part 4.

542 49 3
                                    

قاطع سيل ذكرياتي صوت الباب، تركتُ الدفتر والقلم جانبا ثم نهضت لأفتح الباب، وجدتُ الطارق هو أحمد، رمقته بنظرة لم تعط انطباعا ثم عدتُ لأجلس مكاني مرة أخرى.
كان عقلي مشتتا وبداخلي مئة سؤال أريد أن أطرحه عليه، ولكنني فضلتُ الصمت ناظرًا إليه عندما جلس أمامي، ثم نظر للدفتر بجانبي وقال مقاطعا الصمت الذي ساد منذ دخوله قائلا:
- كنت بتكتب وقاطعتك؟
يعلم عن حبي للكتابة، وكأنها عالمي الخاص الذي صنعته لنفسي بعيدا عن هراء الواقع، أعيش في ذكرياتي، أتذكر كل ما عشته بحلوه ومره، أحيانا أفترض حياة أخرى وأتخيل أنني أعيشها لأهرب من مُرّ الواقع، كما يعلم أنني أكره أن يقاطعني أحد أثناء كتابتي، ولكن على عكس ما بداخلي أجبته:
- لا، لا عادي.
سيطر الصمت مجددا لدقائق قال بعدها محاولا فتح حديث مرة أخرى:
- بتكتب مذكّراتك برده؟
لم أجب لثوانٍ قبل أن أقول بنبرة لم يخفى فيها الحزن:
- اتغيرت كتير عن زمان، بس عمري ما قدرت أبعد عنها بحس ديما إنها بتسمعني، بتسيبني أقول اللي عندي ومبتقاطعنيش، على الأقل لقيت حاجة أشاركها كل اللي عايز أقوله، وتستحمل حزني ولخبطة كلامي ومتبعدش حتى لو كانت ورق.
صمتٌ عم المكان مجددا قبل أن يقاطعه قائلا:
- مروحتش جامعتك ليه بقالك أسبوع يا مازن؟
- عادي مكنش عندي حاجة مهمة.
- أسبوع كامل مفيش عندك فيه حاجة مهمة؟!
زفرت بملل من أسئلته المتكررة، ثم قلت:
-عادي يا أحمد، أعملك إيه يعني؟
-تعمل ايه؟! تطلع من اللي أنت فيه يا مازن وتركز في كليتك، أكيد مش هتفضل موقّف حياتك كدا كتير.
صمت قليلا بينما أنا أجمع أسئلتي، ثم بدأت بأهمها قائلا:
- مقولتليش ليه إن نور رجعت مصر من شهرين؟!
لم تتغير تعابير وجهه على عكس توقعي، لم يفاجئه سؤالي أو ربما أراد أن يُظهر ذلك، وسرعان ما أجابني بهدوء:
- ملقتش سبب مهم لإنك تعرف، كنت مفكرها صفحة في حياتك واتقفلت.
استفزني هدوءه هذا، لأرد عليه مستنكرا:
- أربع سنين مختفية ومعرفش عنها حاجة ويوم ما ترجع تخبي عني وفي الآخر تيجى تقولي مكنش فيه سبب لإني أعرف؟!
صمت ألتقط أنفاسي محاولا السيطرة على غضبي:
- طب سيبك من إني بحبها، بالنسبة للقضية اللي واقفة على كلمتين منها دي عادي يعني؟!
- ما أنت عارف يا مازن إني حاولت معاها، دورت عليها وسافرتلها من سنة، وحاولت أتكلم معاها وأفهمها، وإيه اللي حصل؟
تنهد منتظرا ردا مني بينما نظرتُ أنا للفراغ أتذكر ما حكاه لي عن هذا اليوم،..
***
طرق أحمد الباب ثم انتظر للحظات حتى فُتح ليجد نور أمامه، أطبق الصمت على كليهما لدقائق، ثلاث سنوات مروا منذ آخر لقاء بينهم، كان لقاءً فاصلا بينهم ليكتشفوا الحقيقة، ليعرفوا من كان السبب في كل شيء سيء عاشوه، ومن كان السبب في مقتل أهليهما على مرأى من أعينهما، كان أحمد يتساءل في قرارة نفسه هل هذا اللقاء سيجيبه على كل الأسئلة التي تتردد في ذهنه والتي من الممكن أن تحل له كل شيء؟
قاطع أحمد الصمت عندما سأل:
- ممكن أدخل؟
أصابها التوتر وهي تقول بارتياب:
- اتفضل.
دخل أحمد ثم بدأ الكلام قائلا:
- مش هطلب منك تبرري سبب اختفائك أو سفرك أو تغيير نمرة تلفونك لإني تقريبا عارف السبب.
كان التوتر ظاهرا جليا على وجهها حتى كادت تتصبب عرقا بينما تقول:
- طب خلاص أنت عارف السبب، أمال إيه المطلوب؟
- في الأول تسمعيني لحد ما أخلص كلامي وأقول كل اللي عندي، وبعدين تجاوبيني على الأسئلة اللي محتاج إجاباتها، واللي مقدرتيش تجاوبيني عليها يومها.
ثم أكمل بعدما أخرج بعض الأوراق:
- ده تقرير الطب الشرعي بتاع والدتك، والدتك اتقتلت بعد ما تم الاعتداء عليها بالضرب وطعنها بسكينة زي ما قلتي وسبب الوفاة موجود عندك، اللي مش طبيعي بقا إن سلاح الجريمة مكنش موجود مع إنك قلتي إنك شوفتيه!
ازداد توترها وارتفعت دقات قلبها حتى كاد يسمعها، وكأن خوفها امتزج بتوترها عندما أجابت باستنكار:
- أنا مش فاهمة حاجة، أنت عايز إيه دلوقتى؟
- مين كان موجود يوم وفاة والدتك يا نور؟
صمت لثوان يلاحظ ردة فعلها، ثم استطرد عندما لم تنبس بحرف:
- سلاح الجريمة اختفى بعد ما أنتِ صحيتي وشُفتيه، وشُفتي القاتل اللي أكيد كان موجود في البيت وقتها وخفاه؛ لأن أكيد كان عليه بصماته.
دارتا عيناها فى محجريهما، ثم نظرت أرضا وهي تجيب بحزم:
- أنا مش فاكرة حاجة.
نظر لها ثم قال متسائلا:
-مش فاكره؟! أنتِ عن طريق سكوتك ده بتشاركيه في جريمته.
كانت لهجتها مرتابة، متوترة أو ربما خائفة، هذا ما كان يشعر به أحمد عندما قالت:
- لو سمحت أنا قُلتلك اللي عندي، أنا مش فاكرة حاجة تانية من اليوم ده ومش عايزة أفتكر.
- خوفك ده ميدلش غير على حاجة واحدة إحنا الاتنين عارفينها.
نظر ليدها ليلاحظ ارتعاشها لفرط التوتر ثم أكمل:
- أنتِ عارفة القاتل ومتأكدة منه، أو خايفة تواجهي نفسك بالحقيقة، بس في الحالتين شكك في محله و احنا الاتنين عارفينه.
قاطعته نور ناهضة من مكانها قائلة بحسم:
- لو سمحت كفاية أوي لحد هنا.
ثم أردفت وهي تشير للباب:
- اتفضل.
انتهت المقابلة بخروج أحمد دون أن يزيد شيئا، ولم يحاول الضغط عليها بأي طريقة كانت تقديرا لأخيه ربما، أو ربما لشعوره بأن نور مجبرة على ذلك فاضطر لأن يضع عمله كضابط جانبا، وتعامل كأخ يشعر أن أخته تحت تهديد، ولكنه لا ينكر أن شكوكه قد تأكدت بعد تلك المقابلة.
***
قاطع أحمد شرودي في تذكر ذلك اليوم قائلا بنفاذ صبر:
- يا مازن أنا عايزك تفهم، نور اللي أنت حبيتها غير نور بتاعة دلوقتي، نور اتغيرت.. مقدرش أعرف إنْ كان سكوتها ضغط عليها، أو إنها فعلا بقت واحدة تانية غير اللي عارفينها.
أجبت بإنكار:
- أكيد حد ضغط عليها، أو ممكن حد هددها، فيه مليون سبب يخليها تخاف تتكلم.
- وفيه سبب برده يخليها تتخطب لياسر؟
صمت طويل خنق المكان، تجمدتْ الكلمات في فمي فلم أعد أقوى على الحديث، لا أنكر صدمتي، هل حقا حب سنوات يضيع أمام عيناي ولا أقدر على فعل شيء؟! كيف فرطتْ بي؟! كيف لم تفِ بوعدها الذي طالما وعدتني به؟ كيف تخلت عني وقبلتْ أن تكون لغيري؟
قلت محاولا قطع الصمت الذي طال:
- أحمد، أنا لازم أقابلها.
- وهتستفاد إيه؟
-يا أحمد افهمني، نور معارضتش فكرة إن القضية تتفتح من تاني، بالعكس لما طلبت منها معلومات في الأول وافقت وقالت، لولا ياسر اللي جه وقتها وبوظ كل حاجة، وأكيد مش هتغير تفكيرها كدا منها لنفسها.
أكملت:
- سيبني أحاول معاها مرة أخيرة مش هنخسر حاجة.
- يا مازن الموضوع كبير، أكبر ممّا أنت متخيل، أنا خايف عليك منهم.
- يا أحمد أنا مش صغير شوف إيه إللي المفروض أعمله وأنا معاك، صدقني محدش هيعرف يقنع نور غيري، نور في إيدها تحل لينا كل حاجة لو سبتني أحاول معاها.
حدق أحمد بالأرض مفكرا لدقائق ثم رفع رأسه ونظر لمازن قائلا باستسلام:
- هتروح تقابلها بس هتنفذ اللي هقولهولك بالحرف، فاهم؟
أجابه مازن بحسم:
- فاهم.
مر أسبوع بعد ذلك اليوم رتب فيه أحمد كل شيء لتلك المقابلة، قبل أن يأتي ويقول لي أن اليوم هو اليوم المنتظر للقائها، علمت أنها تخرجت منذ عام من كلية الحقوق ثم عادت إلى مصر للعمل بها، قرر أن يكون اللقاء في مكتبها، ركبت معه السيارة وأنا أستعيد في ذهني كل ما أريد قوله لها، كلمات متراكمة في قلبي منذ أربعة سنوات سأقولها كلها الآن، أو ربما بعضها، أو ربما أكتفي بالصمت لتتحدث أعيننا، لا أعلم.
توقف أحمد بعد دقائق أمام عمارة مشيرا لي للطابق الذي به مكتبها، خرجت من السيارة وأنا ألتقط أنفاسي مستعدا للقاء المنتظر.

و ما خفي كان اعظمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن