"مازن"
اعتدلتُ في جلستي، ثم أمسكتُ الدفتر والقلم وبدأتُ أبث ما في قلبي من مشاعر مضطربة، وما في ذهني من ذكريات، بدأتُ أخرج كل ما أشعر به في صورة كلمات...
"لماذا تنطفئ الحياة بغياب من نحب؟! عندما نفقد عزيزا نحاول التأقلم على غيابه، ثم نبدأ بالتظاهر بأننا على ما يرام وأن فراقه لا يأثر بنا، لكن في الحقيقة نحن نعيش وكأننا فاقدون لقطعة من قلبنا، نشعر دائما أن شيئا ما ينقصنا ولا نستطيع استكمال حياتنا والمضيّ قدما من دونه،..
في الحقيقة لقد سئمتُ التظاهر بأنّ كل شيء على ما يرام، أشعر أنّ كل يوم يمر تصعب فيه الحياة أكثر، لقد فقدَتْ الحياة رونقها في عيناي، مهما حاولتُ لا أرى منها سوى جانبها المظلم، قد نفذتْ قواي وأرهقتني المحاولة، قتلني اليأس، ودفنني فقدان أكثر من أحببت،..
أحيانا أسأل نفسي ما الذي يدفع شابا في الثانية والعشرين من عمره أن يتكلم بهذه الطريقة؟! أن يمقت كل شيء وأيّ شيء يعيشه، أن يصبح كارها لحياته بكل ما فيها، ويصبح فاقدا للثقة في كل من حوله،..
و لكنني أجد ما مررت به في حياتي إجابة مثالية لهذا السؤال، فقدتُ والدتي عقب ولادتي بدقائق، عشتُ طوال حياتي بدونها، وكانت تلك هي أولى خساراتي، أعتقد أنّ لا شيء يفوق حزن طفل وُلد ليجد نفسه وحيدا من دون أم، لكنني وجدتُ من عوضني فقداني إياها، وجدتُ أبا يقف في ظهري ويعينني، يفعل أيّ شيء من أجلي، لكن الحياة دائما تستكثر فرحتنا علينا، تكره أن ترانا نعيش سعداء أو على الأقل مرتاحين، لم أكد أستكفى من والدى حتى في السابعة من عمري تلقيت الصفعة الثانية، وقُتل أبي أمام عيناي،..
مهما حاولتُ أن أصف لا أعتقد أنني قد أنجح فى وصف شعوري وقتها، طفل كان أبوه كل شيء بالنسبة له، أدّى دوره على أكمل وجه كي لا يشعرني لحظة بفقدان والدتي، رأيته أمام عيناي يتحول لأشلاء، شعرت وكأن قلبي انفطر معه، وحتى اليوم لا نعرف من قتله أو لماذا قُتل،..
ولأن لكل فعل رد فعل لم أجد رد فعل من نفسي إلا أن أصبحتُ منطويا، كنت أخاف الاختلاط بالبشر فجميعهم يرحلون، ومن لا يرحل يسبب الأذى لنا حتى نتمنى رحيله أو نرحل نحن عنه، كنت طفلا بائسا، حزينا، منطويا، كانت حياتي منطفئة حتى جاءت هي وأنارتها"
تركت القلم من بين أصابعي بارتجافة تشوبها الحسرة، أغمضت عيناي بألم بينما أتذكر كيف كانت، كانت تلك هي نور، ذاك الشعاع الذي ظهر وسط ظلمتي لتغير حياتي وتجعلها أشبه بالجنة، تلك الصديقة التي ظهرت في حياتي فجأة لتعوضني عن كل ما فقدتُ، لأجد فيها الأمل الذي جعلني أعيش سعيدا لأول مرة في حياتي، أكملنا سبع سنوات بجانب بعضنا، نُيسّر على أنفسنا كل عسير، نُساند بعضنا لتجاوز كل ما هو مؤلم، أصبحنا عونا لبعضنا البعض.
وبعد كل ذلك، رحلتْ.. رحلتْ لأصبح وحيدا مرة أخرى، رحلتْ مثلما فعل الجميع، رحلتْ تاركة لي ذكريات لا زالت عالقة في قلبي حتى الآن، رحلتْ لتجعل مني شخصا فاقدا للثقة في كل من حولي، لتجعل منى غير قادر على فعل أيّ شيء بدونها، لم أعرف في نفسي هذا الضعف وقت وجودها، ربما أستطيع أن أقول أني نسيتُ كيف أكون ضعيفا، وجود شخص يدعمك في حياتك كافيا ليمدك بالقوة التي تحتاجها ولأن تنسى معنى الضعف ربما.
ورغم رحيلها منذ أربعة أعوام، لا زلتُ أتذكر أول مرة رأيتها فيها، كنت حينها طفلا ذو عشرة أعوام وجد كل ما يريده في صديقة عوضته عن كل ما فقد، لتصبح هي عالمه الخاص الذي يلجأ إليه كلما ضاقت به الدنيا، ازداد عمرى بجانبها ومعه ازداد حبها في قلبي حتى أيقنت أني أحبها حقا ولم أحب أحدا مثلها قط.
أتذكر عندما كنت في المرحلة الثانوية عندما قررتُ الاعتراف بما يكمن في قلبي من حب لها، أتذكر يومها عيناها اللتان أوحتا إليّ بما يحمله قلبها من ألم عندما كانت تقص عليّ مشاكلها المعتادة مع عائلتها، كانت تحكي لي كل مرة فأستمع لها منصتا وكأنها أول مرة، لم أشعر بالملل يوما بل في كل مرة كان يزيد فرحي بأنها اختارتني من بين الكل لأشاركها حزنها، من الجيد أن تجد أحدا يبوح لك بحزنه، فلا أحد منا يظهر حزنه وضعفه إلا لأقرب المقربين لقلبه، كنت أشعر دائما أننا كنصفين التقيا لنرمم ما أهدره الزمن من قلبينا، ونعوض بعضنا عن كل صعب عشناه،..
أتذكر نظرتي لعيناها ذلك اليوم وكأنني التائه الذي وجد بوصلته فيهما، نظرتُ لها بكل ما أوتيت من حب، فوجدتها قطعت كلامها لثواني ثم قالت:
- مازن، أنت كويس؟
حدقتُ بها وقتها كما لو أردتُ أن أحفظ ملامحها التي أسرتني، سرعان ما قلت بعدما استجمعتُ قوتى وقررت الاعتراف لها بحبي:
- عمري ما كنت كويس قد ما ببقى كويس في الوقت اللي بشوفك فيه، أو يمكن أنا كويس عشان أنتِ موجودة.
حمرة لطيفة اصطبغتْ بها وجنتيها فور أن سمعتْ ما تفوهتُ به فإذا بها تحني رأسها خجلا، توترتُ قليلا لكنني عزمت مجددا أن أواصل كلامي، وأيّا يكن.. يجدر بها أن تعلم بحبي هذا أولا أو آخرا، أردفت قائلا بعد صمت ثوانٍ:
- بصي أنا مش عارف أرتب كلامي، بس الحاجة الوحيدة اللي عايز أقولها إني بحبك، بحبك أوي يا نور.
وكأن كلماتي أثلجت صدرها حتى اشتبكت كلماتها، خليط مشاعر من السعادة، الخوف، التوتر ظهروا في عينيها في آن واحد، وكأنها لم تدرِ أيّ كلام ستقوله بعد، قاطعت الصمت الذي أُطغي على حديثنا فقلت:
- مالك؟ نور أنتِ معايا؟
لمعتا عيناها وضحكت لي فشعرت كأن قلبي هام عشقا بضحكتها، وكأنها تكاد لا تصدق، وكأن ما كانت تنتظر حدوثه منذ زمن قد أصبح حقيقة، عيناها كانتا توحيان لي بأن فرحتها لا يسعها أيّ مكان، نظرتْ إلى عيناي وقالت في ارتباك:
- مش مصدقة يا مازن، مش مصدقة إن أخيرا قلتها.
لحظات من الصمت مرّت بيننا، وعينانا من تولتا الحديث، نظرنا لبعضنا كأنها مرتنا الأخيرة، بينما كنا نتمنى أن تطول تلك اللحظات للأبد، اعترفتُ لها بحبي أخيرا ووجدتها تبادلني نفس الشعور، أن يحبك شخص ما فهذا أمر رائع، أما أن تكون أول حب في حياته فهذا شيء لا يقدر بثمن، وذلك ما جعلني أشعر حينها أن الحياة ضحكت لي للمرة الأولى في حياتي.
كان ذلك اليوم هو بداية أجمل فترة في حياتي، فترة كل يوم عشته فيها كنت أتمنى ألا ينتهي، كنت أعيش كل لحظة معها وأتمنى أن تطول لكي نبقا مع بعضنا دوما، رأيتها في كل أحوالها، حزنها وفرحها، بكاؤها وضحكها، رأيتها بشعرها المبعثر ووجهها المرهق وسط يوم دراسي طويل، ورأيتها بفستانها ومظهرها المهندم وكأنها أميرة خرجت للتو من الماضي.
فتحت عيناي مجددا، لأدلك ما بين عيناي بينما أمسك بالقلم مجددا أقاوم الارتجافة التي لم تترك يدى،..
"عندما تحب أحدا تراه جميلا في كل أحواله، حتى عيوبه تحبها، لم أرها ولو لمرة إلا ودعوت الله أن يجعلها من نصيبي وأن يجمعنا معا، ولا زالت تلك الدعوة لا تفارق لساني حتى الآن، بعد كل ما مررنا به إلى اليوم لا زلت أتمنى أن نجتمع سويا مرة أخرى، أن نتحدى القدر ونفعل كل شيء وعدنا بعضنا يوما أننا سنفعله، أو ربما نفعل ما كنا نفعله قديما، يكفي أنّ وجودنا مع بعضنا يجعلنا نشعر بشيء لا نستطيع الشعور به مع أحد آخر، ربما ذاك الشعور هو الحب الذي لا زال يعجز الكثيرون عن وصفه إلى الآن"
أنت تقرأ
و ما خفي كان اعظم
Mystery / Thrillerستجد في هذه الرواية من يشبهك وتشبهه، ستجد كلمات تصفك، أو غيرها يذكرك بماضٍ أليم تتمنى تخطيه، فإن كنت على حافة السقوط لا ترغب في استرجاع ذكريات أليمة تتمنى نسيانها، لا تقرأ هذه الرواية.