دخلت إلى غرفتي و أنا تائه من وقع الرسالة ، لا أنكر أنني شعرت بالصدمة لمعرفة أن الفتاة التي أنا معجب بها اشد الإعجاب و أريدها زوجة في الحلال بكماء لا تتكلم ، مرت أمامي عيني المئات من الصور للمستقبل و نظرات الآخرين كانوا عائلة أم أصحاب ، كانت صورا غامضة و مزعجة في البداية ، لهذا فتحت الظرف مجددا و قرأت رسالتها عشرات المرات ، و في كل مرة أتلو فيها كلماتها أحس كم أنا دنيء لأنني أردت وضع حاجز ليس موجودا في الأصل ، كيف لي أن ألومها على وضع لم تختره بإرادتها ؟ ، ثم تذكرت لو كنت أنا أيضا أعمى أو أصم أو أبكم أو مقعد ، بماذا سأشعر لو رفضني الجميع لشيء كان مقدرا علي ؟ ، أنا دوما تعيس و حزين مع أنني معافى الصحة و بدني سليم ؛ هي القوية و ليست أنا !! بإبتسامتها البريئة ؛ و رضاها بقدرها و نصيبها ، و إجتهادها في دراستها ، و صدق مشاعرها النبيلة ، شعرت حينها بنقصي لأنني تركت الأمر للتفكير بالجانب السلبي ؛ ثم لاحت في الأفق صورتها الرقيقة التي جعلتني أكره أنا أيضا الكلام ، أنا الذي أحتاجها بشدة .
وجدت أمي في المطبخ تعد وجبة العشاء ، أردت أن أفاتحها في الموضوع لكنني كنت أجهل تماما ردة فعلها ، حسمت الأمر و أخدت قراري النهائي مسبقا ، لكنني مع ذلك كنت أشارك والدتي في معظم الأمور الجدية كي تقدم لي نصائحها ، ظننتها أنها ستتفاجئ أو سترفض القصة بتاتا ، لكنني بادرتها بالحذيث فكانت تصغي إلي بإهتمام و هي تبتسم ، لم أتوقع أن تشجعني على المضي في إختياري ، فرحت كثيرا حين قالت والدتي أن الله سيمنحني زوجة لن تخوض في حذيث يغضبه ، و علي أن أكون ممتنا للقدر و الصدف لأنني عثرت على إنسانة متعلمة و ستحسن تربية أطفالها في المستقبل ، كدت اجن من فرط السعادة لأن أمي متفهمة و طيبة كعادتها دوما معي و مع إخوتي ، قبلت يدها و جبينها ثم أخبرتها أنني لن أخون ثقتها يوما ، كانت تعلم جيدا أنني لن أفعل ، لم تصلها أي شكوى مني إلى المنزل طول فترة مراهقتي ، كانت تبكي لحظي التعيس دوما في مواجهة الحياة ، لكن تفاؤلها الأخير هذا منحني قوة و طاقة أكبر للفوز بالفتاة التي أصبحت أحبها ، تلك الليلة نمت و كأنني أمير ، بيتنا المتواضع صار قصرا جميلا ، و أحلام الأمس الحزينة تحولت إلى أمنيات سعيدة.
في الصباح الباكر توجهت إلى رب العمل ، أخبرته بأنني سأغيب ليوم واحد لأسباب خاصة ، و لأنني كنت مجدا وافق بسهولة و تركني أذهب لحال سبيلي ، كنت مصرا على مقابلة فتاتي الصامتة مهما كلف الأمر ، وجدت قدماي تسيران إلى المكان الذي تمر منه دائما ، و انتظرتها هناك لمدة طويلة لكنها لم تأتي ، عدت بعد الظهيرة و كلي شوق لرؤيتها و إخبارها بانني مستعد للفوز بقلبها في النور ، طعم الإنتظار قاتل لكن ظني لم يخذلني هاته المرة ، يا إلهي !! كم هي جميلة و فاتنة ب حيائها و خجلها ، لمحتني هي أيضا من بعيد ، إبتسمت لأن ملامح وجهي فضحت هذا السعيد ، و كلما إقتربت أكثر كلما أحسست بقوة أكبر ، ألقيت التحية عليها !! ظل كلانا صامتان لمدة قليلة ، كرهت حقا الكلام في حضورها البهيج ..مجرد النظر إليها كاف كي أنظر إلى العالم الذي كرهته بعين التفاؤل و السرور ، كتبت لها رسالة بسيطة في البيت ، بالنسبة لفتاة متعلمة و مثقفة مثلها ربما بدت لها أفكاري ساذجة لكنها حقيقية ، سلمت إليها رسالتي و أخبرتها أنني أريد لاحقا الجواب مع عنوان منزلها ، أمسكت الورقة و ظلت مبتسمة كعادتها ثم غادرت لدراستها ، احببت تواصلنا عبر الرسائل ، كنت أقف حائرا مندهشا أمام تعبيرها الراقي المميز ، كرهت جهلي و انعدام ثقافتي ، لكنني شعرت و كأنني فارس خرج منتصرا وسط معركة منزوعة السلاح ، أرسلت إلي عنوان منزلها و رقم هاتف والدتها فكنت سعيدا جدا لأنها فعلت ، طلبت من أمي أن تتصل بهم و تستعد الأسبوع القادم للذهاب لخطبتها من عائلتها ، كانت أسرتي الصغيرة سعيدة من أجلي ، أجبرتني والدتي على وصف فتاتي الصامتة لكنني لم أجد وصفا حقيقيا لها ، قلت لها أنها فقط ملاك يمشي فوق الأرض ، فأجابتني والدتي مازحة أنها بدأت تغار منذ الآن ، لكنني قبلت يديها ثم أخبرتها أن حب الأمهات لا يحتاج منافسة ، الأم كلمة يسهل نطقها بالفم .
دخلت إلى غرفتي !! ، لبست بذلتي ..ثم سألت نفسي السؤال الذي طرحته عدة مرات عليها ...هل سأرفض للمرة الرابعة بسبب بساطة مهنتي؟ .
أخرجت المال الذي كنت أحتفظ به منذ وقت طويل ، ذهبت إلى الحلاق و الحمام ، إبتعت باقة من الورود المتنوعة و علبا من الحلويات الفخمة ، كنت واقفا أمام باب منزلنا انتظر أمي التي تبحث عن قوالب السكر ، قلت لها ليس ضروريا حمل كمية من السكر إليهم فهي عادة اكل عليها الدهر و شرب ، لكنها طلبت مني أن أصمت و لا أتذخل في مشاريع النساء ، أغلقت فمي ثم حملت الهدايا و الورود و القوالب و إتجهت برفقة أمي و أبي و أخي الكبير يحيى لخطبة فتاتي الرقيقة.شعرت والدتي بإرتباكي و أنا أضغط على جرس المنزل ، طلبت مني أن أكون رجلا واثقا و ليس غبيا مترددا ، كانت نصيحة لا بأس بها لكنها لم تأتي في الوقت المناسب ، فتح الباب لأجد أمامي شخصا عابس الوجه ، ذكرت حبيبتي في أحد رسائلها أن اباها طيب رغم القسوة التي تظهر على ملامحه ، فعلمت أنه القدر المنتظر !! رحب بنا ببرودة ثم دعانا للدخول ، مجرد البداية جعلتني أتخيل أن النهاية أسوأ ، جلسنا و بقينا صامتين لوقت لا بأس به ، بعدها بادلني والدها الحذيث عن الحياة كمقدمة سريعة للدخول في العرض و الخاتمة ، تصببت عرقا و أنا اجيب بحذر على كل أسئلته ، ثم طرح السؤال الذي كنت أنتظره منذ البداية ،
- ما هو مجال عملك بني ؟
- أشتغل يا عمي في مجال البناء .
_ جميل ، هل تملك مقاولة بناء ؟ أو تعمل في الإدارة فقط ؟
- لا يا عمي ، أنا مجرد عامل بناء بسيط .
- يعني أجير !! و هل لديك منزل ؟ أم تقطن مع أهلك ؟
- حاليا لقد بنيت في الطابق الثاني غرفتين و حماما و مطبخا بمجهودي ، لكنني أنوي العمل بجد حتى أشتري شقة أو أبني منزلا خاصا .- جميل ، جميل ...تشرفت بمعرفتك بني و بأسرتك ، دعونا نفكر في الموضوع قليلا و سنتصل بكم ، بالتوفيق لك ...لم ينطق أحدنا طول الطريق ، لا أنا و لا أمي و أبي و لا أخي الكبير ، لقد كان العرض سريعا لدرجة ملفتة للنظر ، و كأننا طردنا بطريقة لبقة و مؤدبة ، لم تستطع والدة ليلى الطيبة الكلام لأن زوجها دكتاتوري ، أخبرتني حبيبتي الصامتة بأن امها موافقة على زواجنا لأنها فهمت مدى صدق علاقتنا ، دخلت إلى غرفة النوم التي بنيتها حذيثا بنية الارتباط بفتاة ما ؛ سرير جديد ؛ أثاث جميل ، نظرت إلى المرآة فوجدت أنني رجل لا ينقصه شيء لكن حظي عاثر ، دخلت أمي لتواسيني فقد كانت حزينة جدا من أجلي ، حضنتني ثم قالت أن المتزوجون عقد قرانهم في السماء قبل الأرض ، كلمات والدتي ساعدتني على النوم و التفكير في الغد ، ..رغم رفض والدها الظاهر ، رفضت أنا أيضا فكرة الاستسلام .
عدت إلى العمل بمزاج سيئ و نشاط أقل ، لم اكره عملي يوما لأنني اكسب رزقي بعرق جبيني ، أردت فقط التأكد من تشبث ليلى بي كي اواجه العالم من أجلها ، كنت أعلم أنها غير مهتمة لفقري و بساطتي ، فتاتي الصامتة أعجبت ب الإنسان قبل كل شيء ، عدت في المساء إلى البيت و أنا مرهق من التفكير ، إختسلت النظر طول النهار من نافذة المبنى الذي أشتغل به لعلني المحها و أحاذثها ، لكنها لم تذهب للجامعة مدة أسبوعين ، إنقطعت أخبارها عني ، كرهت الواقع والحياة بشدة لأنهما يظلمان الصادقين و المحبين ، تلاشت إبتسامتي أنا أيضا شيئا فشيء ، دخلت إلى الغرفة الجديدة مرة أخرى ، تخيلت ليلى هناك تنتظرني بسعادة و أنا عائد متعب من العمل ؛ مجرد تخيلات بعيدة عن الحقيقة ؛ ليس من حقي السعادة ؛ نصيبي الشقاء فقط في عالم السافلين .
مر شهر و أنا أبحث عن طريقة للتواصل معها ، أصبحت أتسلل كل يوم من العمل و أقف كالمجنون أمام الجامعة التي تدرس بها ، لكن بدون جدوى !! ؛ كنت أعود خائب الآمال ؛ منهزم المعنويات ، مجروح المشاعر ؛ و مشتت الأفكار ، ذات يوم و أنا عائد من عملي التعيس إستوقفتني أمي و علامات الحزن بادية على محياها ، اخبرتها بسرعة ما الذي حصل ، ثم قالت لي أن والدة ليلى اتصلت بها و هي تبكي لتخبرها أن ابنتها اضربت عن الطعام منذ مدة طويلة و لا تريد الخروج من غرفتها أو رؤية أي أحد ، زاد حزني من أجلي و أجلها و في نفس الوقت شعرت بأن عشقي لها يكبر يوم بعد يوم ، دخلت إلى غرفتي ، وضعت كل رسائلها السابقة فوق سريري ، ثم "أقسمت على الزواج بها مهما كلفني الأمر من مخاطر و مغامرات ، احضرت قلما و ورقة ثم كتبت :
إلى الفتاة الرائعة التي جعلتني أكره الكلام و أعشق الصمت ، الحب يساوي الكفاح ؛ و الصبر أساس النجاح ..و سيموت قيس إن غابت عنه ليلى ؛ و هل ترضين حبيبتي أن أفقدك كي أموت كل ليلة ؟ ، من أجلي و اجلك ، كوني قوية !! و لنواجه واقعنا بكل شجاعة ؛ على الأقل سنجد شيئا نحكيه لأبنائنا في المستقبل . ..""
أنت تقرأ
عشق_صامت
Roman d'amourفأسأل نفسي هل ستوافق فتاة متعلمة مثلها على الارتباط بشخص معدم بائس مثلي ، لقد رفضتني الكثير من الفتيات لأن عملي بسيط و متواضع في حرفة البناء ، لكن الفقر لم يمنعني يوما من التقدم في الحياة و الحلم بإنشاء أسرة بسيطة ....