part 8.

383 38 16
                                    

ما إن خرج مازن ذلك اليوم حتى أمسكني ياسر بعنف وأقسم لي أن الشمس لن تشرق ومازن على قيد الحياة، لم أستطع مجابهته ولم أستطع منعه، خرج ذلك اليوم وقلبي يرتجف خوفا على مازن، كل ما فعلته هو محاولتي المستمرة للاتصال بمازن بالرقم الذي احتفظت به طوال تلك السنوات، لكنه لم يجيب، حاولت الوصول له بأي طريقة كانت لكن وكأن كل السبل قطعت في ذلك الآن فلم أستطع فعل شيء.
مر أسبوعان لم يظهر جديد، حتى ياسر لم يظهر بعدها، وأظهرت لعائلتي أنني أجهل ما حدث له ولأن من عادته الغياب كثيرا بسبب عمله الذي أجهله إلى الآن لم يهتموا كثيرا باختفائه.
كان مع كل يوم يمر خوفي وقلقي يزيدان ولكن حدث بعدها ما جعلني أشعر أن العالم توقف من حولي، شعرت أنني في لحظة واحدة فقدت كل شيء وقلبي لم يعد يعرف كيف يخفق.
في ليلة ممطرة في الساعة الثانية ووسط أجواء الشتاء والغيوم التي تتصادم ببعضها كان صوت تساقط المطر يمتزج بصوت صراخي وبكائي عندما أُرسلت لي صورة لمازن وهو غارق في دمائه، فقدت النطق لدقائق وأنا أنظر للصورة لا أعرف ماذا أفعل سوى أنني حلقت بها غير مصدقه ما أراه.
تذكرت كل شيء، تذكرت كل لحظة عشناها معا، يوم اعترف لي بحبه ونظراته لي ذلك اليوم التي لطالما أحببتها، عيناه التي كانت تأسرني لأقع في حبه، تذكرت الموسيقى التي تشاركناها، تذكرت ضحكنا عندما كنا لا نعرف ما الذي يخبئه لنا القدر.
ليت الزمن توقف عند تلك اللحظة، ليتنا بقينا هذان الطفلان الذي تيم قلب كلا منهما بحب الأخر، ليتنا لم نكبر ونعش كل ذلك، ليتني مت قبل أن أراه اليوم ميتا بسببي ولا أملك شيئا لأفعله، ليت الزمن يعود وأقسم له أنني أحببته ولم أحب أحدًا سواه.
حلقت في الصورة مرات ثم انهرت في البكاء قبل أن أخرج من غرفتي وأنا في حالة لا يرثي بها، كنت غاضبة حزينة لدي رغبة ملحة بالانتقام، كان ذلك اليوم قادرا على تحويلي من تلك الفتاة الضعيفة المستسلمة للقدر والظلم التي تتعرض له كل يوم إلى واحدة أخرى لا تفكر في شيء سوى رد الظلم الذي تعرضت له أضعافا.
آه يا مازن، كنت أنت ملاذي الآمن، كانت عيناك البنية موطني، كان هدوئك سكينتي، كان حبك لي أملي الذي ضاع ولم أجد بعده أملًا آخر، ولم أجد ما يخفف شوقي سوى النظر إليك طويلا مع تأكدي أنك لن تكون لي يوما، وليتك تكون وتقسم لي أن كل ما حدث كان هراء وأننا سنلتقي مرة أخرى رغما عمن كتبوا علينا الفراق مرغمين، و من كتبوا علي رؤيتك ميتا الآن و لا أملك سوى الأسى و البكاء حزنا على فراقك.
كان كل من في المنزل نائم، خرجت من المنزل وأنا أقول في نفسي موجهة كلامي لروح مازن:
حسنا يا عزيزي حتى لو كان قلبي يحترق لفراقك لكن قد حان وقت انتهاء الحداد، وحان وقت الانتقام لك ولأمي ولأبيك ممن كان السبب.
اتجهت لمنزل أحمد ثم صعدت وطرقت الباب مرارا حتى فتحه ليظهر هو ومن ورائه زوجته فريدة، تفاجئ من مظهري ومن شعري المبعثر وعيناي المنتفخة من أثر البكاء، قلت بصوت مبحوح يكاد يسمع:
- أنت اللي بعتلي الصورة صح؟
نظر لي ثم قال مقتضبًا:
- ادخلي.
دخلت ببطء بالكاد استطاعت قدماي أن تحملني، جلس على الأريكة فجلست أمامه، اختفت فريدة من الأرجاء لكي تفسح لنا المجال لنستطيع التكلم، ما إن دخلت الغرفة حتى قال بنفس لهجته المقتضبة وهو يبعد نظره عني:
- إيه اللي جابك؟
يشمئز من النظر إلي، شعرت أنني أستحق ذلك، فلولا سكوتي لكان مازن على قيد الحياة الآن، لولا خوفي لما حدث كل ذلك، التقطت أنفاسي ثم قلت:
- جاية أقول لك إني مستعدة أقوللك على كل اللي أعرفه.
- طب وبعدين؟ اللي هتقوليه هيرجع مازن تاني؟
بدأت دموعي في التساقط وأنا أقول:
- عارفة إني كنت خايفة وجبانة وخفت أعمل أي حاجة بس حط نفسك مكاني، تعرف أنا مريت بإيه خلاني أخاف أتكلم؟
التقطت أنفاسي التي تتسارع وسط تساقط دموع عيناي وأنا أكمل سرد ذلك اليوم عندما رآني ياسر مع أحمد ومازن أحكي لهما تفاصيل يوم قتل والدتي، تذكرت شعور الخذلان من عائلتي، بكيت كثيرا وأنا أكمل سردي له، لا أعلم أَبكائي بسبب حزني على خزلاني من عائلتي أم على فراقي لمازن الذي تلقيت خبر وفاته منذ ساعات.
قاطع كلامي قائلا:
- ويوم ما سافرتلك مقولتيش كل ده ليه؟
زفرت وأنا أتذكر ذلك اليوم ثم أجبت:
- خوفت أقول لك فيعرفوا فيحصل ليك حاجة أنت أو مازن بسببي زي ما اتهددت، كنت متأكدة إنه مش هيسكت.
مسحت دموعي وأنا أسأله:
- ياسر هرب صح؟
أنهيت سؤالي فأجابني بحسم:
- لأ.
قلت متسائلة:
- إيه؟ أمال هو فين؟
هم واقفا ثم اتجه للباب وأجابني:
- هقول لك في الطريق.
ركبت السيارة معه، التزم الصمت طوال الطريق و لم يتحدث بشيء، نصف ساعة و كنا أمام مستودع في منطقة شبه خالية، فتح الباب قليلا ثم جعلني أنظر، وجدت ياسر جالسا على كرسي و مقيد، كنت على وشك أن أدخل و أقتله بيدي لكن أحمد منعني، علمت بعدها أنه هنا منذ أسبوعين، قال لي أحمد أنه رآه عندما كان يهرب بعد قتله لمازن، أمسك به و حاول إغاثة مازن لكنه كان قد فارق الحياة، أبقاه هنا لأنه السبيل الوحيد لإجابتنا عن كل الأسئلة التي تدور في ذهننا، فهو يعلم كل شيء عن عائلتي و عن أبي، و الوحيد الذي يمكنه إفشاء السر بالقليل من الضغط.
حاولت استيعاب ما سمعته ثم سألته بتردد:
- انت مسلمتوش للقسم ليه؟
تنهد ثم واصل يقول لي أن أهل ياسر لهم القدرة على إخراجه أو تهريبه إذا لزم الأمر، ولو سلمه فسيكون قد فعل لهم ما يريدون، فهم من الممكن أن يفعلوا أي شيء حتى لا يبقى ياسر مسجونا.
أنهى كلمته ثم صمت قليلا واتفق معي بعدها على كل شيء، قال أنه سيظهر لياسر أنه اختطفني و سيحاول تهديده بقتلي فربما يجيبه على أسئلته و نستطيع التوصل للإجابات التي نسعى إليها منذ زمن.
صمتُ قليلا و أنا لأستجمع نفسي من شدة الإرهاق، كل ما حدث كان كثيرا بالفعل، أولا اختفاء ياسر ثم قتله لمازن ثم علمي من أحمد أنه اختطفه.
كنت لا أرغب في شيء سوى البكاء، شعرت برغبة دفينة أن أوقف كل ذلك، أن أتخلى عن ذلك العالم الذي لم أرى منه سوى كل سوء، أمس كان يراني مازن السيئة في روايته، كان يراني من تخليت عنه وقبلت أن أكون لغيره، واليوم أعيش من دونه بعدما اخترت الضعف على أن أثور في وجههم على ظلمهم لي ولمازن، لأدفع الثمن رؤيته ميتا ولا أملك شيئًا لأفعله سوى لوم نفسي.
ترددت قليلا ثم تنهدت وأنا أتذكر صورة مازن وهو غارق في دمائه، تذكرت عزمي على الانتقام له فلربما أرتاح ولو قليلا، تنفست قليلا ثم قلت:
- تمام أنا جاهزة.
تغيرت تعابير وجهه للصرامة ثم جذبني من يدي إلى المستودع ليراني ياسر وتعلو نبرات صوته مهددا أحمد.

و ما خفي كان اعظمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن