part 7. نور

450 39 6
                                    

نور
أشعر أن الكون يضيق بي، أغرق بين أمواجه عاجزة عن إيجاد أحبال النجاة، أتعلق بسراب ولا أجد ما ينتزعني مما أنا فيه وكأن الحبال ترفض مد يد العون لي، الكون يمقتني وكل ما حولي يؤذيني، لا أنتمي للدنيا ولا هي تنتمي لي، أبحث عن شتات نفسي ولكن نفسي تأبى ملاقاتي، حتى نفسي رفضتني، ولم تكن الوحيدة لو تعلم.
أشعر أنني تائهة عن إيجاد الدرب الصحيح، أو إيجاد نفسيَّ ربما، أفتقد نفسي القديمة، كانت أكثر جهلا للدنيا لكن أكثر تفاؤلًا، ما فائدة الإدراك إن كان يقتل؟ إدراكك بأن من أحببته لن يكون لك يومًا، أو إدراكك بأن صديقك الذي كنت تخشي عليه من الدنيا خذلك بدون أن يلتفت، أو أن أهلك يرونك مجرد مهدر للمال ليس إلا، أو حتى إدراكك بأن مستقبلك ينهار أمام عينيك بينما تجلس لا تملك القدرة لفعل شيء.
التقدم خطوة يحتاج إلى قوة، وأنت أهدرت كل قوتك كالجندي الذي أيقن في منتصف المعركة أنه في الفريق الخاسر، فتيقن أنه مهما حاول ميت لا محالة، استسلم لقدره ولما تمكن اليأس منه تمكنت رصاصات العدو من جسده فقتل في نفس اللحظة، قتله اليأس قبل أن تقتله رصاصات العدو.
لم تكن تلك حياتك التي تمنيت أن تعيشها، كنت تتطلع لحياة أكثر دفئا، لا يقتلك فيها مُر الواقع كل يوم، لا يدمرك فيها كل ما أحببت، ولكنك تفاجأت بعد سنوات بأن حياتك أسوأ مما توقعت وأقسى مما تخيلت.
ليتنا نرى الحياة بأعين الأطفال، فلا يطلنا يأس ولا إحباط، ليتنا نجد أنفسنا فيمن نحب، فلا يفارقونا ولا يخذلونا ولا يتركونا في وسط الطريق.
        لم يكن أسى الفراق يوما بسبب الفراق نفسه، فكم من وقت ملأناه بغنوة نسمعها أو بكتاب نقرأه، ولم يكن حتى حزنا على الشخص بذاته، فكم من أناس يأتون غيره مثله أو أكثر، لكن أسى الفراق يكمن في الخذلان بذاته، شعور أنك وثقت في من خانك، يكمن الأسي في آمالك التي تتحطم أمام عينيك بعدما كانت تكون في ذهنك مستقبل تتمنى أن تعيشه يوما.
لم نجد وسط تطلعنا لعناق حبيب أو صديق أو قريب سوى اليأس يبسط ذراعيه لنا، احتضننا وتملكنا، كأنه منا ونحن منه، كان هو المنتصر منذ البداية، هو الحكم وحياتنا المحكوم عليها، هو الذي حرك آخر قطعة شطرنج وأنهى اللعبة لصالحه.
يبدأ الآن يوم جديد في حياتي، مرهق كعادته، ممل كبقية الأيام التي تتكرر كل يوم، من المؤسف أن تكون تلك حياتي الآن، يظهرها القوة بينما يبطنها الضعف.
أحدث نفسي أحيانا وأسألها لماذا رضخت؟ لماذا قبلت بما لا يقبله بشر عاقل؟ لماذا وافقت أن تسلب مني حريتي بينما كنت أستطيع أن أحظي بها كاملة؟ ولماذا قبلت أن أضيع حبي الوحيد بينما وقفت صامتة ألعن ضعفي في نفسي؟
هل هو خوفي من مواجهة نفسي بالحقيقة؟ أم رهبتي من المجهول؟ أم ضعفي الذي لم أستطع أن أجابه أحدًا بسببه؟
لا أعلم، لا أعلم سوي أنني ضعيفة، أضعت كل الفرص التي أرسلها الله لي لتنقذني لكي أعيش مقيدة الآن.

أولها عندما جاء لي أحمد ورفضت قطعا التكلم عن ذلك اليوم خوفا من أن يمس مازن بسوء منهم كما هددت من قبل أبي عندما أخبره ياسر بلقائي بمازن وأحمد ذلك اليوم.
وآخرها عندما أتى لي مازن، وحاولت أن أجعله يذهب بأي طريقة قبل أن يحضر ياسر ويخربهم أنني التقيت به.
يراقبوني دائما، وبشتى الطرق، سلبوا مني حريتي لكي لا أطغى على حريتهم، أقسم أنهم يستحقون شر العالم، يستحقون أن يذهبوا جميعا للجحيم، لكنني لا أقوى علة الوقوف في وجه أيا منهم، أخر مرة فعلتها كانت بداية اللعنة لي، أو بالأحرى بداية لأسوأ أيام حياتي.
كنت فتاة كأية فتاة، أطلع لحياة نعيمة بجانب الشاب الذي وقعت في حبه، لكن آمالي كلها تحطمت فور رؤية ياسر لقائي بهما ذلك اليوم، أعادني إلى المنزل و أخبر أبي بما رآه، لم أعلم وقتها لماذا تطور الأمر إلى تلك الدرجة، و لماذا منعني أبي عن كل سبل الحياة بعدها، منعت من الخروج من المنزل و من الهاتف و من العيش كذلك.
كنت أجلس في غرفتي أبكي جاهلة لما يحدث لي، كانت زوجة أبي سعاد تأتي لي من الحين للآخر محاولة أن تهدأ من روعي، كانت الوحيدة التي حاولت أن تخفف من حدة الأمر عليَّ وقتها، لم أكرهها يوما فلم أرى منها سوء إلى الآن، بخلاف ابنها ياسر الذي كان مأساة حياتي الوحيدة.
فرض علي والدي السفر بعدها بسبب خوفه من لقائي بمازن أو بأحمد بعدها، و هددني أنه إذا علم بلقائي بأحدهما مرة أخرى فلن يتركهما على قيد الحياة، كنت أعلم قدرة أبي و أنه لن يتردد في فعلها لذلك قررت أن أمتنع عنهم بالفعل لكي لا يصيبهما أذى بسببي.
عدت إلى مصر بعد أربعة سنوات من سفري، وعادت خلافاتي مع أبي بعدما التقيت بأحمد وأقنعني أن أبي القاتل، لم أظهر شيئا لأحمد ذلك اليوم لكنني لا أنكر أن بعضا من الشك أصابني بأن يكون ذلك صحيحا بالفعل.
قررت من دون تفكير أن أواجه أبي، سألته فانهال علي ضربا، لم أجد أحدا سوى سعاد تنتشلني من بين يديه محاولة الدفاع عندي، وصفني بالمجنونة و رفض خروجي من البيت بعدها لأقضي أسابيع محبوسة في المنزل مرة أخرى.
جاءت إلي سعاد وأخيها حسين بعد ذلك، حاولوا إقناعي أن أقبل خطوبتي من ياسر لكي يسمح لي والدي بالخروج من المنزل، رفضت مقدما لكنهم أخبروني أنهم يفعلوا ذلك لأجلي ليس إلا، وأن ما يفعله معي أبي لا يرضيهم لذلك فهم يحاولون إيجاد طريقة تنتشلني مما أنا فيه، وافقت بعدها مضطرة لكي أخرج من سجني، لم أحب ياسر يوما ولم أتخيل أن شخصا آخر قادرا على أخذ مكان مازن.
أتذكر ذلك اليوم ونظرة الضعف في عيني عندما حضر إلي مازن وهدده ياسر أمامي أنه سيقتله، كنت أظنه مجرد كلام ألقاه من فرط عصبيته، لكنه لو كان كذلك لكان مازن على قيد الحياة الآن!

و ما خفي كان اعظمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن