحة "
رَفعتْ آماليا يدها ومسحت دموعها القليلة التي نزلتْ ، كانت تتألم من الداخل بشدة وتشعر بضغط هائل على صدرها لكنها لم تفصح . همّت بالسّير تجاه غرفتها لولَا أنّها تنبّهت إلى أمر طَرَق بالها للتّو ، سألت :
-" أين هو أسود ؟ "
التفتَ إليها إياس :
-" غدا ستعلمين . ."
استشعرت آماليا شيئا غريبا في نبرته ، نظرت إليه بتوجس وقلق وعيناها الزرقاواتان مازالتا لامعتين من أثر الدموع :
-" ماذا تقصد ؟ ماذا هناك ؟ "
رَفع إياس حاجبه الأيسر وكررّ قوله :
-" قلتُ لكِ غدًا ستعلمين .. لا تقلقي لم يُصَبْ أسود بأذى "
قطّب آماليا حاجبها للحظات ثمّ علت وجهها علائم التذكر وقالتْ مستدركة :
-" تقصد أنه ذهب إلى السويد ؟! "
أجابها راهب :
-" لا ، لقد تأجلت الرحلة "
حدجت آماليا راهبًا وإياسًا بنظرة لائمة مُغتاظة يعلوها شيء من الشك ، وبدأت بالسير ، ما إن اختفت عن العيان حتّى اقترب إياس من سروب . استرعى انتباهه بتربيتة من كفه على كفِّ الآخر ، ثمّ قال :
-" سَروب . . هناك شيء يجب عليك معرفته ، لم أرغب أن أقوله أمام آماليا حتى لا تزداد صَدمتها "
استجاب له المعني بنظرة مُستفهمة ، استرسل إياس :
-" ميّال في المشفى ، لا أعرف كل التفاصيل بَعد ولكن أسود أخبرني بذلك قبل قليل على الهاتف "
سأل سَروب بلهفة واستغراب :
-" مَن الذي أدخله المشفى ؟ "
أجابَ إياس وقد عاد تركيزه إلى هاتفه المحمول :
-" أسود . ."
وَقف سَروب :
-" في أي مشفى ؟ "
وقف إياس أيضًا :
-" مشفى الـ.. .. "
قال سروب بشرود :
-"حسنًا إذا سوف أذهب . . لا داعي لأنْ يأتي شخص آخر ، سأرافقه أنا "

غيومٌ كثيرة تحجب صفحة السماء ، سِربٌ مِن الطيور كَان يعبُرْ أمامَ فجوة في وَسط كتل السحب تسّربَ منها شيءٌ من ضِياء الشّمس الباهت ، كلّ ذلك العالم العُلوي الرّائع ، كَان منعكسًا على عينيه ، لكنّهما لم تكونَا تَريان أيّ شيء ، وكأنّ عينيه مِرآتان مُبصرتان ، اختَارتا أن تقلبَا أنظارهما إلى الدّاخلْ . لم يكنْ هناك شيءٌ محددّ يفكّر بِه سيسيلْ . كَان يضع كَفّيه على عَتبة النّافذة ، ويرَفع رأسه إلى الأعلى .
بَقي في هذا الوضع لوقتٍ يُقارب العشرين دقيقة ثم آلمته يدَاه مِن حديد النّافذة . رَفعهما وأنزل رأسه وأخذ ينظر إليهما وإلى الأثرين الحمراوين عَلى جلدهما الطّري . لو أمسكت العصابة بباربارا لربما أحدثتْ
في جسدها العشرات مِن هذه الآثار التي تفوق هذه قبل أن تفصل رأسها عنه ، من الأفضل لها أن تذهب مع ذلك الرجل ، من الأفضل لها ذلك . تنّهد سيسيل وأغمض عينيه ، وابتعدَ عن النافذة . لم يذهب إلى
العصابة منذ ذلك اليوم ، ولم يخبرهم أنّه سَمِع تلك المحاورة بين بريجيتا وذلك الرجل ولن يخبرهم أبدا ولن يعود إليهم . اقترب من السّرير ، كَانت هناك امرأة عجوز هزيلة ومليئة بالتجاعيد تنظر إليه ،
قالت بصوت بالكاد يسمع :-" بنيّ .. أين تلك المرأة التي أخبرتني بأنك ستتزوجها ؟! "
أشاح سيسيل ببصره للحظة عن أمه ، وقاوم دموعه ، لقد جعله الحب ضعيفا حقًا ، التفت إلى أمه ثانية وجلس على ركبتيه ثمّ أمسك يدها
وحدّق في عينيها الأليفتين وهو بالكاد يراهما بسبب غَبش الدّموع :-" أمي ، تلك الفتاة لم تعد موجودة بالنسبة إلي . . لقد رحلتْ مع رجل آخر . . ، لكن أمي [ مسّد كفها بإبهامه ] . . لقد تركتُ كل تلك الأمور التي تكرهينها . ." شعرَ بارتجافة يَدِ والدته ، رَفع يده الأخرى ومَسح دموعه ثمّ تملّى فيها ، كانتْ هي الأخرى تبكي ،
ولكن يبدو أنّها دُموع السّعادة ، ابتسم في وجهها ابتسامة هادئة متجاهلا الحزن الذي فاضتْ به عبَرَاته ، ثمّ قال لها :- " أمّي سأذهب الآن .. سأعود لأعدّ لكِ العشاء "
ووقف وسَار متّجهًا إلى باب الغرفة ، خَرج منها إلى صالة صغيرة ، اقترب من المشجب والتقط معطفه الثقيل ووشاحه ، والتفت إلى الجهة اليمنى باتجاه الأحذية المصفوفة ، ارتدى حذائه وفتح الباب
الخشبي وخرج . ما إِن تعدّى عتبة الباب حتى رأى أمامه تلك السيارة السوداء . أنزل راكبها النافذة الزجاجية ، كَان يضع سيجارة في فمه ويرتدي نظارة شمسية ، لم يتكلم معه بل أومأ له بِرأسه إلى الخلف .
أطرق سيسيل برأسه واتّجه إلى الباب الخلفي مستسلما ، يبدو أنهم عَرفوا بالأمر . أقفل الباب بعد أن رَكِب ، انطلق السّائق فورًا ولم يتبادل مَعه إلا كلمة واحدة قالها قبل أن يتوقف قرب وجهتهما :-" الرئيس غاضبٌ جدًا جدًا ، عليك أن تكون حَذِرًا أخشى أن يطلق عليك النار ما إن تدخل من البوابة " ضحك سيسيل بسخرية ثم نظر للسائق :-" لم لم تعنّي على الهروب إن كان الأمر كما تقول ؟ "
تعجّب السائق :- " هل جننت ؟ أتريد أن يطير برأسي ورأسك ؟ أنسيت مدى نفوذه ؟ . .وعلى كل حال فالخطأ خطـأك ، لِمَ أعطيت باربارا كل تلك المستندات والصور منذ البدء ؟! ألم تكن تعلم أن فعل ذلك محظور وأنه خيانة عظمى ، حتى ولو أصبحت عضوا مِنا فإن ذلك لا يعني أنه يحق لكَ بأنْ تخبرها بالأسرار ، ثمّ إن ذلك لا يليق بِمن كان رئيسًا للعصابة ، ألعبَ الحب بعقلك إلى هذه الدرجة "
عند هذا الحدّ لم يصبر سيسيل ، رفع يده الممسكة بمسدسه الذي كان قد أخرجه منذ قليل ووجهه ناحية رأس السّائق قائلا :-" اصمتْ "
ابتسم السّائق بسخرية :- " والآن تهددّ صديقك الأقرب بالقتل فقط لأنّه واجهَكَ بالحقيقة . . لقد أصبحت الخيانة والحماقة تجري في دمك يا صديقي ، ربما تحتاج إلى حُقنة من دَمٍ نقيّ "
كانت تلك دُعابة ساخرة اعتاد سيسيل عندما كان رئيسا أن يقولها لأعدائه قبل أن يحقنهم بدم شخص مصاب بالتهاب الكبد . اهتّزت يَدُ سيسيل التي تمسك بالسلاح رُغما عنه جرّاء ذهوله ، أينوي رئيس العصابة الحالي "جيديرتو" أن ينتقم منه بهذه الطريقة . أرخى يده الممسكة بالسلاح وأخذ يأرجحه بأنامله وأسند مِرفقيه على ركبتيه بيأس ، لن يستفيد شيئا إذا قتل رَفَيقه ، ولن يستفيدا شيئا إذا تعاونا على الهروب فهذه العصابة نفوذها خيالي
ورئيسها الأساسي ليس "جيديرتو" فهو لا يعدو كونه رئيسا تنفيذيا مثلما كان سيسيل في وقت مجده وعزه أمْ دنائته ، لا يعرف حقا . توقّفت السّيارة أمام منزل ضخم يكاد يكون قصرًا ،
أفراد العصابة المهمين يعيشون هنا وينفذون بعض جرائمهم في قبو بالأسفل . فَتح السّائق الذي كان يدعى " كالفن " بابه ونَزل ، تَبِعه سيسيل بيأس وهو يشعر بقلبه يرتجف بين أضلاعه .
فَتح كالفن بوابة السور بمفتاحه الخاص وأقفلها بعد أن وَلَجا إلى الدّاخل . سَبَق هو سيسيل الذي رَفع رأسه وأخذ يتأمل السماء ، دَعَا في داخله وهو يحاول مَنع نفسه من البكاء :-" يا خالق السماوات اغفر لي وأنقذني "
ثمّ تَبِع كالفن إلى الداخل والرياح تُأرجح جَديلَته وتجبرها على الاصطدام بظهره .
كَان البَهو خاليًا ، صَعَدا الدّرج ثمّ التفتا إلى اليسار وعَبرا الرّواق حتى نهايته حيث قابلهم هناك باب كبير من دَرفتين . تقدّم كالفن وطَرقه طرقتين ، ثمّ دَفع الباب ممسكا بمقبضه ، وأومأ لسيسيل بأن يدخل ، دخولهما إلى هذه الغرفة يعني وجود نائب الرئيس الأساسي لهذه العصابة . ابتلع سيسيل ريقه ثمّ دَخل . كانت الغرفة فسيحة ، في منتصفها سجّاد مفروش على الرُّخام ذا اللون العسلي والتموجات البنية ، وفي نِهايتها أمام النّوافذ الضخمة الثلاث
المغطاة بالستائر الثقيلة ، هناك مكتبٌ كبير من الخشب الفخم يجلس وراءه شخص ما ، وأمام المكتب هناك جلسة أرائك تتوسطها السجادة ، على الجانبين تصطف رفوف الكتب .
أشغل سيسيل نفسه بتأمل الغرفة مرة بعد أخرى بينما يتقدمّ إلى الأمام . توقّف على مقربة من الأرائك التي كان يجلس عليها أربعة أشخاص ، اثنان هما ممّن ينفذون عمليات القتل في العصابة ، وجيديرتو ، وسيرينا التي كانت يده اليمنى . أما الشخص الذي كان يجلس وراء المكتب فلم يكن سوى نائب رئيس العصابة الأصلي . وَقفَ سيسيل أمامهم وقد اختفت الدموع من عينيه واحتلّتها نظرة أبيّة ، واكتسبت ملامحه مجددا تلك القسوة التي كانت تسكنها .
-" سيسيل . . "
تحدّث نائب الرئيس ، كَان شابًّا في منتصف العشرينات ، متناسق القوام قويّه ، شعره بنّيٌ مائل إلى درجات اللون البندقيّ ، لسبب ما يحب الحفاظ عليه أشعثًا ، عيناه رماديّتان غامِقتان وواسعتان .
نظر سيسيل إلى بينجامين بدون خوف . قال الأخير بصوته العميق الذي مهما تذبذبت نبراته احتفظت بلمسة من البرود ، وهو يسُند رأسه إلى كفّ يده التي اتّكأ بمرفقها على الطّاولة :
-" لقد قررتُ أنا ويلْمَار بينجامين ماذا سيكون عقابك . .، صحيح أنه من المعروف أن عقاب الخائن هو الموت ، وقد كنت أنتوي إطلاق النار عليك بنفسي قبل نهاية هذا اليوم ، لولا أنّ – ثقّل نطقه لهذه الكلمة – سيادة الرئيس جيديرتو رانسليانو ، لفت نظري إلى أن خيانتك غير عادية ، لذلك قررت أنه لا بد لنا حتى نتشفى منك تمام التشفية أن نحقنك بفايروس التهاب الكبد ، وأما بشأن باربارا التي علمنا بسفرها فسوف نرسل لها من ينتزع منها المستندات التي اكتشفنا أنها مازالت بحوزتها ويقتلها شرّ قتلة "
مازال سيسيل محافظا على نظرته الأبية ، روحه كانت تنسحق ، يدرك أنه ما من مهرب ، ولكنه لبث محافظا على أمله بأن يستجيب الله دعائه وينجيه .

العَجَلة الدّوّارَةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن