الفصل العاشر والحادي عشر قتلتني عيناها

3.1K 112 3
                                    

الفصل العاشر والحادي عشر قتلتني عيناها
(لا أصدق أنني افعل هذاولكن على مايبدو وصلت
للحالة التي لا استطيع أن أكابر فيها أو أعاند أكثر ..
سمعت أن كتابة الشيء قد يخفف من وقعه بالنفس وبما أنني لا أستطيع البوح لأحد عمّا يعتمل بداخلي إذا سأكتب مذكراتي عسى أن أجد بعض الراحة..
"ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو لاعجبتكم"
ربما كانت هذه الآية هي تلخيص ما مرّ بي الفترة
السابقة.. صدمة تلو الأخرى جعلتني أدرك ما فرّطت به بغباء منقطع النظير!
اكتشفت أنني لم أحب كارين قط، كان إحساسي بها محض إعجاب ممتزج بتمرد على كل تحكمات أبي، هربت للخارج حتى أتابع دراستي ولكني بالحقيقة كنت أبحث عن منفذ للهرب من تحكمات أبي وتدخله السافر بكل ما يخصني، حتى زواجي والذي من المفترض أن اختار عروسي بنفسي تدخل ابي ففرض عليّ حنان ابنة عمتي..
لا عيب بالفتاة أبدا ولكن إجباري على إتمام تلك
الزيجة جعلني أعاني من مشاعر متمردة على كل
تحكمات أبي ورغبانه وبخلال هذا كله قابلت كارين، فتاة عكس كل ما أراده أبي يوما وربما يكون هذا من أكثر الأشياء التي جعلتني أتمسك بها حتى لو خسرت أبي وعائلتي بأكملها.. وتخيّلت بكل غباء أن أبي سيرضخ لما أريده عندما يرى تمسّكي بها وسأنجح بفرض سيطرتي وتحديه ولو مرة واحدة ولكن على من أضحك!
لم يوافق أبي بل وطردني مخبرا إياي إذا لم أرجع
عمّا أنتويه فعليّ نسيان عائلتي تماما..
ولكني لم افعل، لم أرضخ له بل تزوجتها بفورة
مشاعر منتشيا أنني لم أنفّذ رغبة أبي وعارضته
ربما للمرة الأولى بحياتي ولكن هل أنا سعيد بعد كل هذا؟! هل كانت كارين هي الفتاة التي أبحث عنها؟!
هل استحق ذلك كل ما خسرته؟!
للأسف لا.. صدمتي الأولى كانت بليلة الزفاف والذي لم يحضره أي من اسرتينا، لأصدم بالفارق الشديد بيني وبينها!
لقد كنت متوقعا بالطبع ولكني كنت آمل أن تكون
كالصورة التي رسمتها بخيالي ولكن.. ليس كل ما
يتمناه المرء يدركه.
ولكني حاولت نسيان الأمر، حاولت ٱنجاح هذا
الزواج وكأنني أحاول ان أقف امام أبي واثبت له
أنني كنت محقا وحياتي جيدة كما تمنيت وأكثر
حتى كانت الصدمة الثانية..
حمل كارين ورغبتها بالتخلص من الحمل!
وقتها جنّ جنوني وهي تتحدث عن عدم عيش
حياتها وأنها صغيرة وتريد التمتع بالحياة لا ان يثقل
كاهلها بطفلة!
ولكني أجبرتها على إكمال الحمل وعدم إجهاضه
فقد شعرت أن هذا الحمل هو الأمل المتبقي لي
بهذه الحياة.
،،،،،
اليوم جاءت ابنتي للحياة بعد ليلة عصيبة قضيتها
بالمشفى فولادة كارين كانت متعثرة وكأن الطفلة
تأبى أن تأتي للحياة! وكأنها تعرف ما ينتظرها من
أم لم تنظر لها حتى نظرة واحدة بل سارعت
بالتوقيع على أوراق الطلاق للمعدة سلفا!
هل صُدِمت بها؟!
بالواقع لا، لم اصدم بها أبدا ففي الفترة الأخيرة
شعرت وكأني لم أعرفها قط.. كانت تراودني مؤخرا الآية وكأنها تلومني لأني فرّطت بابنة عمي دون ذنب من أجل نوبة تمرد حمقاء ولكن قُضِيَ الأمر.
على الرغم من انفصالي عن كارين إلا أن اليوم كان
أسعد يوم بحياتي لأن الله منّ عليّ ب رُسُل..
صغيرتي المدللة، وأميرتي المميزة.
كلما نظرت إليها اكتنفني شعوران متناقضان..
السعادة لأن الله منحني أملا بالحياة بعدما شعرت
أن كل الطرق قد أُغلِقَت بوجهي، والخوف عليها مما قد تواجهه عندما تبدأ بالإدراك!
ولكني لا أملك من أمري شيئا لذا سأفوّض أمري لله وسأحاول أن أفعل كل شيء حتى تعيش صغيرتي بسعادة وراحة.
،،،،
اليوم ستكمل رُسُل عامين وأنا أجهز لها حفل رائع
سأكون أنا وهي و... چون!
حسنا هل تصدقون هذا؟!
انا نفسي لا أصدق.. غريب هذا الرجل چون!
كيف يأتي يوميا لرؤية ابنتي والأكثر غرابة كيف
أستقبله وأنا أعلم أنه صديق كارين؟!
ولكني لم أستطع أن أمنعه من رؤيتها فقد
رايت شغفه بها وحنوّه عليها بل رأيت تفاعل رُسُل
معه وضحكاتها الصغيرة كلما زارنا ومحاولاتها
نطق اسمه والتي تفرحه بقوة فيضمها لصدره
مبتسما وبعينيه دمعة تحيّرني.. لذا لم أمنعه ولا
أظنني سأستطيع يوما منعه إن لم يكن من أجله
فمن أجل صغيرتي.
،،،،
خمس سنوات مرّت منذ جاءت رُسُل للحياة وقد
كانوا أكثر خمس سنوات سعادة بحياتي بأكملها،
النظرة بوجهها تمنحني الأمل بغدٍ أفضل، تعطيني
دفعة للاجتهاد أكثر بعملي والذي كان السبب بعدم سفري.. فكيف كنت سأسافر وأنا لم آخذ الخبرة الكافية التي تخوّلني أن أفتتح مشروعي الخاص الذي حلمت به مرارا؟!
كيف سأعود لبلدي وأنا لم أحقق شيئا؟ كيف أعود
واواجه ابي وأنا لازلت كما أنا لذا كان عليا المكوث
هذه السنوات حتى أستطيع مواجهته بقوة.
وبالرغم من كل ذلك أسال نفسي هذا السؤال يوميا: هل ندمت يوما أنني لم أعد لبلدي بعد ولادة رُسُل مباشرة؟!
والإجابة هي أجل ندمت كثيرا ولكني سأصحح هذا
الخطأ قريبا جدا فقد آن أوان العودة لبلدي ولعائلتي وأتمنى ألا أكون تأخرت وفات الأوان.
،،،،
يا إلهي! لا أصدق مدى جرأة هذه المرأة!
كيف تطالب بحقها ب رُسُل الآن وقد ألقتها من
لحظة ولادتها ولم تطلب حتى رؤيتها كأي أم
طبيعية؟!
حقا لقد طفح الكيل ولولا بعض تعقل لكنت ضربتها ضربا مبرحا ولكن أنقذها چون عندما أصطحبها للرحيل..
تملك الجرأة لتهددني بأخذ ابنتي لو سافرت لبلدي!
هل رأيتم وقاحة اكثر من ذلك؟!
الطفلة التي لم تعرفها يوما تهددني الآن بأخذها لو
حاولت أن أعود لبلدي.. ولكني لن أرضخ لها،
فقط سأتوخى الحذر وسأطلب مساعدة صديقي
محمود .
،،،،
لا أعلم لِمَ أشعر بانقباض صدري وشيء يكتم
أنفاسي!
ربما لأنني لأول مرة بحياتي ألجأ للخداع ولكن
كل هذا من أجل رُسُل، من أجل أن تنشأ ببيئة
أفضل، في كنف عائلتها وبلدها.
سأرسل رُسُل غدا مع محمود صديقي لمصر،
فأنا لا آمن جانب كارين أبدا، أحيانا أشعر أنها
تكرهني ولكني لم أفهم السبب قط.
أشعر بشعور غريب وكأني سألقى حتفي قريبا
او سيحدث شيء سيء.. ما هو؟ لا أعلم!
إنه مجرد شعور قد يخطئ وقد يصيب.
ولكن تحسبا لكل شيء أوصيت نورية شقيقتي
الوحيدة وأحمد زوجها وابن عمي ب رُسُل،
فلو حدث لي ما يسيء سيصلون ل رُسُل وستكون
تحت رعايتهما بعيدا عن تلك المرأة..
كما أوصيت محمود أن يعود بها لمصر مهما حدث
وها أنا اجهّز كل شيء لعودتها معه غدا والشعور
السيء يزداد بداخلي ولكني أحاول تحاشيه بقوة
حتى لا أفسد لحظاتي مع رُسُل فربما لن أراها مرة
اخرى وتكون هذه لحظاتي الأخيرة معها لذا
فانا أريدها لحظات سعيدة ربما تتذكرها فيما بعد).
أسندت رأسها على مقعد الطائرة وهي تغمض
عينيها وتستمع للتعليمات وعقلها يستعيد كل كلمة
كُتِبَت بهذا الدفتر والذي حملته معها ولم تفلته منذ قرأت ما به وحتى استقلت الطائرة المتجهة لمصر .
تشعر كأنها نبتة اجتثّت من الأرض ليس لها منشأ ولا منبع!
تائهة كطفلة صغيرة لا تعلم ماذا تفعل وكل هذه
المشاعر تختلج بداخلها!
فتارة تفرح لأن والدها على قيد الحياة وتارة أخرى
تشعر بالخوف.. هل سيتقبلها والدها؟!
هل ستتقبلها عائلتها؟!
هل ستجد استقرارها أخيرا؟!
عادت الكلمات تهاجمها وهذه المرة كانت كلمات
چون التي وجدتها بعد مذكرات والدها:
(لسنوات لم أستطع أن أكتب شيئا بهذا الدفتر
الذي وجدته مع أغراضك ولكني هذه المرة سأحاول وأدعو فقط الا تكرهيني بعدما تعرفي الحقيقة كاملة.
منذ اللحظة التي وقعت عيني عليكِ وقد وقعت
بغرامك بقوة، وكانني عاشق أغرم بمعشوقتي
ولكني هذه المرة أغرمت بطفلة نظرت لي ببراءة
وكأنها حمّلتني عهدا أن أظل محبا ومراعيا لها ما
حييت!
لقد شعرت بالأبوّة معكِ قبل أن أرزق بأطفال
بسنوات فكنت لكِ والدا وصديقا ولم تتغير مشاعري مطلقا حتى يومنا هذا.
رُسُل، لقد أخطأت بحقك عندما استمعت لكارين
ولم أرسلك لأهل والدك ولكن هل تصدقيني لو
اخبرتك أنني لم أعرف لهم طريقا إلا مؤخرا!
لقد أخفت كارين الدلائل جيدا فلم أستطع أن أعلم
عمّا فعلته أو كيفية الوصول لأهل والدك.. حتى
علمت أن نور مازال على قيد الحياة، بل ولم يفقد
الأمل بعودتك له يوما وأنه يأتي كل فترة ل لندن
حتى يبحث عنكِ ولكن كارين تجيد إخفاءك ولا
اعلم حقا كيف فعلت طوال تلك السنوات!
ولا أعلم حقا هل تخفيكِ عنه عقابا له لتركه إياها
أم لشيء آخر لا أعلمه بعد !
ما يهم الآن أنني وجدت عنوان زوج عمّتك
وهو مدوّن بطريقة الوصول إلى منزله بالتفصيل
بنهاية الدفتر..
لقد حافظت على الدفتر طوال تلك السنوات حتى أسلّمه لكِ وفعلت ما إن عرفت أن والدك على قيد الحياة واستطعت الوصول لهذا العنوان.
لن أطلب منكِ السماح لتخاذلي امامها ولكني
سأطلب فقط ألا تكرهيني والا تكرهي أندي وديانا
فهما لا ذنب لهما وانا أعلم أنكِ لن تبتعدي عنهم
حتى لو عدتِ لوالدك الحقيقي.
أحبك رُسُل، أحبك ابنتي وأتمنى أن تسامحيني
يوما).
****
ليلة زفاف عامر ولين
لا يصدق أنها أصبحت زوجته أخيرا بعد كل هذه
السنوات!
لقد عرفها منذ كان طفلا وكانت اولى خطواته لعالم الرجولة هي نبضاته التي هتفت باسمها ..
ظلّت مشاعره حبيسة داخله حتى نضج وتاكد أنها
هي من ملكت قلبه وعقله، أنها هي الزوجة التي
تمناها دوما.. حتى انه لم يصارحها سوى مؤخرا
عندما اثبت نفسه بالعمل وأصبح قادرا على الارتباط بها ولكن....
آه من هذه ال لكن التي هدمت كل آماله بلحظة
عندما أخبره جده بما ينتويه لو وجدوا ابنة خاله يوما!
هو لم يستسلم كما فهم والده هو فقط كان يهادن
جدّه حتى يجد حلا جذريا لتفكيره الغريب.. جده لم يتغير حتى بعدنا كاد يفقد ولده مرة بعد مرة !
ظلّ على جموده وتفكيره الغريب حتى هذه
اللحظة..
لقد بذل مجهودا جبارا لإقناعه بالزيجة حتى لا
يحدث مثلما حدث مع خاله نور ونبذه حتى وقته هذا لأنه لم يرضخ لما يريده جده بالزواج من أخرى
بعما فشل بالعثور على ابنته.
زفر بضيق وهو لا يعجبه حال خاله ابدا، كلما أراد
مفاتحته بالامر حدث شيءا فيؤجل الحديث حتى
شعر بالضيق من الوضع كله وارتأى الصمت.
التقط هاتفه واتصل على زوجته..
ابتسم يتذوق الكلمة بمتعة فقد تم عقد القران منذ
أسبوع وهو لم يرها من وقتها بسبب التقاليد الغريبة التي ترى أن رؤية العريس للعروس قبل العرس فألا سيئا على الزيجة ولين تؤمن بذلك للأسف فاكتفى باتصال باليوم كما أمرته حتى يشتاق لها كما قالت..
الم تعلم هذه الحمقاء انه يشتاقها وهي امام عينيه؟!
طال الاتصال ولا رد فعقد حاجبيه وهو يكرر
الاتصال وكاد يفقد الأمل بالرد ولكن بآخر رنة فُتِحَ
الخط ووصله صوتها النزق:
"ايه يا عامر! ماردتش اول مرة يبقى مشغولة اكيد..
ولما اشوف الرقم هتصل بيك انا مش كده يعني"
رفع حاجبه بصدمة قبل ان يقول:"ومشغولة عن ايه ياختي في يوم فرحنا؟! لا وقال ايه لما اشوف
الرقم هطلبك.. ده على اساس انك مش هتكوني
معايا النهاردة !"
وخفت صوته وهو يقول بمشاكسة يعلم انها تغضبها:"وفي حضني"
وكما توقع وصله صوتها الخجول وهي تصطنع
الاستياء والغضب قائلة:"ماتحترم نفسك يا عم انت"
"عم أنت!! هو انا هتجوز الاسطى مجدي الميكانيكي وال ايه!"
"نعم! انت بتسخر مني يا عامر؟ طب ايه رايك بقى
ان مفيش فرح النهاردة وخلي الاسطى مش عارف
مين الميكانيكي ده ينفعك"
قالتها بغضب فضحك عاليا وهو يقول مشاكسا
بخفوت:"ويرضيكي جوزك حبيبك ينام لوحده
النهاردة؟! ده انا بقالي سنين بتمنى اليوم ده"
وصلته تنهيدتها الحارة وتبعها قولها:"اممم طيب
عادي اللي يستنى سنين يستنى زيهم كمان"
هتف بغيظ:"اقفلي يا لين بدل ما اجي اجيبك من
شعرك من غير لا فرح ولا بتاع.. قال استنى زيهم
قال ده انا شعري شاب وانا بستنى اليوم ده"
ثم خفت صوته وهو يقول بشغف:"الا شعرك لسه
حلو زي ما هو وال كنت بتكويه بمكواة رِجل ايامها؟!"
"اقفل يا عامر بدل ماحلف اني الغي الفرح وابقى
وريني بقى هتعمل ايه وقتها؟!"
ضحك عاليا صثم ما لبث ان سمع صوت جرس
الباب فأغلق معها وهو يقول:"بحبك يا مجنونة".
****
خرج ليجد والده فتح الباب الذي تقف امامه فتاة
محجبة يبدو عليها الارتباك ولكنها تبدو مألوفة على الرغم أنه يكاد يقسم أنها المرة الأولى التي يراها بها وما إن همّ بالسؤال حتى صدح صوت خاله:"رُسُل!"
ارتد للخلف بعنف وهو ينقل بصره بينهما ويلاحظ
تجمد الفتاة وهي تنظر لخاله نور بعدم تصديق!
أما خاله فقد تجمد للحظات قبل أن يركض ليصل لها ثم وقف امامها وهو يقول:"انتي رُسُل صح! قولي ان انتي رُسُل بنتي!"
بالكاد لمح إيماءة من رأسها قبل أن يغمرها نور بحضنه ضامّا إياها بقوة ودموعه تنهمر على وجنتيه دون أن يحاول حتى مسحها فيما راقب الموقف مع والديه اللذين سالت دموعهما من المشهد الماثل أمامهما.
مشهد لو كُتِبَ بآلاف الكلمات لن توفيه حقه
بالوصف!
لا يصدق أن خاله اجتمع مع ابنته بعد كل هذه
السنوات ولا يصدق حتى أنه عرفها على الرغم أنه
لم يرها منذ كانت بالخامسة!
أغمض عينيه بقوة وفتحها ليجدهما على نفس
المشهد ليحاول ان يهتف بمرح:"ايه يا خالو هتفضل موقفها على الباب كده طب دخّلها وبعدين احضنها زي مانت عايز"
وكأن كلماته كانت المفتاح السحري ليتغير المشهد
فينتبه نور أنه مازال على باب المنزل فقادها للداخل فيما اغلق احمد الباب بهدوء وهرعت لها نورية وهي تلتقطها من حضن نور وتدخلها بحضنها هي قائلة:"الغالية بنت الغالي.. الغالية بنت الغالي"
لقد ظلّت شاردة امام باب المنزل بعدما غادرها صديق عمر الذي لجأت إليه هو وصفاء بعدما قرأت الدفتر وطلبت مساعدتهما وقد قدما لها كل مساعدة ممكنة بداية بحجز الطائرة ثم توصيتهما لصديقهما أن يكون بانتظارها بالمطار وإيصالها للعنوان المرفق بالدفتر وقد كان.
هل كانت تتخيل هذا الترحيب؟ هل كانت تتخيل أن يعرفها والدها من الأساس؟!
حقا لقد ذُهِلَت مما حدث فبلحظة كانت تطرق الباب وباللحظة التالية كانت بحضن والدها وها هي الآن بحضن عمتها كما خمّنت..
مشاعر غريبة انتابتها وكأنها كانت تائهة منذ وقت
طويل وها قد حطت على بر الامان.
تنهيدة طويلة أفلتت منها قابلتها زفرة حارقة من
أعماق نور وهو يعود لضمها مرة أخرى بعد أم
صافحها احمد وعامر واحتكرتها نورية لفترة.
"هو احنا مش هنسمع صوتك وال ايه يا رُسُل؟!
مكسوفة مننا؟! طب فاهمانا اصلا وال نتكلم
انجليزي؟!"
قالها ضاحكا فابتسمت له بخجل وهي تقول:
"فاهمة، لا تقلق"
رفع حاجبه بإعجاب قائلا:"حلو اوي بتعرفي عربي
وكمان بتتكلميه!"
"افهم اكتر، الكلام مش اوي"
ابتسم لها قائلا بمشاكسة مرحة:"استني لما تقابلي
لين مراتي هقعدك معاها اسبوع هتطلعي من هنا
بتردحي بالمصري"
ضحك احمد وهو يقول:"هي مجنونة ولايقة عليك
والله يا عامر"
عقد عامر حاجبيه قائلا:"ده انا نسيت ان النهاردة
فرحي، الساعة كام؟ هقوك الحق الحلاق"
نهض بتخبط مضحك جعلها تبتسم وهي تشعر
بالراحة له وقد وضعته بخانة الأخ الأكبر على
الرغم أنها علمت انه بمثل عمرها ولكنها شعرت
بنظراته وكأنها تعدها بالحماية والدعم من شيء
مجهول لا تعرفه.
رمقت عمتها بمرح قائلة:"هو كده دايما؟!"
ضحكت نورية وهي تربت على كتفها بحب قائلة:
"على طول مجنون وعروسته مجنونة زيه، الله يعينا عليهم"
"فرحت كتير ان اليوم فرحه واني هحضره، صدفه
حلوة"
قالتها رُسُل بلهجتها المختلطة فابتسمت نورية
قائلة:"احنا المحظوظين ياقلبي عمتك ان الفرحة
بقت فرحتين بوصولك لينا بالسلامة"
ظلّت ترمقها بحنو ثم قالت:"انا مش مصدقة نفسي لحد دلوقتي، يااه الف حمد وشكر ليك يارب"
تركتهما وزوجها لتجد نفسها مع والدها الذي لم
ينطق سوى باسمها منذ رآها.
التفتت له قائلة بخفوت:"بابا!"
انتفض بقوة وهو ينظر لها بشوق وكأنها لم تكن بين أحضانه منذ لحظات ليزرعها بصدره بقوة وهو
يتمتم:"الحمد لله.. الحمد لله"
سالت دموعها مجددا وهي تضم نفسها إليه بقوة
تضع رأسها على صدره وهي تشعر بنبضاته تشارك
نبضاتها قوة وتأثيرا فتنهدت بقوة وهي تقول مثله:
"الحمد لله"
ابتعدت عنه ببطء لتشعر بتشنّجه فابتسمت بحنو
وهي تقول:"عايزة اشوفك بس"
استجاب لها ولكنه ظلّ ممسكا بها فرنت إليه بشغف غير مصدقة أنها معه حقا بعد كل هذه السنوات وبعدما عاشت طويلا دون أب.
"عرفتني ازاي؟!"
سالته بلهفة فابتسم برقة:"هتصدقي لو قولتلك
معرفش! من اول اليوم وانا حاسس ان فيه شيء
هيحصل.. عشان كده جيت بدري مع اني قولتلهم
مش هاجي الا على معاد الزفة بالليل.. واول ما
شوفتك حسيت بحاجة غريبة بقلبي ولقيتني بقول
اسمك وكأني كنت بتمنى انك تكوني هي"
ابتسمت وهي تشعر أنها على وشك البكاء مجددا
ليتابع بابتسامة:"بس اتأكدت اكتر لما شوفت عنيكي، عنيكي مميزة وماتلاقيش زيها الا نادرا ده لو لقيتي"
همّت بالحديث ليقاطعهما دخول آخر شخص يريد
نور رؤيته بهذه اللحظة.
****
مستلقيا على الفراش أفكاره تدور بدوامة ليس لها
من قرار!
منذ رحيلها وهو هائم على وجهه لا يريد التفكير بأي شيء، وزيد يلومه على تركها على الرغم من حبه لها لا يعلم أن نبأ لم تكن العائق الوحيد فهناك عائق يخشاه أكثر من أي شيء.. ألا وهو مشاعرها!
يخشى أن تكون مشاعرها محض إعجاب بعروبته
وشرقيته، يخشى ان يكون محض حلم بخيالها كما سمع مرار من خولة فتكون أحبت صورته وليس هو!
وعلى الرغم من عدم اقتناعه تماما بما يفكر به إلا أن الخوف يسيطر عليه بقوة ويجعله يخشى الذهاب خلفها..
هل تحبه حقا ام تحبه صورته الشرقية التي طالما
حلمت بها؟!
سؤال يراوده منذ رحلت وحتى هذه اللحظة لم يجد له جوابا.
انتفض على اقتحام زيد الغرفة قائلا:"انت لستك
مالبست كرار؟! الطيارة ما بقى اله شي، ماكو عليه
غير ثلاث ساعات"
تململ كرار وهو يقول:"اني ماروح ويكم زيد، ليش
تردون اروح لعرس ناس ماعرفهم!"
زفر زيد بضيق قائلا:"شلون متعرفهم؟ هو انته
متعرف بنت خالتك؟!"
هتف بسخرية:"بنت خالتي هاي اصلن اني ماشوفته غير مرتين وبس"
جذبه من ذراعه بقوة وهو يقول:"كرار كوم البس
بسرعة على ما جهز چنطه خفيفه، ابويا هواي
متعصب ويريدنا بظرف عشر دقايق نروح"
استجاب لجذبه وارتدى ما وصلت له يداه وحالما
انتهى كان زيد انتهى من تجهيز حقيبة خفيفة
وخرجا معا ليجدا الجميع في انتظارهما بالسيارات.
****
كان جالسا بجانبها بالطائرة فلاحظ عبوسها فهمس لها:"شبيچ خولة؟!"
"هواي قلقانه على رُسُل، دزّت الي برساله تطمني
عليها بس وماردت على تليفوناتي، مبعرف شنو
صاير معها.. هاي كله بسبب كرار او اكو شي تاني"
طمأنها وهو يحتضن كفها بين كفيه بحنو قائلا:
"ماتخافي رُسُل قويه تره بس هي مو مبين عليها،
عوفيها خاي الفتره حتى ترجع على طبيعتها"
ثم أكمل داخله:(فشقيقي الغبي مازال يكابر ويعاند
قلبه واتمنى فقط الا يخسرها فوقتها لن يفيد الندم".
،،،،
في الجانب الآخر كانت نبأ بين كرار الذي غطّ
بالنوم ما إن صعد على متن الطائرة فيما ظلّ ضي
يحترق بجوارهما من تجاهل نبأ العلني له وعدم
تدخل أي أحد بينهما حتى يعيد لها عقلها الذي فقدته بنوبة غضب على مايبدو.
زفر بضيق قبل ان يقول:"شوكت راح تحددين موعد العرس نبأ، كافي عاد لعب جهّال (اطفال)"
رفعت حاجيها باستفزاز بارد وهي تقول:
"شنو دخلك انت بعرسي؟! وشنو يهمك منه؟!"
"طبعا راح اتدخل لانو اني العريس"
ضحكت بسخرية وهي تميل عليه قائلة:
"بس بأحلامك ضي"
همّ بالحديث بحدة فقاطعه نهوضها وتركها للمكان
متجهة لمكان جلوس والدها وعمها وعلى مايبدو
ستبدّل المكان مع من يجاورهما فقبض كفه بقوة
وهو يجبر نفسه على الصمت وغدم افتعال فضيحة بالطائرة وهو يتوعدها بداخله أن يذيقها العذاب أضعافا عندما يتزوجا، لترتسم ابتسامة متشفية على وجهه وهو يفكر كم سيكون العذاب لذيذ معها عندما تكون زوجته وبين أحضانه!
***
بعد أسبوعين
"چون!"
قالتها بوهن لينتفض چون مكانه ممسكا بالهاتف
وهو يهتف بعدم تصديق:"رُسُل! ابنتي، أنتِ بخير
أليس كذلك؟! أرجوكِ أريحي قلبي المفجوع عليكِ فأنا أكاد أجن منذ اختفيت ولا أعرف لكِ طريقا.. ماذا حدث معكِ حبيبتي؟! أين أنتِ؟ أخبريني هل أذاكِ أحدهم؟! منذ عدتِ من تلك السفرة من العراق وأنتِ لست على مايرام ماذا حدث معكِ هناك؟! رُسُل أخبريني بنيتي ماذا يحدث معكِ وأين أنتِ؟!"
قابله صمت مطبق وصوت أنفاسها فقط هو ما يصله ليقول بإدراك وببطء:"أنتِ قرأتِ الدفتر أليس كذلك؟ أنتِ بمصر رُسُل! هل... هل قابلتِ والدكِ؟! كيف كان لقاؤكما؟! هل كرهتيني رُسُل؟!"
تهدّج صوته بآخر جملة لتهتف مؤكدة:
"لم ولن أكرهك يوما چون، تأكد من ذلك تماما"
لم يستطع الرد ولكنها شعرت بدموعه على الرغم من الصمت الذي لا يتخلله سوى أنفاسه ومحاولة
كتم نشيجه ولكنها عرفت.. عرفت انه يبكي وكانت
المرة الأولى التي يفعلها طوال حياتهما معا!
عرفت أنه نادما، عرفت أنه تمنى لو لم يساعد كارين بل لو لم يجعلها تراها من الأساس!
عرفت وتعرف أكثر من ذلك لذا هي لا تكرهه.. لن
تستطيع كرهه ابدا فقد كان والدها لسنوات طويلة
رعاها وأحبها ولم يفرق بينها وبين اولاده قط فكيف تكرهه؟!
****
فتح الباب ليجد والده امامه، لم يندهش فقد كان
بانتظاره منذ عادت رُسُل إليه ولكن أن يأتي إليه إذا هناك ما يريد قوله.. أشار له بالدخول وهو يقول:"اتفضل يا حاج"
دلف للداخل وما إن أغلق نور باب المنزل حتى
استدار ليواجهه وهو يقول:"انا جايلك بكلمتين يانور لو نفذتهم هترجع ابني حبيبي وبنتك هتفضل في حضنك لاخر العمر ولو ماسمعتهومش وعارضتني يبقى تنسى ان ليك اهل"
لم تتغير ملامحه وكأنه كان يتوقع ما قاله والده
فقال بجمود:"خير يا حاج؟!"
"بنتك لازم تتجوز من عامر ابن عمتها".
نهاية الفصل
🎉🎉🎉
الفصل الحادي عشر قتلتني عيناها ... قراءة ممتعة
قبل شهر
"محمود لكيت رُسُل"
انتفض محمود من مكانه وهو يهتف:"بتتكلم بجد يا حسين؟ بجد لقيت رُسُل؟"
ضحك حسين وهو يقول:"لا اني أخابرك علمود اضحك وياك وبس عندي فراغ هوايه ماعرف شلون أضيعه"
ابتسم محمود بإحراج وهو يقول:"معلش يا حسين بس انت عارف الموضوع مهم اد ايه وبيني وبينك انا كنت بدأت اشك ان البنت فعلا لسه عايشة بعد كل السنين دي من غير طرف خيط واحد"
"ما اصدك اني اعرف البنيه من اربع سنوات, بس ما شفتها غير من كم اسبوع واتكدت بس انو هي البنيه اللي جنت تدور عليها البارحه"
صمت قليلا ثم قال:"وهنعمل ايه؟ هتقولها على نور؟!"
اعترض قائلا:"لا اكيد, البنيه ماتعرف انو ابوها لسه عايش, شلون اكولها فجأه؟ وبعدين نور هو الوحيد اللي لازم يكولها هذا وجها لوجه"
"أيوة صح عندك حق, طب هي قاعدة أد ايه عندكم!"
"اني اقنعتها انو هي تجي ويانه لعرس لين وعامر, وهناك راح يكون لنور حريه انو يحجي وياه بهدوء وبعيد عن امها"
هتف بسعادة:"حلو اوي, انا مش عارف اشكرك ازاي يا حسين.. بجد انا مش متخيل اننا نلاقيها بعد كل السنين دي, ده نور ممكن يجراله حاجة من الفرحة"
حذّره:"لا تكوله شي هسه, بس نجي على مصر.. يمكن رد فعله تكون متهوره وراح يفسد كل اللي سويناه"
أومأ وكأنه يراه ثم قال:"ايوة عندك حق, اووف انا مش عارف افكر.. حقيقي صدمة كبيرة ليا يمكن قبل نور, انا خلاص كنت قربت اصدق انها مش عايشة"
"اهدا محمود, ان شاء الله كلشي راح يكون بخير.. بس انتظر تليفون مني اخبرك بيه اللي حيصير"
****
بعد سفر رُسُل
"شلون نخليه تروح حسين؟ ماراح نكولها على ابوها؟!"
قالها محمد بعد تصديق فأجابه حسين:"شنو بايدي اسوي محمد؟ ماكدر اكولها، ميحقلنا احنه، بس لاىتخاف عرفت كلشي عنها وهكدر اوصل اله.. وراح انطي لنور المعلومات وهو حر بالتصرف بيها"
زفر بحنق وهو يقول:"خوش انا وياك, بس شلون نبقيها يمنه بعد مجرحها كرار الغبي"
شاركه شقيقه حنقه وهو يقول:"لا تذكرني محمد اني اريد اقتلهم سويه كرار وضي.. مدافهم شنو هذا الغباء اللي بيهم؟ شلون يضحّون بسعادتهم
وحبهم بهاي السهولة؟!"
التقط هاتفه بعدها واتصل بمحمود يخبره المستجدات ويطلب منه أن ينتظر حتى يصل لمصر ويخبرهم بكل المعلومات عن رُسُل .
****
ليلة زفاف لين وعامر
همّت بالحديث ليقاطعها دخول شخص ولكن ما لفت نظرها هو تجهّم وجه والدها وهو ينهض مرغما فنهضت معه تلقائيا لتجد الرجل الآخر يحدّق بها بطريقة غريبة ثم مالبث أن هتف بصدمة:"نوّارة؟!"
رمقته بعدم فهم ثم نقلت بصرها لوالدها الذي قال بجمود:"لا يا حاج مش نوّارة, دي بنتي رُسُل!"
حرّك رأسه بصدمة وهو يقول:"مستحيل! دي.. دي..."
ابتسم ببرود وهو يقول:"ايوة, شبه نوّارة وخاصة عنيها.. بس غريب انت لسه فاكر نوّارة يا حاج؟! فكّرتك بتكرهها ونسيتها"
"مستحيل أكرهها!"
قال بخفوت ثم انتفض فجأة وكأنه انتبه لما قال ليهتف:"انت متأكد انها بنتك!"
ابتسم بسخرية:"أظن انك موافقني انها لازم تكون بنتي، الشبه لوحده يأكد ده.. عنيها لوحدها من غير ملامحها تأكد ده.. عنيها نادرة وانت عارف كده يا... حاج"
عقد حاجبيه بقوة لتهمس رُسُل بقلق:"مين نوّارة؟!"
التفت لها نور بحنو وهو يقول:"والدتي.. الله يرحمها"
قالت بحزن:"ماتت! ياخسارة كان نفسي اشوفها"
ابتسم وهو يقول مشاكسا:"بصي في المرايه وانتي تشوفيها"
رفعت حاجبها بعدم تصديق:"أنا شكلها!"
زفر بخفوت وهو يقول متجاهلا والده الذي مازال واقفا محدقا بهما:"عنيكي نفس عنيها, وملامحك فيها كتير منها.. بس لسه مش عارف لون شعرك"
قالها غامزا وهو يشير أنها مازالت بحجابها لم تخلعه أو حتى تبدّل ملابسها
"انت لم تتركني"
صدح صوت من خلفها يقول مشاكسا:"معلش يا رُسُل، خالو مش مصدق نفسه انك قدّمه فعلا.. خايف يسيبك تجهزي للفرح لتختفي وال حاجة"
ضحكت قائلة:"لا انا قاعدة على قلبك"
ضحك عاليا ولم يلحظ جدّه الذي تجهّمت ملامحه من مزاحهما وعدم تعريف نور به كوالده..
"قاعدة على قلبك دي مصرية أصيلة، بس تعرفي انا استغربت انك بتعرفي عربي وتتكلميه كمان.. شكلك كده بتضحكي علينا وكنتي قاعدة في
مصر"
ابتسمت بحزن لاحظه على الفور وهي تقول: "اتمنيت ده بس.. القدر"
ضمّها نور مرة أخرى بقوة وكأنه يخشى أن تكون حقا سراب وتختفي على الفور ليلاحظ عامر جدّه الواقف بملامح غير مقروءة فانتفض مسرعا إليه وهو يقول:"جدي! اهلا بحضرتك وانا اقول البيت نوّر ليه.. اتفضل يا جدي واقف على الباب ليه كده؟!"
دلف جدّه لتسأل رُسُل بخفوت:"جدّك!"
"وجدّك انتي كمان على فكرة"
رمقته بفرح:"حقا؟!"
ضحك قائلا:"ماتثبتي على لهجة وال لغة.. دوّختيني"
ابتسمت بخجل فغمزها مشاكسا وهو يقودها تجاه جدّه فقد لاحظ تصلّب خاله وعدم ترحيبه به..
همس لها:"سلّمي على جدك وبوسي ايده"
هسمت بعدم فهم:"أوبس ايده ليه؟!"
كاد ينفجر ضاحكا ولكنه تمالك نفسه وهو يقول:"سلو بلدنا كده، اعملي اللي بقولك عليه عشان ماتتحطيش ف البلاك لِيست"
أومأت بخفة وهي تخطو تجاه جدها وتلتقط يده رافعة إياها لشفتيها تلثمها برقة وهي تقول: "سعيدة اني شوفتك جدي"
رمقها بغموض وكأنه مازال لا يصدق مدى الشبه وخاصة العينين!
ولكن لا.. فعينا رُسُل لطيفتين, خجولتين و... محبتين!
أما عيني طليقته فكانت تمتلئ بالقوة والتحدي و... الكره له!
أشاح بوجهه وهو يتقبل سلامها صامتا وبداخله آلاف الكلمات ولكنه صمت ولا يفهم لِمَ صمت حتى!
خرجت نورية بهذه اللحظة لتجد والدها فهرعت إليه وهي تلتقط كفه مقبلة ليربت على كتفها وهي تقول:"البيت نوّر يا بابا"
"ده نور بنت اخوكي اللي رجعتلنا"
تتابعت المشاعر على وجوههم وكأنهم صُدِموا بما قاله إلا رُسُل التي جلست بجانبه وهي تحاول أن تجد طريقة تخبره بها أنها تريده أن يضمّها..
كانت تريد أن تشعر أنه لها عائلة.. أب وجد وأخ .. عمة وعم وعائلة كبيرة طالما حلمت بها ولكنها ظلّت صامتة ترمقه بخجل وجوع لحنوّه وحبه..
أما هو فكان يرمقها بطريقة غريبة لم تفهما ولكنها شهقت بخفوت وهو يسحبها لحضنه وكأنه سمع نداءها الصامت وهي.. تمسّكت به بقوة كما فعلت مع والدها سلفا ولم تلاحظ الصدمة المرسومة على الوجوه ولا الابتسامة التي شقت طريقها لثغر عامر وهو يشعر أن هذا ال رُسُل سيكون لها شأن مع جدها قريبا.
****
وأخيرا حطّت الطائرة على أرض مصر, رحلة مملة!
هذا ما فكّر به كرار وهو يترجل من السيارة أمام الفندق الذي سيقام به الزفاف والذي حجز لهم محمود به أيضا بعدما رفض والده وعمه أن يقيموا لديه بالمنزل.
دلف إلى غرفته والتي يتشاركها مع شقيقيه وهو لا يريد سوى الاستلقاء بعد حمام دافئ مريح للأعصاب ووضع خطته قيد التنفيذ خاصة وهو
يلاحظ أن ضي يكاد يقتل أحدا وزيد يزيد باستفزازه فآثر تنفيذ ما فكّر به حتى لا يتصادم مع أي منهما.
عندما خرج من الحمام لم يجد أي منهما بالغرفة فاستلقى على الفراش وهو يحمد الله على هذه النعمة وما كاد يغفو حتى قاطعه رنين الهاتف فكاد
يلقي به بالجدار ليحطّمه ولكنه انتفض ما إن رأى رقم والده..
"خير يا يبه، في شيء!"
"وين انت كرار؟ العرس صارله من نص ساعة من بدأ"
عقد حاجبيه غير مصدق! هل نام كل هذا؟!
ولِمَ لم يوقظه هذان الغبيان؟!
"حاضر يا يبه راح انزل هسّه"
نهض وأدّى فرضه ثم ارتدى ملابسه التي أحضرها للزفاف وهي ما يرتديه عادة بالأعراس بالعراق .. الزي التقليدي الذي يعشقه والذي يجعله يشعر أنه عاد لأصوله ويجعله فخورا بجذوره القبلية.
شرد للحظات وهو يتذكر أن رُسُل كانت تحب الثوب العراقي التقليدي كثيرا وكان يرتديه بالمنزل أغلب الوقت فقط من أجلها..
من أجل أن يلمح تلك اللمعة الخجولة بين عينيها الفاتنتين.
زفر بقوة وهو يستقل المصعد نازلا لقاعة الزفاف وما إن دلف حتى قابله زيد الذي هتف به بلوم: "وين انت كرار؟ مو اني كعدتك من النوم كبل
مانزل وكلتلي راح انزل وراي بساع (مباشرة)! ليش لعد اتاخرت فوك؟"
رفع حاجبه مندهشا:"هذا كله كعدتني؟! ما تذكر شي"
رمقه زيد بريبة وهو يقول:"يمن احسلك تروح لى دكتور كرار، انت صاير غريب"
تجاهله كرار وهو يخطو تجاه والده وعمه اللذين يقفان مع محمود زوج خالته وأحمد الذي تعرّف عليه كوالد العريس وصافحهما بقوة ليقول والده:
"روح بارك لبنت خالتك وزوجها كرار"
قالها بنبرة غريبة لاحظها كرار ولكنه لم يعلّق وذهب بالفعل لمكان لين وعامر وما إن وصل بالقرب منهما حتى تجمّد تماما وهو يرمق رُسُل!
أغمض عينيه وفتحهما مرة أخرى ليجدها مازالت واقفة ولكنها لم تره انتفض خافقه بقوة وهو يخطو تجاهها عندما لمحها تتحرك وقد تناسى كل شيء عن عامر ولين والعرس ومن يراه ليقف أمامها قاطعا طريقها وهو يهتف باسمها بشوق:"رُسُل!"
همسته وصلت قلبها مباشرة فاضطربت نبضاتها وتعثرت بشيء وهمي لتسقط بين أحضانه مباشرة!
ازداد اضطرابها وهي تجده حقيقة وليس من وحي خيالها كما ظنّت لتهتف:"كرار! انت هنا فعلا!"
ازدادت ضمّته لها دون وعي وهو يقول:"هنا, وماراح اعوفك مره لخ رُسُل"
تحرّكت بين ذراعيه لينتفض عامر من مقعده عندما لاحظ ما حدث وهو يرى كرار يضم رُسُل فخطا إليهما وجذبها من حضنه ودون تفكير لكمه بقوة فارتد رأس كرار للخلف وكاد يهجم عليه مرة أخرى صارخا لتوقفه رُسُل وهي تقول:"لا يا عامر، ده.. أنا أعرفه"
"يعني ايه تعرفيه؟ مين ده؟!"
كان زيد وضي قد وصلا إليهم مع خولة ولين اللتين صدما مما حدث فقاد زيد عامر لمكانه قبل أن يلتفت إليهم أحد من المدعويين.
"اهدا يا عامر, هذا اخوي كرار"
كان عامر مازال يمسك بيد رُسُل وهو يجرّها معه حتى جلس بمكانه مرة أخرى وهو يقول:"اقعدي جنبي هنا, ومين ده تعرفيه منين؟!"
كادت تبكي من الموقف الذي وُضِعَت به ولكنها تماسكت وهي تقول:"ده اخو زيد زوج خولة صديقتي"
"ايوة يعني يحضنك بتاع ايه؟ وانتي ازاي تسكتيله؟! ا.."
قاطعه صوت نور الذي يقول:"ايه اللي بيحصل هنا؟!"
ألقت رُسُل بنفسها بحضن والدها وهو استقبلها بحنان يربت على ظهرها بقلق وهو يقول:"مالك يا رُسُل؟ حد ضايقك؟ حد عملك حاجة؟
فهّميني بس ايه اللي حصل وقّعتي قلبي"
تدخلت خولة:"ما صار شي عمو, بس رُسُل عاطفيه هواي"
ابتسم نور بمجاملة وهو يقودها مبتعدا عنهم يضمها بخوف وكأنه يخشى أن تختفي من بين يديه مرة أخرى وهو بالكاد وجدها.
قاد ضي كرار مبتعدا عنهم وهو يجرّه جرّا وهو يقول:"انت تخبلت (اتجننت) كرار؟ راح تسببلي نوبة قلبيه فد يوم من وره شغلاتك الغريبه المندفعه واللي اصلن متليق بيج, شلون تشبك (تحضن) البنيه كدام (امام) الخلق كله؟! اذا انته هيج تحبها ليش عفته تروح؟!"
"عوفني (اتركني) ضي, شلون انته تحجي عن الحب وانته سوّيت لبنت عمك تكولي راح تتزوجها وانته تحبها! اذا اني مخبّل فاني مثل اخويه الجبير"
زفر بقوة وهو يتركه قائلا:"اي احنا صدك اغبياء وحمقى مثل مكال زيد، شلون فكرت لو لحظه اني اعوف نبأ تتزوج غيري حتى لو جان أخوي؟!
محافظتي على الأصول وحجي جدي هو خلاني مخبل اعوف حبيبتي من وره شي تافه، لو صار جنت مت من القهر"
رمقه بضياع وهو يقول:"شسوي ضي؟ شلون اقرب منه بعد مجرحتها هيج؟ شلون اباوع (انظر) بعيونه شلون اكلّه احبج واني تسببت بأذيتها هوايه"
"لو عرفت شلون لكولتلك كرار, مبين راح نلجأ لزيد في النهاية، بس راح يتشفى فينل هوايه هذا الغبي"
قالها عابسا فضحك كرار رغما عنه وهو يتخيل زيد وهو يعطيهما دروسه الثمينة حتى يستطيعا أن يكسبا قلبا رُسُل ونبأ ويحوزا رضاهما .
****
دلفا إلى غرفتهما بالفندق بعدما انتهى الزفاف على خير وطوال الزفاف كان يرمق كرار بغضب.. يشعر أن هناك شيء غير مفهوم بالأمر، ورغم ذلك حمد الله أن جده لك يكن موجودا بالقاعة وقتما حدث ما حدث.. دمائه تفور كلما تذكّر مشهد كرار وهو يضم رُسُل وكأنها تخصه!
عقد حاجبيه وهو يتحاشى التفكير بما حدث حتى يركز على تلك المنكمشة والمتوترة، كاد ينفجر ضاحكا وهو يقترب منها ببطء وهي تفرك كفيها
بتوتر وخجل حتى شعر أن الدمائ كلها تجمعت بوجهها ليبادرها عندما وصل إليها:"وأخيرا!"
أجفلت ترفع رأسها حينما لاحظت أنه أصبح قريبا بخطورة وهي تهمس:"نعم!"
"مش ياللا بقى"
قالها بعبث غامزا فرمقته بريبة وهي تقول:"ياللا ايه؟!"
"يعني النهاردة الفرح وانا وانتي لوحدينا, يبقى ياللا ايه؟ الحدق يفهم"
تبعها بغمزة اخرى لتنتفض واقفة وهي تهتف بحدة:"انت قليل الأدب!"
أجفل وهو يقول بجدية مصطنعة:"قليل الأدب؟! عشان بقولك ياللا نصلي بقيت قليل الأدب؟!"
ارتبكت فكاد يضحك وهي تقول:"لا.. أصلي.. طيب حاضر بس عايزة أقلع"
"طب ومستعجلة ليه؟ اتقل تاخد حاجة نضيفة"
شهقت بعدم تصديق لينفجر ضاحكا وهو يقول:"روحي يا لين غيري هدومك عشان نصلّي قبل ما يغمى عليكي وال حاجة"
لم يكد ينهي جملته حتى كانت تفر من أمامه لغرفة النوم وهي تغلق الباب خلفها فوقف أمام الباب ويهتف بعبث:"واي مساعدة ماتتردديش
يعني انا في الخدمة، بس بلاش افتحلي السوستة والجو القديم ده.. اصلي ماليش ف السوستة"
"اتلم ياعامر!"
وصله صوتها زاجرا فضحك عاليا وهو يخلع سترته ويضعها على مقعد جانبي وهو يفرك يديه هاتفا بعبث:"احنا ليلتنا فل وال ايه؟!"
****
بعد ساعتين
"لين! افتحي يا مجنونة هتلمي علينا الناس!"
هتف عامر وهو لا يعلم أيضحك على ما تفعله أم يغضب منها!
"لا, انت قليل الأدب وانا هقول لبابا عليك"
لم يستطع تمالك نفسه:"انتي محسساني اني بتحرش بيكي, افتحي ياهبلة ده انا جوزك، لو كنت مؤدب مكنش ابوكي جوّزك ليا!"
سمع ضحكتها الخافتة فابتسم وفكرة تومض بعقله فصمت فترة ليسمع هتافها الخجول باسمه فابتسم بانتصار وهو يستلقي على الأريكة متظاهرا
بالنوم لتفتح الباب قلقة عندما مرّت فترة لم يرد يتحدث بها لتجده نائما على الأريكة ففغرت فاها بصدمة وهي تقترب منه حتى وقفت بقربه
"انت سيبتني ونمت يا عامر؟! ليلتك مش فايتة!"
كان يكافح حتى يظل على تظاهره بالنوم ولا ينفجر ضاحكا حتى سمعها تنوح:"يا ميلة بختك يا لين! بقى دي ليلة الفرح دي! قال وعاملي فيها
سبع رجالة في بعض ولو كنت مؤدب وبتاع"
لم يستطع الصمود أكثر فقفز وهو يمسك بها قائلا:"قفشتك!"
انتفضت وهمّت بالصراخ به ليضع يده كفه على فمها وهو يقول محذرا: "بلاش فضايح يا لين, خلينا نقضي الليلة بكرامتنا"
"سيبني"
قالتها ما إن رفع كفه عن فمها فقال بعبث وهو يحملها للداخل:"اسيبك ايه بس، لو سيبتك الليلة ابوكي مش هيسيبني بكره".
***
باتت ليلتها بحضن والدها وقد انتهى الزفاف ولم ترَ كرار مرة أخرى..
أغمضت عينيها وهي تستنشق رائحته بقوة، رائحة الأمان الذي افتقدته طوال حياتها .
ضمّها بقوة وكأنه لازال لم يصدق أنها عادت إليه مرة أخرى بعد أن كاد ييأس في الوصول إليها ويصدق ادّعاء تلك الحقيرة كارين.
برقت عيناه بقوة وهو يشدد احتضنها يهمس: "الحمد لله"
ابتسمت من بين دموعها التي سالت على وجنتيها وهي تفكر أن والدها أيضا افتقدها مثلما افتقدته.. لقد أخبرها كل ماحدث له منذ تركها بالروضة ذلك اليوم والذي لا تذكره من الأساس وحتى لحظته هذه.. هل حقا تزوج وتوفيّت زوجته!
هل ظلّ دون زواج حتى وقتهم هذا؟! ظل يبحث عنها ويسافر إلى انجلترا كل فترة فقط من أجلها؟!
ضمّت نفسها إليه بقوة وآخر ما ظهر لها قبل أن تغفو كان عينان داكنتان تنظران لها بشوق لم تستطع تصديقه!
****
بعد يومين
"حبيبة بابا, هتفضلي نايمة لإمتى؟"
تسلل الصوت لعقلها ففتحت عينيها رويدا حتى قابلها وجه نور المبتسم فابتسمت وهي تنهض مقبلة إياه على وجنته بحب ليضمها بقوة وهو
يهمس:"الحمد لله"
اتسعت ابتسامتها وهي تتبعه للخارج بعد أن اغتسلت وصلّت ثم جلسا يتناولان الإفطار الذي أعدّه نور لتقول بعفوية:"ليه مش عايش مع جدو؟"
تصلّب جسده وتجهّمت ملامحه قبل أن يقول: "حبيت آخد راحتي لوحدي"
رمقته بحيرة من تجهّم ملامحه ثم قالت:"حبيت جدتي هديّة, طيبة كتير"
لانت ملامحه وهو يقول:"جدتك هدية هي أحلى حاجة حصلت لجدك"
وتابع بداخله: (وللأسف عمره ما قدّرها)
ابتسمت وهي تقول:"بتحبها مع انها مش مامتك!"
"جدتك هدية أكتر من مامتي, ولو ممكن تصدقيني هقولك اني بحبها اكتر
من مامتي.. استحملت كل حاجة عشاني انا ونورية واعتبرتنا ولادها لأنها.. ربنا ما انعمش عليها بالخِلفة"
أومأت وهي تستشعر عدم راحته بالحديث عن جدها بقدر حديثه عن زوجته ولم تفهم السبب قط!
"تعرفي خولة ازاي؟! اتفاجئت انها صاحبتك وان حسين ومحمد عارفينك"
ابتسمت ما إن ذكر صديقتها فقالت:"عرفتها صدفة بلندن واصبحنا اصدقاء، تقريبا صديقتي الوحيدة من اربع سنين او اكتر.. مش فاكرة، حاسة اني اعرفها من وقت طويل جدا"
"هي بنت جدعة ومرحة.. مجنونة شوية بس حبيتها"
"مجنونة كتير مش شوية، بس أحلى شيء فيها جنانها"
قالتها وهي تضحك فشاركها الضحك قبل أن يقاطعهما رنين جرس الباب فابتسم قائلا:"اكيد عمتك نورية, كنت عارف انها هتجوّز ابنها عشان
تلزقلي انا"
ضحكت بخفة وهي تنهض لترتدي شيء يناسب الحجاب حتى تقابل عمها أحمد والذي أحبته على الفور وشعرت بحبه وصداقته العميقة مع والدها.
****
لندن
"كيف تفعل شيئا كهذا جون؟! هل سلّمته ابنتي بهذه السهولة؟! من أعطاك الحق بذلك؟ من أعطاك الحق بأي شيء يخص رُسُل؟! هي ابنتي انا لا دخل لك بها على الإطلاق هل تفهم؟!"
قالتها كارين وهي تصرخ بجنون فقال ببرود:
"ابنتك؟! حقا لقد أضحكتيني كارين! منذ متى تذكرتِ أنها ابنتك؟! ترى هل منذ ألقيتِ بها كشيء لا قيمة له؟ أم منذ قللتِ منها بكل مناسبة
لسبب أو بدون؟! أو ربما منذ اتهمتيها أنها تهتم بي بشكل خاص وتريد أخذي منكِ؟!"
ارتدت للخلف بقوة وهي ترمقه بعدم تصديق ليقول بقسوة ربما للمرة الأولى يستخدمها معها: "أجل كارين, أهلم جيدا عن ذلك اليوم الذي أردتِ فيه وضعها بمدرسة داخلية وهي بالمرحلة الثانوية حتى تبتعد عن طريقي لأنها تهتم بي بطريقة مختلفة كما ادّعيتِ.. لقد صُدٍمت وقتها حقا فلم أتخيل أن يصل بكِ كرهها والذي لا أعلم سببه حتى لاتهامها بهذا الشيء الحقير"
ألجمها فلم تستطع الرد ولم ينتظر هو فتابع قائلا:
"حقا كارين لم أتخيل أن حقارتك تصل لهذا المستوى! تتهمين ابنتك بإغوائي وأنتِ تعلمين جيدا أن أخلاقها لا خلاف عليها وأن حقدك فقط
هو ما يحرّكك تجاهها! لقد كادت تترك المنزل وتذهب للعيش مع عمر صديقي ولكني لم أسمح لها.. لم أسمع لابنتي أن تترك منزلها من أجل
أنانيتك وحقدك الغريب"
صمت يلتقط أنفاسه وهو يقول:"ابنتك عادت لوالدها على الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذتيها كارين, لم أندم بيوم على شيء سوى
على إبعادي رُسُل عن والدها.. ولو كان بيدي لأعدت الزمن حتى أستطيع أن أوصلها بنفسي لوالدها الذي كاد يموت كمدا عند القبر المزيّف الذي ادّعيتِ أنه لها"
حرّك رأسه بعدم تصديق وهو يقول:"حقا لا أفهم كيف قمتِ بذلك؟! كيف سوّلت لكِ نفسكِ أن تكتبي اسم ابنتك على قبر وهي مازالت على
قيد الحياة! لِمَ تكرهينها بهذا الشكل كارين أنا لا أفهم؟!"
صرخت بغل:"لأنها ابنة ذلك الحقير، ابنة من رمقني بازدراء واستهانة! ابنة من أجبرني على تحملها بداخلي حتى آتِ بها له وقد كرهت كل لحظة كانت بداخلي بها.. كما كرهته وكرهتها ولم أرد أن أنظر بوجهها حتى أجبرتني أنت.. للحظة صدّقت أنها ابنتي، ابنتنا أنا وأنت جون ولكن لا..
هو أفسد كل شيء.. كان من المفترض أن تكون ابنتنا لا ابنة ذلك العربي، لقد أهانني وقلّل مني وأجبرني لذا انتقمت منه"
رمقها بذهول يلمح وجها لم يصدّق أنه موجود, أم أنه كان يخدع نفسه وكان هذا وجهها طوال الوقت؟!
لقد حاول أن يتجاهل كل نواقيس التحذير التي تدق برأسه ويصدّق أنها تفعل كل هذا فقط لأنها تحبها وتريدها بجانبها ولكن حاجر الديانة يمنعها
ولكن باعترافها هذا شعر أنه على وشك قتلها حقا!
"حرمتِ طفلة من والدها ومن حياة سوية من أجل انتقامك التافه؟!
حرمتِ والد وحرقتِ قلبه على ابنته فقط من أجل محض انتقام فارغ؟!
لقد حطّمتِ البقية الباقية من حبي لكِ كارين.. لقد جعلتيني أشترك بالجريمة وأنتِ تخبريني أي عائلة متخلفة يملكها نور.. كل ذلك من
أجل انتقام! يا إلهي .. يا إلهي!"
جلس على المقعد يحاول تمالك نفسه وهو يفكر كم كان أعمى القلب والبصيرة! كم استغلته كارين وهو بكل غباء سمح لها بذلك.
"كم تشفّيت به وأنا أشاهده امام القبر المزيف يبكي ويرجوها أن تعود قبل أن ينهض ويخبرهم أنه يشعر أنها على قيد الحياة.. الحقير الذي
حوّل حياتي للجحيم يريد أن ينتصر عليّ حتى بعدما أخبرته أنها ليست ابنته لم يصدّقني بل ضحك عاليا ولم يهتم بما أقول"
تصلّب جسده وهو يرمقها بذهول قبل أن يتمتم:"ليست ابنته!"
نفض رأسه بقوة وهو يقول:"هل خنتِ نور كارين؟! خنتيه وأنتِ امرأته وزوجته؟! حقا حقارتك لا نهاية لها"
صرخت به:"بل أنت الأحمق.. أنا لم أخنه أيها الغبي, فقط حاولت أن أزيد بانتقامي له ولكنه لم يصدقني.. بل نظر لها وابتسم قائلا..
(مستحيل ألا تكون ابنتي، هي ابنتي وأنا أعلم ما تحاولينه جيدا) كدت أقتله يومها ولكني خططت لكل شيء حتى أحرق قلبه عليها وقد فعلت ولكنك أيها الغبي منحتها له بكل سهولة حطّمت كل ما فعلته بسنوات بلحظة واحدة بلحظة ضعف غبية منك.. أنت.."
انتفض مقاطعا:"اصمتِ كارين حتى لا أقتلك, ولا تظني أنني أهتم لكِ مثقال ذرة فقط من أجل أطفالي.. سننفصل بهدوء كارين ولكن أطفالي سيكونون معي وإلا... ستذوقي مرارة الانتقام الحقيقي على كل ما فعلته بنا طوال
تلك السنوات" .
***
بعد أسبوعين
أسبوعين مرّا منذ رآها بالزفاف ولم يستطع رؤيتها مرة أخرى على الرغم أن خولة تزورها يوميا مع زيد ولكن دوما يطلبه والده أو عمه لفعل شيء حتى كاد يصرخ بجنون!
حتى ضي يلاحق نبأ التي لن تستسلم بسهولة كما يظن وتثير جنون ضي كل يوم أكثر من اليوم الذي يسبقه وخاصة أن هناك من يطلبها للزواج وكلما رفضوا أحدهم تقدّم آخر لخطبتها حتى يكاد ضي
يُجَن ويخطفها غير عابئا بعادات وتقاليد أو أي شيء اهتم به يوما.
زفر بقوة وهو يتوق لسماع صوتها, للتحديق بعينيها اللتين يثيران جنونه بلونهما الغريب ونظراتها الخجولة..
يحبها! لا بل يعشقها وكم كان غبيا عندما استسلم لوساوسه ولحديث شقيقه الغبي ضي وأن جدهم أمر بزواجه من نبأ!
هو لم يعترض من قبل لأنه لم يكن قد قابل رُسُل وقتها ووقع بحبها بجنون كما حدث فيما بعد.. كما أنه لم يعلم أن شقيقه الغبي يحب نبأ ويلقيها عليه بسهولة.. صدق زيد عندما نعتهما بالأغبياء!
لا.. لن يستسلم ويتركها تضيع من بيد يديه، سيذهب اليوم لمنزلها ويطلبها من والدها ولن يقبل بالرفض جوابا .
***
فتح الباب ليجد والده أمامه، لم يندهش فقد كان
بانتظاره منذ عادت رُسُل إليه ولكن أن يأتي إليه إذا هناك ما يريد قوله.. أشار له بالدخول وهو يقول: "اتفضل يا حاج"
دلف للداخل وما إن أغلق نور باب المنزل حتى
استدار ليواجهه وهو يقول:"انا جايلك بكلمتين يانور لو نفذتهم هترجع ابني حبيبي وبنتك هتفضل في حضنك لآخر العمر ولو ماسمعتهومش وعارضتني يبقى تنسى ان ليك اهل.. وهمنعك حتى عن نورية وهدية"
لم تتغير ملامحه وكأنه كان يتوقع ما قاله والده
فقال بجمود:"خير يا حاج؟"
"بنتك لازم تتجوز من عامر ابن عمتها"
رفع حاجبه وهو يقول:"عامر اللي لسه فرحه كان من أسبوعين؟! طب ازاي؟ هيتجوز على مراته بعد أسبوعين وال هيطلقها؟!"
لوّح بيده بلامبالاة وهو يقول:"مهتفرقش معايا، المهم انها تكون على ذمته.. ولو حصل هتفضل ابني وبنتك حفيدتي وهعترف بيها قدام الكل"
ابتسم نور بسخرية وهو يقول:"ومين اللي قال لحضرتك اني مستني منك حاجة؟! مين ال قال اني مستني تعترف بيها او لا! مع احترامي ليك
يا حاج انا مايهمنيش تعترف بيها او لا.. رُسُل بنتي وهتفضل بنتي سواء اعترفت او لا"
اتقدت عينا والده وهو يقول:"يعني ايه الكلام ده؟!"
"يعني رُسُل مش هتتجوز واحد متجوز يا حاج, رُسُل بنتي أغلى من انها تبقى زوجة تانية.. وبنات الناس مس لعبة في ايدينا يا حاج.. نجوزهم ولادنا وبعدين نهينهم بالطريقة دي, لين بنتي زي ما رُسُل
بنتي واللي ماقبلو على بنتي مش هقبله على بنات الناس"
"يعني بتعارضني تاني يا نور؟! لا مش تاني بس ده تاني وعاشر خرجت عن طوع ابوك يا نور وبقيت تقف تناطحه كلمة بكلمة"
قالها بانفعال ليقول نور باحترام: "ماعاش ولا كان اللي يناطحك يا حاج، لكن حق ربنا مافيهوش فصال.. وانا ماصدقت بنتي رجعلتي ولا يمكن اظلمها زي مانت ظلمتني زمان ياحاج ولسه مصمم تظلمني بعد كل السنين دي"
همّ بالحديث لتدلف رُسُل مع نورية وأحمد ليقفوا جميعا وهم يرون نور واقف أمام والده ينظر له بقوة.. لاحظ الجميع التوتر إلا رُسُل التي ذهبت لجدها مبتهحة برؤيته وهي تأخذ يده وتقبّلها مثلما علّمها عامر ثم استطالت على أطراف قدميها وهي تقبّل وجنته بحب قائلة:"وحشتني جدا يا جدي, جدتي هدية جت معاك؟!"
"لا"
كلمة واحدة مقتضبة خرجت من فمه لتشعر أنها باردة، لا روح فيها فتتسلل إليها البرودة وهي تلاحظ الجو المتوتر لأول مرة فحاولت الحديث ولكنها لم تستطع فصمتت ترمقهم بعدم فهم ليجذبها والدها إلى حضنه وهو يقول:"حبيبة بابا, اتمتعتي مع عمتو وعمو؟!"
ابتسمت وهي تقول:"كتير يا بابا، وجيبت هدية لعامر ولين"
"امم مفيش هدية لبابا حبيبك؟!"
قالها مشاكسا وهو يدلف للداخل مرافقا لها تاركا والده الذي رمق ظهره مصدوما مع أحمد ونورية اللذين نظرا لبعضمها بهم ليقول أحمد:
"واقف ليه يا حاج اتفضل"
رمقه بنظرة باردة قبل أن يقول:"اعمل حسابك فرح عامر على رُسُل بعد شهر بالكتير ولو ماحصلش.. ماشوفش وشه في الشركة تاني"
خرج تاركا إياهما يحاولان استيعاب ما قاله قبل أن يهتف أحمد:"أبوكي مش ناوي يجيبها لبر يا نورية, الأول نور ودلوقتي عامر وبعدها معاك يا عمي!"
نهاية الفصل


رواية قتلتني عيناها بقلمي حنين أحمد (ياسمين) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن