3

100 8 2
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم

03

قبلَ سنواتْ . .

أغمض عينه اليسرى،بينما أبقى الأخرى مفتوحة على وسعها محاولا التركيز على العصا الخشبية النحيلة التي يمسكها بيده،والكرة البيضاء التي تبعد عن نهاية رأس العصا بمسافة قليلة على طاولة البلياردو الخضراء،ولم يستغرق الأمر منه ثانيتين حتى دفع العصا بسرعة احترافية فدفعت الكرة البيضاء لتدفع بدورها العديد من الكرات الملونة إلى الحفرتين الموجودتين في أقصى زاويتي الطاولة.
استقام بوقفته راضيا بعدما رأى النتيجة،فبانت قامته الرياضية الطويلة،لقد كان وحده في الصالة،يلعب البلياردو ضد نفسه من وقت ليس بقصير، لذلك قد شعر بالملل الآن.مشى مبتعدا عن الطاولة متعدّيا الآلات الرياضية الحديثة المنتشرة حتى خرج إلى الحديقة،اتّكأ على جدار الصالة،ومد يده إلى جيبه وأخرج علبة عصير بالفراولة،فتحها،وما إن قربها إلى فمه حتى ارتشف كل مافيها دفعة واحدة،ثم رماها جانبا على العشب الذي طفى الظلام فوقه فأخفى خضرته الزاهية.رفع رأسه إلى السماء الليلية فلم يرَ إلا بضع نجمات يحطن بالقمر الذي اتخذ شكل هلال،وبقي وقتا يحدّق فيه بشرود.كانت حدقتيه بلون أخضر حادّ يخالطه لون عسليّ يضفي على عينيه تأثيرا ناعسا وكئيبا بعض الشيء،وقد انعكست على عدستيه صورة القمر فبدتا كما لو أنهما في عالم آخر.
استمّر مايقارب العشرة دقائق في وقفته هذه،دون أن يظهر على وجهه أي شعور يدل على ما كان يفكر فيه،ثم أطرق برأسه وأدخل يديه في جيبي سترته البنفسجية القطنية الغامقة،وماكادت أنامل يده اليمنى تلامس طرف هاتفه المحمول حتى أفزعه برنينه واهتزازه المفاجئ،أخرجه فورا من جيبه الأيسر حيث كان،وما إن وقع نظره على اسم المتصل"القطة سروب" حتى أعاده إلى جيبه وتركه يستمر بالرنين دون أن يرد.استعجال سَروبْ المهووس هو آخر شيء يحتاجه الآن.
لكن للأسف،بضعة دقائق مرت منذ انتهاء الرنين،ثم سمع صوت سَروب ينادي باسمه بينما يخرج من بوابة القصر الداخلية باحثا عنه دون أن يراه،فقد كان واقفا وسط الظلمة.تأففّ،وأدرك أن سَروب لن يتوقف عن النداء عليه حتى يجده،لذا تقدم ليريح نفسه من هذا التكرار الممل،وعندما أصبح خلف سروبْ مد قدمه وركله ركلة خفيفة على بنطاله الأسود الرسمي قائلا :
-" توقّف عن ندائي مثل جرو خائف،لقد أتيت"
سرعان ما التفت إليه سروب وقال له باستعجال ولوم وهو يحاول أن ينظر للمكان الذي ركله من بنطاله حتى ينفضه :
-" ميّال . .
رفع ناظريه إليه ليستوعب أنه مازال مرتديا بنطاله الجنز الغامق وسترته :
-"بالله عليك ماذا كنت تفعل طوال هذا الوقت ؟ لقد تأخرنا كثيرا وأنت لم تغير ملابسك بعد !"
رمقه ميّال متفحصا ببرود هيئته المتأنقة بملابس السهرة السوداء وتسريحة شعره المعتادة،يقسم شعره إلى نصفين الأول يجنبه إلى اليمين ويرفعه عن جبينه قليلا،والآخر يعيده وراء أذنه ويملّسه،ثم أشاح ببصره عنه وتعداه ماشيا :
-" ومن أخبرك بأني سأغير ملابسي ؟ لستُ مهووسًا بالتّأنق والظهور بأفضل صورة مثلك"
لحق به سَروب قائلا بنفس نبرة صوته المستعجبة اللائمة :
-" أجننت يا أخي ؟ حفلة زفاف،أول ظهور لنا أمامهم،وتظهر بهذه الملابس . .
التفت إليه وابتسم ابتسامة خبيثة :
-" ثمّ إن مظهرك هذا لن يجلب الفتيات إليك أبدا . ."
ردّ عليه ميّال بسرعة دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى عينيه المتحمّستين :
- " لست أنا من يجذب الفتيات،بل هن من يتأنقن ليجذبن نظري "
ما إن سمع سَروب جملته هذه حتى حرك رأسه يمنة ويسرة يائسا منه.إنه يعرف منذ البداية أصلا أن ميال لن يستمع له مطلقا،لطالما كره الملابس الرسمية والتجمعات،وهو ليس مهتما من الأساس بهذا الزفاف واللقاء الأول بهم،فلولا إصرار السيد جلال،وترجيه لهم منذ آخر مرة رأوه فيها،وقد كانت قبل شهر ونصف،لما رضي بالمجيء أبدا،وعلى كلّ،فإن التّأنق لا يليق بمظهره اللامبالي ونظراته الناعسة الكئيبة أبدا.لكنه رغم هذا كله،لم يستطع من نفسه من أن يسأله بقلق حين ركبا في السيارة الفخمة :
-" ماذا ستكون ردة فعلهم برأيك ؟"
"- أيا كانت لا يهمني "
أجل،لقد كان سروب يعرف أن هذه هي الإجابة الوحيدة التي سيقولها ميّال ،لكنه واسى نفسه بأنه لا بأس من المحاولة.تأفف وأشاح بوجهه إلى النافذة الزجاجية ليحدق بعينيه الخضراواين الصافيتين في الشوارع المزدحمة.إنه لا يستطيع منع نفسه من القلق،لقد أمضى طوال هذه الشهر والنصف في التفكير ومازال غير قادر على التخلص منه منذ أخبره والده بقراره،إنه على العكس من توأمه ميال كان دائما يتوق لعائلة حقيقية وكبيرة بعد وفاة أمهما،حتى بعد تعديه لسنوات المراهقة،ووصوله للخامسة والعشرين من عمره،لم يتوقف عن تمنيه لذلك،صحيح أنه يحب أخيه ميال رغم اختلافه العظيم عنه،لكن أيضا،لكم تمنى أن يكون عنده إخوان صغار وأبناء إخوة يلاعبهم ويخرج معهم ويمتعهم.إن سروب من ذلك النوع العاطفي المليء بالحب،لا يستطيع أن يعيش دون أن يجد أحد يغمره بمشاعره هذه واهتمامه ورعايته،تماما كما لو أنه أم،حنون جدا،ولهذا السبب بالذات فإنه لم يكف طوال الوقت عن القلق إذا ماكانوا سيتقبلونه كأخ أم لا،لكن ما يطمئنه قليلا أن والده أخبره هو وميال بأنه سواء تقبلتهم العائلة أو لا،فإنهم سينتقلون للعيش معهم قريبا جدا،إن القصر واسع ويكفيهم جميعا،والسيد جلال يريد أن يرى جميع ذريته أمامه ويقضي معهم آخر سنواتٍ شيخوخته.
-" سروب،ياقطة،هي سَروب،استيقظ،لقد وصلنا"
فزع سروب إذا انتزعه الصوت من شروده،والتفت إلى جهة ميال فرأى القصر من نافذته :
-" حسنا،وصلنا،وصلنا"
وزفر قلقا وهو يفتح باب السيارة هاما بالخروج،بينما بقي ميال في السيارة،حتى إذا خرج سَروب،مد يده وأخرج عطرا من درج صغير،ورش الكثير منه،ثم رفع بصره إلى المرآة المستطيلة التي لا يظهر فيها إلا انعكاس لصورة شعره الأشقر القاتم الغير مرتب تماما،والذي ينسدل على عينيه ويتوقف من الخلف عند بداية رقبته،لمسه بيده وعدل بعض الخصلات النافرة ثم أقفل السيارة وخرج دون أن يحتاج لأن يصلح هندامه.

العَجَلة الدّوّارَةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن