part 1.

2.4K 109 8
                                    

مرت دقائق ونبيل يقف أمام المدرسة منتظرًا خروج ولديه، على خلاف ما يبدو عليه من تظاهره المعتاد باللّامبالاة، فقد كان يومض في أعماق قلبه القلق؛ حيث أنه منذ فترة لاحظ كما لو أن هناك سيارة تتعقب خطواته.
صدقا.. نبيل كواحد من رجال الشرطة يجدر به ألّا يكون بهذا القلق، لكن ماذا عن عائلته؟ ماذا لو تجاوز الأمر أن يتم استهدافه إلى استهداف أحد من أولاده؟
لم يستغرق من الوقت دقائق حتى خرج ولديه من المدرسة، أقلّهما ثم أخذ بالقيادة وعيناه لم تبرحا تلك السيارة القادمة من خلفه، اعتصر قبضته يخمن أيّ الطرق هي الفضلى التي قد لا تؤذي حياة ولديه، وعلى الأرجح كانت أن يشتبك مع تلك السيارة وأن يفاجئهم قبل أن يفاجئوه.
انقلبت ملامح وجهه جراء قلقه، فكانت حدقتاه تدوران بين الآتين من الخلف وبين الطريق الذي يسلكه، عندما نادي ابنه الأكبر صاحب الخمسة عشر عاما قائلا:
- أحمد..
التفت ابنه لصوته وهو يجيبه:
- نعم يا بابا.
حاول نبيل أن يهدّأ من نبرته لكي لا يبث الرعب في قلب الصغيرين فقال:
- بص يا حبيبي ركز معايا، أول لما أوقف العربية وأقولك اجري، تاخد أخوك مازن وتجري في أيّ شارع جانبي ومتبصش وراك، ولو حسيت إن حد بيجري وراك استخبى في أي مدخل عمارة وكلّم حد من أصحابي في القسم هيجيلك.
بدا التوتر جليًا على وجه أحمد ثم نبس خائفا:
- بابا هو في إيه؟ أنا مش فاهم حاجة.
- مش وقته يا أحمد، اعمل اللّى قولتلك عليه وبس.
ثم نظر إلى عينيه وأكمل:
- لو مقدرتش أرجع النهاردة يا أحمد تبقى وصيتي الوحيدة ليك إنك تاخد بالك من نفسك ومن أخوك مازن.
أنهى كلمته التفّ فجأة بالسيارة لتقف في عرض الطريق قاطعة إياه، ثم غادرها ممسكا بمسدسه، ثوانٍ تمر وكأنها تعد له آخر اللحظات قبل أن يحتدم القتال.
وجّه فوّهة المسدس للسيارة التي سكنت، وسرعان ما توالت عليه الطلقات فضغط على الزناد ثم أخذ يطلق بضع رصاصات عشوائية، صرخ آملا أن يسمعه ولده بينما كان مستمرا في إطلاق رصاصاته وهو يقول:
- اجري يا أحمد.
تمكن الخوف من قلبَي الصغيرين، حمل أحمد شقيقه ثم دفع باب السيارة ليركض به بعيدا عنها، لم يدري أيّ وجهة يسلك لكنه ابتعد فحسب، اختبأ وراء أحد الأسوار محتضنا أخاه الأصغر الذي بدأ في البكاء خوفا من ذلك الحدث الغير معتاد وكأنه كان يعرف أن هذا اليوم لن يمضي على خير.
كان أحمد يخرج رأسه من وراء السور من الحين للآخر ليرى والده، بينما بدأ نبيل يتنهد عندما تيقن أنّ ولديه قد ابتعدا مسافة كافية قبل أن يواصل إطلاق النار، وكل رصاصة تهشم رأس أحدهم.
لم يأبه لأيّ كان، فيبدو أنّ نهاية هؤلاء كانت على يده، وكم يروقه أنه انتصر عليهم،.. على الأرجح!
أخذ يقترب خطوات من السيارة، يود فقط أن يتأكد ما إن بقي أحد من هؤلاء المجرمين حيا لكي يضمن عدم نجاته، لكن لمّا دنا يشرع في فتح الباب.. وبلا سابق إنذار صدر عنها دوي صوتٍ شديد،.. لقد انفجرت!
يختلط صوت انفجارها مع صراخ أحمد ومازن الّذَين رأوا والدهم قد قُتل أمام أعينهم!
***
- أحمد،.. يا أحمد، انت معايا؟
انتبه أحمد من شروده على صوت زوجته فريدة قبل أن يقول:
- ها؟!.. بتقولي حاجة يا فريدة؟
- بقول حاجة؟ أنا بقالي ساعة بنادي عليك وأنت ولا هنا.
تنهد أحمد قليلا وهو يسترجع ذلك اليوم، حدث مرّ به منذ خمسة عشر عاما، لا زال عالقا في ذهنه حتى الآن، فقد والده ذلك اليوم أمام عينيه، لا زال يذكر تلك اللحظة وذلك الشعور الذي شعر به حينها، يذكر بكاء أخيه الأصغر الذي كان في السابعة حينها، يذكر شعور العجز الذي تملك منه فلم يفعل أيّ شيء سوى الصمت، الصمت لأسابيع وربما لشهور، فأحيانا ألم الصمت يكون أخف من ألم الحديث، فاختاره ليكون رفيقه قبل أن يقف على قدميه بعدها معلنا إنهاء الحداد، عازما على الانتقام، عاهدا ألا يرتاح إلا وجثث فاعلي ذلك ممدّدة في قبورهم، مقسما أن يجعلهم يتمنون الموت وأن يندموا على اللحظة التي قرروا فيها قتل والده، رغبته في الانتقام هي التي جعلته يدخل كلية الشرطة، بل وجعلته لا يفكر طوال تلك السنوات سوى في تنفيذ وصية أبيه والانتقام له.
قاطع شروده صوت فريدة مرة أخرى وهي تقول:
- في إيه يا أحمد؟ قاعد تسرح كتير ليه؟
اعتدل في جلسته ثم قال محدثا إياها:
- أصلي افتكرت يوم وفاة بابا الله يرحمه.
تنهدت فريدة بحزن فهي تعرف ذلك اليوم جيدا من حديثه عنه مرارا، تعلم تأثير ذلك اليوم عليه وما يحمله من ذكريات سيئة له، فبداخل كلّ منّا جانب منطفئ لا أحد يعلمه، من يقف كلّ يوم شامخا من الممكن أن يحطمه تذكر ماضي تمنى لو أن يمحوه من حياته، كلّ منّا يرقد في أعماق قلبه حزن لو خرج لأطغى على الكون اكتئابا لا ينتهي، بل وكلّ منّا ترقد في عقله ذكرى كلّما خطرت بباله تمنى لو أنه لم يولد كي لا يعيشها.
نظرت له ثم قالت:
- ياه يا أحمد.. انت إيه اللي فكرك باليوم ده، ده عدّى عليه سنين.
- هو أنا عمري نسيته يا فريدة؟ عمري هنسى اليوم اللي كان السبب في كل اللي حصلي أنا ومازن لحد النهاردة؟ أو عمري هرتاح قبل ما أعرف اللي عمل كدا؟
ثم تابع محاولا تغيير الحوار:
- مقولتليش مازن فين من الصبح، مشفتوش النهاردة خالص.
صمتت قليلا قبل أن تجيبه:
- في شقته تحت و...
كادت أن تكمل لكنها توقفت فجأة، فسألها:
- في حاجة ولا إيه؟
أكملت:
- مازن متغير بقاله فترة، قافل على نفسه دايما ومبيخرجش، وحتى جامعته مبقاش يروحها بقاله أسبوع.
تسائل:
- ماله؟.. في حاجة ولا إيه؟
- ما أنت عارف يا أحمد.
- موضوع نور؟
هزت رأسها إيجابا، فتفهم ثم قال:
- خلاص أنا هنْزله أتكلم معاه، وهخلص وأروح القسم، وانتِ ارتاحي شوية يا حبيبتي.. أكيد راجعة من شغلك تعبانة.
ربتت على كتفه ثم قالت:
- طب بالراحة عليه يا أحمد وحاول متزعلوش.. انت عارف إن موضوع نور لسه مأثر عليه.
أومأ برأسه متفهما ثم قال:
- ارتاحي انتِ زي ما قولتلك وأنا أكيد مش هزعله انتِ عارفة.

و ما خفي كان اعظمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن