المقدمة

11K 152 7
                                    

كانت الفتاة الشابة الجالسة إلى الكرسى خلف طاولة عملها فى زاوية الغرفة البسيطة التى تدل على فقر هذه الطالبة القادرة على كسب قوتها بنفسها ترتجف تحت وطأة النظرة القاسية للرجلين والتى أصبحت أكثر فأكثر تهديدا
كان الرجلان المتشحان بالسواد قد رفضا الجلوس مكتفين بفك أزرار معطفيهما الشتويين الثقيلين اللذين كانا يحملان آثار الثلج المتساقط فى الخارج ، كان وجه الكاهن يبدو قاسيا تطهر عليه الصرامة بأخلاق متزمته ، كانت قد نسيت فضيلتى التسامح والشفقة .
وهناك بجانبه كان يقف السيد فاريل بوجه يبدو أكثر لطافة 
- لا أهم ماذا تريدان تمتمت الفتاة بعد وهلة من الزمن ، أنا وجوردان متزوجان ولا شئ يستطيع أن يفرق بيننا أبدا
- متزوجان ! أحقا ! قال الكاهن بصوت خافت : أو تملكين الجرأة يا آنستى لإستخدام هذه الكلمة المقدسة لوصف الإرتباط بين مراهقين غير راشدين كانا أمضيا بضع دقائق أمام القاضى ثم لاذا بالفرار ؟ أتعتقدين فعلا أن اثنين باستطاعتهما الاتحاد إلا أمام الله وبواسطة أحد الكهنة ؟
أسدلت ماريكا عينيها ولم تجب بشئ فإذا بالسيد فاريل يقترب منها : ماريكا ، أنت تحبين ولدى أليس كذلك ، تمتم السيد فاريل بصوت ناعم
رفعت ماريكا رأسها ببطء ولم تكن بحاجة للكلام فالتعبير الذى حمله وجهها الجميل كان يعلن بصراحة عن الحب العظيم الذى تكنه لـجوردان
- إذا كنت تحبينه حقا ، فلن تقفى فى وجه سعادته ، فأنت شابة جميلة يا آنستى لكن عليك أن تفهمى أن هذا الزواج سيكون عبئا على ولدى طوال حياته
همت ماركا أن تحتج لكن والد جوردان لم يتح لها الفرصة وتابع :
لا تقولى شيئا ، أعرف ماذا ستقولين : الحب طبعا
الحب يا آنستى هو اختراع رومانسى معد لجعل الناس الذين لا يملكون شيئا يحلمون به
ابتعد السيد فاريل خطوة إلى الوراء وأخذ يتفحص ماريكا من رأسها حتى أخمص قدميها ثم قال :
- أكرر لك يا آنستى إن جمالك ليس بموضع شك وقد أصبحت الآن أقرب إلى فهم استسلام ولدى لجاذبيتك إن من واجبى الآن أن أسوى هذه الحماقة التى ارتكبتماها فأنا لا أريد لولدى أن يندم على هذا الزواج المتسرع بقية حياته
- إن لدى السيد فاريل كل الأسباب التى تجعله يتوقع لابنه مستقبلا لامعا 
قال الكاهن ثم أضاف : ثم إن هذا الزواج المتهور يضع مستقبله المهنى الواعد فى خطر
ثم تنحنح الكاهن محاولا أن يجعل صوته أكثر صفاء قبل أن يتصدى لليقظة الحساسة فى الحديث وتابع :
- أنت شابة راشدة يا آنستى وعليك أن تعى أنه يلزم شاب كجوردان زوجة ... كيف أعبر عن ذلك ....؟ زوجة تنحدر من إحدى العائلات العريقة المعروفة فى هذه المدينة
امتقع وجه ماريكا وأمسكت نفسها عن إطلاق صرخة ألم أو القيام بأى تصرف آخر للإلقاء بهذين الرجلين خارجا إلى سلم البناء الذى تقطنه ، لكنها كانت قد نجحت فى امتصاص هذه النقمة
- سأكون صريحا معك يا آنستى ، أضاف السيد فاريل ، إن جوردان قد بدأ عمله فى السلك الدبلوماسى ، وأنا واثق بأنه سيصل إلى القمة وسيعالج أكثر القضايا العامة فى هذه البلاد ، لذا فهو بحاجة إلى امرأة تدعمه فى هذه الحياة التى ستكون مليئة بالمطبات السياسية ولنقل بصراحة : لا أعتقد أن فتاة مثلك من أصل مهاجر مجرى لها القدرق ان تكون هذه المرأة .... أبدا
أمسكت ماريكا نفسها ولم تذرف دمعة واحدة فقد كانت متأكدة من أن هذا ما كان ينتظره الرجلان ، إنها ضعيفة باكية فأخذت نفسا عميقا ونظرت محدقة إلى الكاهن وقالت :
- كنت أعتقد أننا جميعا متساوون أمام الله
لم يبد الكاهن أى علامات التأثر وأجاب قائلا :
- أنت محقة يا ابنتى فنظرة الأب الخالق هى نفسها للجميع لكن علينا أن نعترف بواقع هذا العالم الدنيوى
صرخ العجوز فاريل بعد أن نفذ صبره :
- يجب إلغاء هذا الزواج فورا ....
صرخت ماريكا :
- هذا مستحيل ! فأنا أحب جوردان ، وهو يحبنى أيضا ولا شئ سيفرق بيننا أبدا ، ثم أننى لا أقبل أن تحدثنى باسم ولدك
- مع الأسف ! على أن أخبرك أن ولدى السيد فاريل كان قد اقتنع بالخطأ الذى ارتكبه بزواجه منك ... وبما أننى مرتبط بالاحتفاظ بسر الاعتراف المقدس ، لذلك لا استطيع أن أفصح لك عن أكثر من ذلك يا ابنتى .. قال الكاهن 
- لكن ان جوردان ليس مجنونا !
أضاف العجوز فاريل :
- فليس هناك سبب يجعله يرهن مستقبله من أجل علاقة عابرة ... إن ابنى يريد إلغاء هذا الزواج وإليك الوثيقة
كانت الأصابع الرقيقة للفتاة الشابة ترتجف بينما كانت تفض ببطء الظرف الأبيض الذى قدمه لها السيد فاريل والذى كان يحمل على ظهره خط جوردان الذى تعرفه جيدا وفتحت ورقة بيضاء تحمل الكلمات البسيطة :
عزيزتى :
لقد كنا على خطأ ، وأعتقد أنه من الأفضل أن ننهى علاقتنا عند هذا الحد ، ونطوى الصفحة ، دون أن نحاول رؤية كل منا للآخر . أنا آسف على الألم الذى سببته لك ووداعا 
جوردان "
أخذت ماريكا تعيد قراءة هذه السطور عدة مرات دون أن تفهم معنى هذه الكلمات المرصوصة أمامها ، ومع كل كلمة تعيد قراءتها كان هناك شئ ما يتحطم فى داخلها
- مهمتنا ليست سهلة ، أضاف الكاهن بصوت أراده أن يبدو لطيفا :
أنا واثق بفهمك للوضع وأنك ستوقعين على هذه الأوراق
استطاعت ماريكا - بعينيها المليئتين بالدموع - أن تميز حزمة الأوراق البيضاء التى قدمها لها السيد فاريل ، وشعرت بشجاعتها تخونها :
قالت لنفسها وهى تتناول قلم الحبر :" فلماذا إذن المقاومة "
وأخذت توقع بشكل آلى الأوراق التى كان الرجلان يقلبانها بسرعة دون أن تفكر بالأم الذى سيحمله إليها هذا التصرف
قال العجوز فاريل : " لقد إنتهى الفصل الدراسى فى الجامعة ومن الأفضل أن تغادرى بوسطن ، أنا أعرف أنك كنت قد حصلت على منحة دراسية هنا . لكن إليك ما يساعدك على الحصول على القبول فى جامعة أخرى ، والاستقرار هناك 
كان صوت انتزاع الشيك من الحزمة قد جعل الفتاة الشابة ترتعش دون أن تقول شيئا ، ثم فكرت أنه بعد كل هذا من الأفضل لها أن تبتعد ... فرؤية جوردان مجددا ، ولو بالصدفة ى حرم الجامعة ستكون تجربة قاسية جدا بالنسبة لها 
أغمضت ماريكا عينيها وهى تشعر بفراغ كبير يسكن داخلها
أضاف فاريل :
- أعتقد أنه لا حاجة لى لأن أذكرك بضرورة كتمان الأمر
فأى ذكر للزواج أو لإبطاله ستكون ردوده سيئة جدا
وصرخت ماريكا وهى تنهض من كرسيها : اخرجا ... اخرجا من هنا فورا
- يا انستى ! حاول الكاهن أن يكلمها
لم تسمع ماريكا للمزيد فقامت وصفقت باب غرفتها فى وجه هذين الزائرين المشؤومين 
جلست ماريكا وراء طاولتها لمدة من الزمن غير قادرة على الحراك ، كان الثلج يهطل فى الخارج فى ليلة باردة جدا ، وكانت ماريكا تعيد قراءة السطور التى كتبها جوردان : كيف يمكن لهذا الحب الكبير والسعادة العظيمة ان ينتهيا بهذه السطور الخمسة القصيرة؟.
أخذت ماريكا تسأل نفسها ، وأخذت تجول بنظرها فى أركان هذه الغرفة الصغيرة حيث كانت سعيدة جدا بهذا المسكن الفقير لطالبة والذى تحول إلى جنة عندما كانت تعيش مع جوردان
عادت ماريكا بذاكرتها إلى اليوم الذى التقت فيه جوردان فى مكتبة الجامعة حيث كانت تعمل بعد الإنتهاء من الدراسة فى الجامعة لتغطى مصاريفها .. كان جوردان قد ابتسم لها ودعاها إلى تناول فنجان من القهوة فى بيت الطلبة
كان كل شئ فيه يغريها ، قامته الرياضية ، شعره البنى المجعد الذى يتساقط على جبهته العريضة ، عيناه الحادتان الواسعتان على وجه الخصوص اللتان غرقت فيهما باكرا . جلسا يتحدثان فى الكافتيريا لوقت طويل حتى جاء النادل ليخبرهما أن وقت إغلاق المحل قد حان وطلب منهما الخروج
لقد استمرا على هذا المنوال لوقت طويل فقد كانا يعملان لوقت متأخر فى المكتبة ثم ينهيان السهرة فى تلك الكافتيريا المعدة للطلبة .
كانا قد التقيا أكثر من خمس عشرة مرة ومع ذلك لم يحدث أى شئ بينهما ، فقد كان المظهر البرئ لماريكا قد منعه من أية محاولة حتى من أن يحلم بها فى الليل فقد كانت أشبه بعذراء من عصر النهضة الإيطالى ، شعرها الأسود الطويل الذى يحيط بوجه ذى تقاطيع منتظمة جميلة وفم صغير مرسوم بنعومة .
وذات ليلة وبعد خروجهما من الكافتيريا تعانقا أخيرا متناسيين البرد القارص وبعدها بعدة أسابيع جاءها جوردان يطلب منها الزواج ، اعترضت ماريكا فى البداية حيث أنه لم يمض وقت طويل ليتعرفا كل منهما على الآخر بشكل جيد ، ثم إنه كان عليهما أن ينتهيا من الدراسة ... إلا أنها لم تلبث أن رضخت لرغبة جوردان الذى كان مقتنعا بما فيه الكفاية فتزوجا فى عطلة رأس السنة
لقد عاشت ماريكا فى أحضان جوردان سعادة كبرى لم تستطع من خلالها أن تشك فيه فقد كان كل يوم يحمل لهما قدرا جديدا من السعادة
وفى عطلة نهاية الأسبوع التى تلت الأول من كانون (يناير) عادا لإعلان زواجهما لعائلتيهما ، كانت الدهشة قد اعترت وجهى والدى ماريكا لكنهما سرعان ما عبرا عن سعادتهما بهذا النبأ عندما رأيا السعادة تفيض من وجه ابنتهما ، أما عائلة جوردان فلم يكن لوقع النبأ أى صدى جيد أو محبب لديها ، فما زالت ماريكا تذكر جيدا أحداث تلك الليلة حيث كانت عائلة فاريل القادرة تشعر بكل تلك النقمة
كانت موجة الغضب الصامت تعتريها كلما تذكرت الأم الذى سببه لها الزائرون العابسون
فعندما رن جرس الباب ركضت ماريكا لفتحه فقد كانت تتوقع حضور جوردان حيث كانا قد اتفقا على قضاء أمسية الجمعة عندها فى البيت ، وكانت قد حضرت لذلك زجاجة من الشراب ووضعتها فى الثلاجة كانت قد أحضرتها من عند والديها اللذين قد افتتحا مطعما فى فيلادلفيا ... ولكن إذا بها تفاجأ برجلين يرتديان السواد ويحملان رسالة من خمسة أسطر ... حطمت كل شئ
قالت ماريكا هى تضرب بأصابعها على جهاز الهاتف الذى تناولته مترددة : أريد التحدث إلى جوردان فاريل
- من يتكلم يا آنستى ؟ أجابها صوت رزين
- ماريكا فاريل أجابتها ماريكا بصوت متأثر وهى تلفظ الأحرف الأخيرة من الاسم
تلا ذلك صمت ثقيل مزعج ، خيل معه لماريكا أنها تسمع صوت مؤامرة قبل أن يعود مدير الفندق ليكلمها 
- السيد جوردان ليس هنا سيدتى
- حسنا هلى بإمكانك إخباره بأن زوجته قد اتصلت به ؟
سألته ماريكا بصوت حازم ، عقبد صمت طويل محرج أخبرها المدير أنه سيوصل رسالتها إلى السيد فاريل ، أغلقت ماريكا السماعة ببطء ثم خبأت وجهها بين يديها :
فهى لم تعد زوجة جوردان منذ أن قبلت أن توقع الأوراق التى قدمها لها العجوز فاريل والكاهن ، كان الألم الذى أصابها قد أصبح أشد قسوة
أمضت ماريكا ما بقى من النهار وهى بإنتظار الهاتف أن يرن ثم أخذت تتذكر النظرة الحديدية للعجوز فاريل : فهل سيستطيع جوردان أن يقاوم لزمن أطول مما استطاعت هى ؟ كانت الساعات الطويلة التى مرت تجيبها على تساؤلها فجوردان قد استسلم كما أنه لن يبحث عنها ليراها ، ولا حتى ليكلمها على الهاتف
عندما دقت الساعة الثانية عشرة ليلا فى ساعة الجامعة لم تستطع ماريكا أن تمنع دموعها التى سالت بغزارة على خديها ، كان ألمها قد أوحى لها بالاحتفال العظيم الذى تقيمه عائلة فاريل بهذه المناسبة لقد تخيلتهم يوزعون أقداح الشراب احتفالا بابنهم الذى خرج من الورطة ، وهو الآن يحضر نفسه لمستقبله السياسى المشرق الذى أراده والده
ارتمت ماريكا على سريرها وأخذت ابكى لساعات طوال فهى لم تستطع أن تبعد عن تفكيرها فكرة أنها ستعيش بدون جوردان
فهى لا تتخيل نفسها شيئا بدونه ، والمستقبل ليس له معنى بدونه أيضا
عندما أفاقت ماريكا فى صباح اليوم التالى كانت ذكريات الليلة الماضية تجرحها وتمسها فى أعماقها ، لقد خيل إليها أنها تعيش أحداث فيلم مرعب ، كانت الصورة الأخرى لفتاة تعسة مملوءة بالحزن قد ارتمت فى سريرها بكامل لباسها وهى تبكى لساعات طويلة ، أدارت ماريكا وجهها من الفراش لتتأكد من انه ليس بجانبها فى السرير مثل كل صباح عندما كانت تنهض من الفراش لتحضر له الفطور .. كان السرير خاليا وباردا لقد فهمت الآن لن تجده بجانبها أبدا ، لن تستطيع لمسه بعد اليوم ولا أن تحس بحرارة صدره وهو يطوقها
- كيف استطعت ان تفعل بى كل هذا يا جوردان ؟ أخذت ماريكا تهمس لنفسها أن الطفلة التى تسكن فى داخلها قد كبرت تلك الليلة وأن أمرأة سوف تنزل إلى معترك الحياة بطاقة يحركها اليأس

كفاح وتضحية ، للكاتبة ميشيل برينت  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن