في كل مرة أجلس في حضن أمي تبدأ بمداعبة شعري و تخبرني عن اليوم الذي ولدت فيه ، كانت تكرر نفس العبارات
" قال لي الطبيب وقتها مبارك يا سيدتي إنه ولد سليم و لطيف ماذا ستسمينه ؟ و أجبت بكل فرح سأسميه ساني "
دفعتها و قلت :" لمَ أسميتني هكذا ؟ "
عانقتني بكل قوتها و أجابت :" لا أعلم لكنه اسم ظريف "، قبلتني على عيني ، ابتسمت و قالت :" لا تهتم لهم لن يؤذوك ما دمت حية "
كلماتها جعلتني أذرف الدموع ، رددت إليها العناق و بكيت بحرقة وقتها ، ما زلت لا أعلم لماذا ....
بعد ذلك اليوم ، بدأت عامي الثاني في المرحلة الإبتدائية ، لم أحيِّ أحداً من أصدقائي المقربين ، ولا حتى معلميَّ المفضلين ، ليس كرهاً أو نفراً و إنما ...
لم أعد أراهم ...
فقدت قدرتي على رؤية الأشياء بطريقة طبيعية في سنتي الأولى ، للحديث أكثر ، سأذكر ما حدث لي من البداية ...
قبل ولادتي ، أخبر الطبيب أمي أنه وجد *جيناً* قد يؤثر على حاسة البصر عندي ، أو قد أولد أعمى في أسوأ الحالات ، أصابها اضطراب شديد لكنها كانت تتماك نفسها قدر الإمكان ، لكن برحمة الله ولدت سليماً ، أظن ، عمت الفرحة الأجواء ، كانت أسعد لحظة في حياتها ، تكرر رواية فرحها يومياً عليّ ، هذا ما جعلني و كطفل ألا أخبرها بأي شيء يحدث لي ...
عندما أصبحت في الرابعة ، و كنت واعياً على أن أمي تأخذني اسبوعياً لزيارة الطبيب المختص بالعيون ، لم أكن أدري بمقدار الألم الذي أحدثته لها عندما علمت أني أعاني من طول نظر في البداية ...
حالة طبيعية تصيب الكثير من الناس ، لكن في حالتي ، كانت تعلم أنها مختلفة ...
فقد أصر الطبيب على أنه طول نظر ، أما هي فكانت تعلم أنني أرى الأشياء بحجم مضاعف ، كنت أخبرها ، و كانت تسألني كل مرة عن شيء مخلتف إلى أن عرفت ...
أصبحت حالة عينيًّ أسوأ ، فقدم لي الطبيب نظارة ، كنت وقتها في سنتي الأولى من الإبتدائية ، ما كان يزعجني هو أن النظارة تجعل رؤيتي أسوأ ، فبدونها أرى الأشياء على طبيعتها ، لولا أن أمي تخبرني أن حجمها أصغر ، لكن ما أراه بالنظارة أمر مختلف تماماً ، أرى الأشياء بشكل معوج ، و قد يصبح على شكل دوامة أحياناً أخرى ، ظللت ألح على أمي بأن أخلعها ، لكنها و في كل مرة تمنعني ...
و من وقتها ، كانت أول مخالفة لأوامرها ، فقد كنت أذهب للمدرسة بالنظارة ، و أخلعها عند وصولي ، و ظللت على هذا الحال فصلاً كاملاً ...
رؤيتي للأشياء لم تتغير ، بل أصبحت أسوأ ، ما كنت أراه بالنظارة ، صرت أراه بعينيَّ المجردتين ، عندما اكتشفت أمي الأمر ، عاقبتني و أخبرتني أن كل هذا بسبب فعلتي الغبية ، أخذتني للطبيب مجدداً ...
لكنه أخبرها أن عينيَّ أصبحتا بحال أفضل ، ولا حاجة للنظارة بعد الآن ، لم أعد أفهم كيف يعطي الأحكام ، أليس من المفترض أن تكون على صحة رؤيتي ؟ لكن لا أستطيع الجزم ، فأنا لا أتلقى الكلمات منه ، بل من أمي ، هي تخبرني بما يقول ...
و أنا كطفل ، لم أتوقع أنها قد تكذب عليّ أبداً ...
بعد أسبوع من القرار الرسمي بترك النظارة، بدأت رؤيتي تختلف أكثر ، الألوان انعكست و بعضها ذاب ، أصبحت أشكال زملائي مضحكة ، كوحوش التي كنت أرها في التلفاز ، وحوش ظريفة في البداية ، كنت أضحك بلا وعي كلما أراهم ، كانت على فترات متناوبة ، كنت أضحك و أسخر ، إلى أن اكتشفت أن الأمر سيدوم للأبد ...
لازمتهم الأشكال المضحكة بدايةً ، حتى أصبحت أشكالاً تقشعر لها الأبدان ، أصبحوا كالوحوش التي لم أتمنَ أبداً رؤيتها ، صرت أرى الكوابيس في النهار ...
عزلت نفسي عنهم ، بتُّ أجلس في زاوية الصف ، و أرحل بسرعة من المدرسة ، أحس أنهم سيأكلوني إذا بقيت معهم أكثر ..
لكن في يوم مشؤوم ، أقل وصف ممكن ، تعرضت للتنمر ، فمن كنت أسميهم أصدقائي سابقاً ، اعترضوا على الحالة التي أُلت إليها ، فاجتمعوا كلهم ضدي و ضربوني تنفيساً عن غضبهم ، كانوا أطفالاً لا يفهمون طريقة أخرى ..
عدت للمنزل بصعوبة ، فقدامي تأذيتا أكثر ما يمكن ، و عندما رأتني أمي على هذه الحال جن جنونها ، لم ترضَ أن تسكت حتى تعرف من فعل هذا بي ، على العكس منها أنا كنت هادئاً و لم أرد التكلم ، أخذتني للعيادة للعلاج ...
و التقت هناك بطبيب العيون ، نبرتها انخفضت ، و كانت ترتجف ، على الأقل هذا ما لاحظته برؤيتي المشوهة ، فكل شخص منهم قد اتخذ شكلاً غريباً ، و باستطاعتي تمييزهم كلهم ، أحياناً أراهم بصعوبة على صورتهم الحقيقية ، كنت طفلاً لا أعلم كيف أفسر رؤيتي ...
بعد دقائق من تركي على الكرسي أنتظر أمي ، انتابني الفضول لمعرفة ما الذي يتحدثان عنه ، نزلت و تحسست طريقي تابعاً للصوت ، و أخيراً وجدت الباب ، فتحته قليلاً لأسمع الحوار ...
" لكن يا امرأة أخبرتك قبل أسبوع أن ابنك قد فقد نظره "
كانت أمي تبكي :" لا أرجوك هو ما زال يرى الأشياء و يتعامل معها بطريقة طبيعية "
" كيف أوضح لك أن هذا أمر عادي بعدما كان يرى الأشياء ، فقد حفظها كلها ، و يملك قدرة السمع لتمييز الأشياء ، لذا لا تعطي الأمر أكثر من حده و استسلمي "
ذعرت من كلماته ، و سقطت على الأرض ، قمت بهدوء و رجعت لكرسي الانتظار قبل انتباه أمي ..
يومها عادت أمي و هي تكبت دموعها ، يداها كانتا ترتجفان و كأنها بالفعل قد فقدت الأمل نهائياً ..
بعدها بيومان ، أحضرت لي شيئاً ، نظارة أخرى ، لكن جعلت عالمي أسود تماماً ...
استسلمت للأمر الواقع ، و لم أخلعها بعد ذلك ..
لكن هي و أنا نعلم أني لست أعمى ...
![](https://img.wattpad.com/cover/96231456-288-k923319.jpg)