واعتصموا بحبل الله جميعا

18 5 0
                                    

علينا بالائتلاف والاعتصام
ونبذ الاختلاف والانقسام
اعلموا عباد الله أن الاختلاف في الناس موجود؛ فمنه مذموم ومنه محمود، فالمحمود هو الذي لا يفسد للودِّ بقية، والاختلاف المذموم هو الذي يؤدِّي إلى الانقسام والافتراق، والنزاع والشقاق، فقد حصل بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين بعض هذه الأنواع من الاختلافات، ولكنهم رجَّاعون إلى الحقِّ ومنصاعون إليه، فعندهم أصلٌ يسيرون عليه، وهديٌ يهتدون به، وحقٌّ ينزعون إليه، فإذا ذُكِّروا تذكَّروا، وإذا وُعِظوا اتّعظوا، وإذا تُليت عليهم آياتُ الله والحكمةِ اعتبروا، يأتمرون بالمعروف فيفعلوه، وينزجرون عن المنكر فيجتنبوه، يوفون بالعهود، وينفذون العقود.
اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكادت أن تحدثَ بينهم مقتلةٌ، فذكَّرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فتأسفوا وحزنوا، ورجع بعضهم يصافح ويعانق بعض، وهاكم مثلا لما يبثُّه شياطينُ الإنس من المنافقين الذين غاظهم توحد المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَذَاكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، وَالْيَهُودِ، فِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ =بن سلول المنافقُ غطَّى= أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: (لا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا)، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَقَفَ، فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمِ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: (أَيُّهَا الْمَرْءُ! لا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا؛ فَلا تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ)، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: (اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ)، قَالَ: فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: "أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟" -يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ- قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ! وَاصْفَحْ، فَوَاللهِ! لَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ الَّذِي أَعْطَاكَ؛ وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ، شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ)، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مسلم (1798). هكذا نضيِّع على المنافقين وأشباههم مكائدهم ومكرهم ضد الصلح والمصالحة.
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: (يَا لَلْأَنْصَارِ)، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: (يَا لَلْمُهَاجِرِينَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟» قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ)، فَقَالَ: «دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» فَسَمِعَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: (قَدْ فَعَلُوهَا، وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ). قَالَ عُمَرُ: (دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ)، فَقَالَ: «دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ». مسلم (2584)
عباد الله دعوهم لا تسمعوا لهم، يموتوا بغيظهم، استمروا في مصالحتكم، «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»، البخاري (6066).
عباد الله! بعض الناس إذا خاصم أخاه فجر، فذكر ما يعلمه من عيوب أخيه، وأعلن بها في المجامع والمحافل، وسائر وسائل الإعلام.
وإذا عاهد عدوًّا أو صديقًا غدر ولم يفِ بما عاهد عليه.
وإذا وعد أحدًا بشيء أخلف وعْدَه ونسي عهده، وأغضب ربه.
إن التفرق والتنازع ينشأ بين شخصين، أو عائلتين أو قبيلتين، أو حزبين أو فصيلين، أو حكومتين أو دولتين، وهذا كلُّه موجودٌ في أمتنا اليوم، فيا أيها المتخاصمون المتنازعون عودوا إلى رشدكم، وارحموا أمَّتَكم، فيا أيها الفريقان المتصالحان «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا»، صحيح البخاري (3038).
التيسيرُ على الناس لا التعسير، والتبشيرُ لا التنفير، والتطاوعُ وعدمُ التنازع.
بهذا تنالُ الأمة عزَّها، وتسترجعُ مجدَها، وتسودُ بين أفرادها المودَّةُ والأُلفَةُ والرحمة.
لا تكونوا سببًا في ذِلَّةِ هذه الأمَّة، وتسلُّطِ أعدائها عليها، فتحلَّ عليكم اللعنةُ وسوءُ الدار.
فما دام الدينُ واحدا، والدمُ واحدا، والعِرْقُ واحدا، واللغةُ واحدة، والوطن واحدا؛ فلماذا لا نكون صفًا واحدا؟ وعلام هذه القطيعةُ والانقسام والهجران، وعلامَ هذا الاختلاف والشقاق؟ أمنْ أجلِ شارعٍ ضيق؟ أو مجرًى مؤذٍ؟ أو من أجل دابة أو سيارة؟ أو من أجل تراشق كلامي أو إعلامي؟
أو من أجل مالٍ أو جاه، أو سلطانٍ أو كرسيّ، أو من أجل وطن أو دين؟ وعلامَ هذا التنازع وذاك الافتراق؟ وإلامَ الخُلْفُ والاختلاف؟
قال أحمد شوقي (سنة 1925 شمسية):
(إلامَ الخلفُ بينكم؟ إلاما؟  وهذي الضجة ُّ الكُبرى علاما؟
وفيمَ يَكيدُ بعضكمو لبعض؟ ... وتُبْدُون العداوةَ والخِصاما؟
وَلِينا الأمرَ حزبًا بعد حزب ... فلم نكُ مصلحين ولا كراما)
(وأينَ الفوز؟ لا مصرُ استقرَّت ... على حالٍ ولا السودانُ داما؟)

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Apr 03, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

كي لا يستمر الهوانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن