part 6.

551 49 17
                                    

كنت أشعر بارتباك نور الذي يزداد مع كل خطوة يتقدم بها ياسر نحوي.
نظر لي ثم قال بانفعال وهو يوجه كلامه لنور:
- بيعمل إيه ده هنا يا نور؟
نظرت لها لألاحظ ارتجافة سرت في جسدها، كنت ألوم ضعفها الذي أوصلها للخوف من هذا الجبان، هل كانت تلك نور التي عهدتها؟ هل ما يمر به المرء كافيا لتغيره لتلك الدرجة؟ هل ما يمر به المرء كافيا لتحويله من إنسان مستعد للوقوف أمام الكون بأسره إلى إنسان راضخ للظلم الذي يقع عليه؟ شعرت للمرة الأولى أنني أمقتها، أو ربما أمقت ذلك التحول الذي جعلني أشعر أنها واحدة أخرى.
نظرت لعينيه بتحدٍ وقلت بصوت:
- كنت بقولها اللي كانت المفروض تعرفه من زمان.
ثم اقتربت منه برهة وقلت له شيئا بصوت خافت متعمدًا ألّا تسمعني نور.
ما إن أنهيت كلمتي حتى أمسك عنقي وانهال علي بالسب متوعدًا بأن قتلي سيكون على يديه، استمر الشجار لدقائق قبل أن أبعد يده بقوة عني ثم دفعته متعمدا إسقاطه، رمقته بنظرة اشمئزاز و هو ملقي على الأرض ثم خرجت.
وجدت أحمد ينتظرني في السيارة كما اتفقنا، ركبت بجانبه وكان الصمت سيد المكان مثلما يقولون، كان متصلا معي على الهاتف وسمع كل شيء حدث، يعلم ما أشعر به الآن، فقد فشلت في أن أجعل نور معنا مثلما توقع.
خسرت حبي الآن وشعرت بمرارة الفقدان لكن هذه المرة أصعب من أي وقت مضى.
ربما كان أمل حبها لي كاذبا، لكن هذا الأمل هو ما أحياني، زرع فيّ الشغف ولما لا؟! وأنا الذي لم أتمنى شيئا بقدر أمنيتي أن تصبح بقربي، وأن نجتمع في يوم رسمته في ذاكرتي، تأكدت فيما بعد أنه لم يكن سوى سراب، لم ولن يصبح واقعا أبدا.
فشلت في جعلها تحبني، فشلت في جعل أي أحد يفضل البقاء بجانبي، هذه هي حياتي دائما، تعطيني ما أتمنى لأتعلق به وأصبح غير قادرا على تخيل حياتي من دونه، ثم تسلبه مني لتعيدني فاقدا للثقة في كل شيء، حتى نفسي.
أردف أحمد مقاطعا للصمت:
- قولت لك نور اتغيرت مصدقتنيش.
أخرجت تنهيدة طويلة ثم قلت:
- حبيتها، حبيتها لدرجة إني كنت مستعد أعمل أي حاجة عشانها، لو هقف قدام الدنيا كلها عشان تبقا معايا، كل ما حد منكم يقلي عليها حاجة كنت أقول لأ، نور لا يمكن تعمل كدا، نور اللي حبيتها بجد استحالة تشوف الغلط ومتقفش في وشه، فضلت أخلق لها مبررات لحد ما كل المبررات خلصت، لحد لما مبقتش متأكد هي دي فعلا نور اللي حبيتها ولّا لأ.

أكملت:
- بس على العموم أنا مش ندمان على أي حاجة عملتها، كدة عملت كل اللي عليا و أكتر.
أنهيت كلمتي ثم صمت قليلا وقلت متسائلا:
- أنا دلوقتي عملت اللي قلتلي عليه بس أنت لحد دلوقتي مقلتش شاكك في مين.
نظر لي ثم قال:
- كلها شكوك مش متأكد من حد معين، بس الأكيد إنه قريب من نور أوي لدرجة تخليها خايفة تتكلم لإنها عارفة كويس إيه اللي ممكن يحصلها كويس.
فهمت ما يلمح نحوه، ثم هززت رأسي متفهما.
ثوان مرت وكنا قد وصلنا، خرجت من السيارة ثم صعدت ودخلت شقتي وجلست على إحدى الأرائك، أخرجت هاتفي ثم فتحت ملف صورنا قديما وأنا أتذكر كل شيء مررنا به، كنت أسأل نفسي هل حان الوقت الآن لنسيان كل شيء؟ هل سأتخطى الآن حب كل تلك السنوات وأنساه؟ هل كان الجميع على صواب عندما نصحوني بنسيانها بينما كنت أنا على خطأ؟ هل أخطأت عندما وثقت بحبي وحاولت تحدي كل الظروف؟ لا أظن أن الكلمات بإمكانها وصف شعور اليأس الذي تملك مني.
ظهرت أمامي على الهاتف الكتابات التي كتبتها لها، شعرت أن كل شيء يتحطم أمام عيني، شعرت أنني كالأبله أحببت واحدة بينما هي كرهتني، رفضتني وقبلت بغيري وتركتني في منتصف الطريق، كان بإمكانها تحديهم جميعا، في يديها الآن أن تنهي كل ذلك ومع ذلك ترفض بشدة، كل شيء واضح الآن ولا شيء يستحق التبرير.
وجدتني أحاول دفن مأساتي في كلماتي كالعادة كاتبا:
اليوم استأصلت آخر قطعة آمنت بكِ من قلبي، لقد قطعت ما تبقي من حبال الود وأحرقت آخر أمل كنت أعيش عليه.
أملك هو ما كان يحيني قديما، وما كان يبث الروح في روحي لأستطيع أن أكون وإن كانت كل الدلائل تشير إلى أنني لن أكون.
لقد وقعت في حبكِ لتصبح الدنيا من سواكِ هبائًا في عيني، كنتِ أنتِ الضياء الذي أزال عتمتي، و انتزعني من وسط ما أخشى وبث في قلبي الأمل للمرة الأولى لأقف مواجها لكل ما كنت أخشاه، آمنت بكِ، آمنت بحبكِ و خلت أننا قادرين على تحدي القدر و الظروف، و أن نكمل مع بعضنا البعض، و ما كنت أدري أنك كنتِ ستتخلين بعدها، أصبحت لكِ مجرد ذكرى بينما كنتِ لي العالم بأسره، أصبحت لكِ فترة عابرة في وسط أيامك بينما كنتِ أنتِ أيامي و حياتي.
لقد زرعتِ في الحب، الأمل، الحياة، ثم اقتلعتيهم من جذورهم لتقتلعي معهم أشلاءً من قلبي، لتتركيني بجرح عميق عاجز عن مداواته، ولم يكن لأثر ذلك الجرح سوى أنه حول كل شعور شعرته إلى عكسه فأصبح الحب كرها والأمل يأسا والحياة موتا.
لقد مزقت اليوم آخر صورة جمعتنا، لقد مسحت محادثاتنا مسحت كل ذكرى جمعتنا يوما، إنني اليوم أرسم لنفسي طريقا آمل أن أنعم به، طريقا أتمنى ألّا ألقاك به ولو صدفة بعدما انتهي كل شيء وكأنه لم يكن.

و ما خفي كان اعظمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن