١
"إنـه القدر"مع رائحة الورد المختلطة برائحة القهوة القادرة على إحياء أفراح ومآسي الحياة،
كان هناك صوت طفلة صغيرة في أحد دور الأيتام القاطنة بالقاهرة تنادي بصراخ على رئيسة هذا الدار و هي تعدو وتلهث بشدة والعرق قد نبت على وجهها الصغير:
يا أستاذة أسماء يا أستاذة أسماء
فقابلتها الرئيسة أسماء -وهي امرأة في نهاية العقد الثلاثين من عمرها- وكانت تحمل فنجانًا من القهوة وقالت بدهشة ظاهرة على ملامح وجهها:
مالك يا دينا حصل حاجة يا بنتي؟!
قالت الطفلة دينا و يكاد قلبها أن يخرج من بين ضلوعها بسبب سرعة خفقاته:
في ..في يا أستاذة أسماء في قدام الباب طفلين صغيرين و كمـ....
صرخت أسماء بعدما انسكب فنجان القهوة من يدها و أمسكت كتفَي الطفلة و هزتها قائلة بفزع:
طب ليه ماقولتيش بسرعة يا دينا ليه؟؟
افرضي حصلهم حاجة!
ربنا يستر.
هرولت أسماء بعدها بسرعة إلى الخارج فوجدت بالفعل أن هناك طفلين رضيعين و لكن من الواضح أنهما ليسا بنفس العمر فوجدت بجانبهما ظرفًا،
حملت أسماء طفلًا منهما بحنان ونادت على مساعدتها رباب وطلبت منها أن تحمل الآخر ثم دلفوا إلى الدار.
********************
في الداخل فتحت أسماء الظرف فوجدت ورقة به فبدأت في قراءة المكتوب و الذي كان...
"دول طفلين أولاد عم ولد وبنت هو اسمه بلال وهي اسمها ندى وقُلتلك علشان أكيد هتسألي هما سوا ليه،
بس سموهم بألقاب زي ما إنتم عاوزين ما دي شغلتكم بقا
آه وكمان هما مش من نفس المدينة اللي فيها الملجأ
هبقى أبعتلكم فلوس كل شهر علشانهم وزيادة كمان
بس اللي أنا عاوزاه إنهم ماينقصهُمش حاجة
ومهما حصل ماتعرفوش حد فيهم إنهم قرايب علشان تصرفي ساعتها مش هيعجبكم ولو حد جه في يوم يسأل عليهم ماتقولوش إنهم عندكم صدقوني هتندموا"
عندما انتهت أسماء من القراءة شرعت في البكاء فقالت لها مساعدتها رباب بأسى:
طب ليه بتعيطي بس؟
أسماء بصوت متقطع مشوب بالحزن الشديد:
صعبانين عليا أوي يا رباب والله
ومش عارفة مين اللي يهون عليه يبعتهم الاتنين كده ملجأ!
و كمان ده شكلهم أصحاب نفوذ لإن اللي كاتبة بتقول هتبعت فلوس كل شهر و بزيادة
شكلهم مخطوفين من أهاليهم
ردت رباب بتلقائية مختلطة بعدم الاهتمام:
طب ما إحنا بنشوف من ده كتير يا أستاذة
وبعدين هو كل مرة كده لما طفل ييجي الميتم جديد تعيطي؟!
ما المفروض نكون اتعودنا يعني
مسحت أسماء دموعها وقالت وهي تحاول أن تتمالك:لا بس دول شكلهم وراهم حاجة كبيرة أوي
رباب بتعجب:يعني هنعمل إيه؟!
قالت أسماء بعدما شهقت و أخرجت زفيرها باستسلام:هنعمل إيه يعني هنسيبهم هنا يا رباب ما في اليد حيلة
واللي مكتوب ليهم مش هيلاقوا غيره
*********************
على الجانب الآخر في بيت آل حجازي يوجد هناك قلوب تحترق من العذاب و تتقطع من الحزن و تتأوه من آلام الفراق إلا قلبًا واحدًا يحتفل بانتصاره.
آه يا ابني يا حبيبي روحت فين؟
مين اللي عمل العملة السودة دي؟
مين اللي يهون عليه يحرم أم من ضناها مين يا ناس أنا هتجنن و الله
كانت هذه سمية والدة بلال تبكي بحرقة لفراق ولدها وكان يهوِن عليها زوجها ياسين قائلًا بحزن يحاول أن يواريه ودموع يحاول أن يكبتها حتى لا تفيض عيناه:اهدي يا سمية هنلاقيهم والله خلي عندك إيمان بالله
جاء صوت آخر يقول بحزن ظاهر و بكاء ينشق لأجله الصخر:بس ليه يعملوا فينا كده؟!
ليه لو حد عاوز يأذينا ينتقم مننا في أولادنا؟
ده أنا بنتي لسه ماكملتش سنة بنتي لسه ماشبعتش منها..!
وكانت هذه ولاء والدة ندى التي حُرمت منها بفِعل شنيع،
فأمسك حسن زوجها يديها و قال و هو يبكي مثلها تمامًا و لم يستطع أن يتماسك مثل أخيه ياسين:
ماتقلقيش يا حبيبتي والله بإذن الله هنلاقيهم أنا واثق في ربنا
كانت العيون الفرِحة تنظر إليهم بشماتة وانتصار ولذة لأنها تستمتع بهذا الحزن الذي يخيم على المنزل و يقبع بقلوبهم،
ثم قالت سهير بخبث متصنعة الحزن و البكاء:
والله قلبي والع نار علشانكم ده بلال و ندى دول .. دول كانوا كإنهم أولادي اللي اتحرمت إني أجيبهم
ربنا ينتقم من الظالم و المفتري اللي هان عليه يحرق قلوبنا
قطع حديثها دخول الشرطة و قال الضابط بيأس:والله يا أستاذ ياسين فتشنا في كل مكان في المدينة هنا و محدش يعرف عنهم حاجة مش عارف إيه ده ولا إزاي حصل كده!
ده كإنهم اختفوا فص ملح و داب أكيد الموضوع ده متخططله من فترة لإن لو كان حصل فجأة كده كنا على الأقل لقينا دليل،
لكن المجرم ده ماسابش وراه دليل خالص يعني!
انفجرت سمية بالبكاء وتبعتها ولاء أيضًا فقال ياسين بصبر:معلش ممكن تشوفوا تاني أنا عندي أمل لسه وأمل كبير والله يا حضرة الظابط
قال الضابط بملامح حزينة على هذه العائلة الكريمة التي لم يرَ منها إلا كل الخير و قال بأسى:
تحت أمرك يا أستاذ ياسين
كانت سهير تنظر إليهم و يكاد قلبها يحلق من فرحته بعدما كان الخوف المتحكم قبل لحظات
مضى القليل من الوقت ثم جاء آمين من الخارج و قال بحزن:دورت عليهم والله في الأماكن اللي قدرت عليها و تقريبًا ماسبتش حتة غير وشوفت فيها
قال حسن بثقل لسان:لسه الظابط كان هنا وقال نفس الكلام يا آمين بس ياسين قاله يشوف تاني
قالت سمية بكل كُره و غل و الحزن قد أشعل نيرانه و ثوراته بين نبضات قلبها:والله يوم ما أعرف مين اللي عمل كده في أولادنا ما هرحمه
شعرت سهير بغَصة لوهلة ثم قالت في سرها وهي ترتجف:وأنا هخاف من إيه يعني؟!
أنا بقالي فترة برتب للموضوع ده فأكيد مش هغلط في تنفيذ أي حاجة.
قالت ولاء بمرارة: نلاقيهم بس وأنا مش عاوزة حاجة من الدنيا غير كده
قال ياسين بصوت غارق و منغمس بالكامل في الأمل:بإذن الله هنلاقيهم
يارب نلاقيهم
***********************
"بعد مرور عشر سنوات "