وبعدما ترك عادل المحل والعمل فيه .. بدأ رحلة بحث جديدة عن عمل .. يرتاد المحلات والأسواق لعله يجد عملا ولو بأبخس الأثمان ..
وحين كان في السوق هذا اليوم يبحث عن العمل كعادته أمسك رجل بكتفه فجأة .. فإلتفت إليه بسرعة ليتعرف عليه .. مخافة أن يكون أحدا يذكره بماضيه التعيس .. ولكن سُري عنه حين رآه إمام المسجد الذي كان يعمل فيه يبتسم له قائلا
الإمام: لماذا تركت المسجد يا عادل .. أنت حتى لم تأخذ أجرة ذلك اليوم الذي خرجت فيه
تلعثم عادل ولم يعرف بماذا يجيب .. فوضع الإمام يده على كتفه قائلا
الإمام: هل أذاك أحدا يا بني ؟!
تنهد عادل بحرقة .. وهز رأسه بنعم .. ابتسم له الإمام قائلا
الإمام: إذن لا ينفع أن نتحدث هكذا في وسط السوق .. تعال معي استضيفك في إحدى المقاهي ولنتحدث معا ..
جلس عادل مع الإمام في المقهى وقص له ما حدث معه ذلك اليوم في المسجد والإحراج الشديد الذي تلقاه من الموقفين هناك
كان الإمام يصغي لعادل بإهتمام شديد .. وفور إنتهاء عادل من الحديث قال له
الإمام: بالنسبة للرجل الأول .. فمثل هذا .. نراه في كل مكان وفي جميع الأوساط .. الشخص الذي يرى نفسه بأنه فوق الكل ويحتقر كل من هم دونه .. ومؤكد يا بني بأنك واجهت مثله من قبل فحدسي يقول لي بأنك كنت مختلفا عما أراك عليه الآن ..
تذكر عادل ماضيه وكيف كان هو ذلك الشخص المغرور الذي يرى نفسه فوق الكل .. وقطع عليه الإمام حبل تفكيره حين قال له
الإمام: أما الرجل الثاني .. فهو لم يقصد الإساءة .. بل أراد مساعدتك دون تجريح أو احراج .. لذا ترك المال وانصرف
هنا قاطعه عادل بقوله
عادل: لم اتخيل يوما أن أكون مثيرا للشفقة ..
ابتسم له الإمام مجددا قائلا
الإمام: أنت مرتبط جدا بماضيك .. وكونك عزيز النفس فلا ضير في ذلك .. ولكن لا يجب أن تفر في كل مرة من قدرك
ركز عادل مع عبارة ( لا يجب أن تفر في كل مرة من قدرك ) .. ولاحظ الإمام إن العبارة أثرت فيه لذا قال
الإمام: إذا كنت تتوقع أن تجد مكان يعاملك فيه المحيطين بك كما تريد أنت فأنت واهم .. لابد أن تتعايش مع واقعك وترضى به حتى يرضيك الله
هز عادل رأسه مؤيدا ما سمعه .. فهو فر من قدره من المسجد مخافة الإحراج لينصدم بشماتة سوسن في المحل فلو صبر على الإبتلاء الخفيف لما ابتلي بما هو أصعب منه ..
ومجددا قطع عليه حبل أفكاره قائلا
الإمام: هل ما زلت تبحث عن عمل ؟
أجاب عادل على الفور: نعم أيها الشيخ
الإمام: سبحان الله قبل المجيء إلى السوق كنت قد ودعت العامل الأسيوي الذي يعمل في البقالة التي امتلكها .. فلقد توفى والده .. فاضطر للسفر ولا يعلم متى سيعود .. لذا البقالة تحتاج إلى عامل.. فإذا كنت تريد العمل فيها ..
قاطعه عادل سعيدا بما سمع قائلا
عادل: نعم أريد .. أنا في أمس الحاجة إلى العمل
بدأ عادل يزاول مهنة جديدة .. لكنه هذه المرة أكثر إصرار على المواصلة مهما كانت الظروف والتحديات .. لن يفر من قدره بعد اليوم ..
كان عادل يدعو الله كثيرا أن يصرف عنه أي بلاء في عمله الجديد .. وكان طيلة وقته في العمل خائفا يترقب فقد اعتاد .. ما أن يستقر في عمل حتى يأتي ما ينغص عليه استقراره .. لم يشعر بمضي الأيام .. فقد كان يستفيد فترة الصباح من مواعظ الإمام .. ويستأنس العصر بأحاديث كبار السن الذين يتحلقون حول البقالة .. وفي المساء يلعب الأطفال بجوار البقالة فيلاعبهم ويداعبهم وهكذا مرت الأيام يوم بعد يوم حتى أكمل شهرا في العمل في البقالة .. لم يشعر به أبدا بل فاجئه الإمام حينما أعطاه راتبه .. وأعطاه يوميته الأخيرة جراء عمله في المسجد .. لم يصدق عادل عيناه .. فهذه أول مرة يمسك مبلغا كثيرا منذ يوم إفلاسه .. أخذه عادل وابتعد قليلا عن البقالة وتأكد من أن الإمام لا يراه فأخرج النقود مرة أخرى ظل يعدها مجددا وهو سعيد ..أخذ يتمتم بكلمات الشكر لله على توفيقه له ولأنه صرف عنه كل المنغصات لمدة شهرا كامل ..ثم قام بتوزيع المال فهذا سيسلمه لأمل تصرفه على نفسها وتساعد به أهلها .. وهذا سيدفعه على قلته لبعض الدائنين .. وهذا سيدخره من أجل توفير حياة كريمة له ولزوجته .. وأما هذا .. فسيتصدق به .. نعم سيتصدق هذه المرة صدقة شكر لله .. لن يعلم بها إلا الله .. فهو يعرف بيت أولئك المحتاجين الذين اعتاد أن يوصل أمل لتوصل لهم الصدقات .. وهم يعرفون أمل ولا يعرفونه .. لذا ستكون صدقة سرية لا يعلم بها حتى أقرب الناس لديه زوجته ..
اتجه عادل لبيت تلك الأسرة المحتاجة وهو يشكر الله مئات المرات .. كانت المسافة بعيدة بعض الشيء إلا إنه نوى أن يكون مشيه هذا لله .. وصل لبيت تلك الأسرة وقبل أن يقرع الباب أخرج المبلغ الذي ينوي التصدق به ونظر إليه وهو يقول في نفسه
عادل: يا رب تقبل مني .. واجعل هذه الصدقة فاتحة خير عليّ
طرق الباب ووقف ينتظر أن يفتح له أصحاب المنزل .. وما أن فتحت الباب حتى تسمر في مكانه وشعر بأن الدم تجمد في عروقه واجحظ عينه وتصبب جبينه عرقا .. لقد عُرض عليه في هذه اللحظات شريط حياته .. لقد تذكر كل شيء .. وأخيرا عرف سر تلك الإبتلاءات في حياته .. إنها عبارة هذه المرأة الماثلة أمامه التي هزت بدعوتها السموات والأرض حين قالت " رب أني مغلوب فانتصر " .. ظل عادل يرجع للخلف .. لقد بدأ قلبه يخفق بشدة .. وشعر بأن كل شيء يلعنه ويطارده .. لذا فر هاربا وهو يركض .. أما عن المرأة فلم تعرفه .. فعادل الذي خدعها ذات يوم .. كان شابا مفتول العضلات أنيقا رشيقا يرتدي أفخم الملابس ويضع أجود العطور .. أما هذا فصورة مغايرة لما سبق ذكره .. استغربت المرأة من تصرفات هذا الرجل الذي طرق عليها باب منزلها وظنت بأنه مجنون لا يعرف ماذا يفعل .. لذا أغلقت بابها وعادت لأعمال بيتها ..
أما عادل فظل يركض في الطريق يشعر بسياط " أني مغلوب فانتصر " مسلطة على ظهره تجلده بشدة .. لقد عرف أخيرا .. سر مرض بهجة .. ولماذا ماتت بسمة .. عرف سبب ذلك المرض الذي جعله شبه ميت .. ولماذا ورغم تحسن علاقته بربه ظل منزوع البركة والتوفيق .. عرف لماذا طرده عمه من منزله وكرهه .. عرف لماذا أفلس .. ولماذا باع سيارته وبيته .. ولماذا فقد ابنته ولماذا انكسر كبريائه فعمل منظفا وحمالا وباعا في بقالة .. لقد عرف كل شيء الآن ..عرف بأنه قد غفل عن دعوة مظلومة .. ورب السموات والأرض لم يغفل عنها .. فأين يفر الآن وأين يهرب .. ورب المغلوبة ينتصر لها♻يتبع ..
بقلم: 🖊حفيدة النبي 🖊