part 5.

521 53 8
                                    

ركبتُ المصعد ودقات قلبي تسابق بعضها، لا أعلم هل فؤادي يرتجف فرحا؟! أم أنه يأبى تصديق أنّ اليوم هو يوم اللقاء الذي انتظرته طوال تلك السنوات؟!
كنت أصنع سيناريوهات خيالية في رأسي بأنّ نور تهرول إليّ لتعانقني، وتخبرني أنها فارقتني مضطرة، وأنّ كل ما حدث لم يكن برضاها، أريدها أن تبوح لي بأنها لم تحب أحدا سواي، وأنها قبلتْ بياسر رغما عنها، ولكن على عكس ما يتمناه قلبي، عقلي كان يأبى أنْ يصدق أنّ هذا سيحدث.
توقف المصعد أمام مكتبها، خرجتُ منه لأقف أمام باب المكتب لثوانٍ اعتدلتُ فيها أرتب هندامي، وأهدئ أنفاسي قبل أنْ أدق الباب، ليأتي صوتها من خلفه وهي تقول:
- ادخل.
دخلتُ المكتب، فرفعتْ عيناها تناظر الطارق لتتلاقى أعيننا، نظرتُ لوجهها وجدتها لم تتغير كثيرًا عن آخر لقاء بيننا، توقعتُ أنْ تتغير بعض من ملامحها، ولكنها كانت على عكس ذلك وكأنها صغُرت في العمر ولم تكبُر، أعادتني لذكريات طفولتنا، تلك الفتاة التي قضيت ما يقرب لنصف عمري بجانبها، صاحبة العشر أعوام التي وقعت في حبها منذ صغري، أو صاحبة السبع عشرة عاما التي أخبرتها بحبي ووجدتها تبادلني نفس الشعور، لم تتغير ملامحها كثيرا وكنت آمل أنّ شعورها تجاهي لم يتغير هو الآخر، لكن مما رأيته بعدها اتضح أنه كان مجرد أمل ليس إلا.
لم أرسم شيئا على ملامحي، بينما فوج من الأشياء يحوم داخل قلبي وعقلي أعجز عن التعبير عنه، كانت هي تنظر لي بارتباك وكأن مشاعرها اختلطت فلم تعرف ماذا تقول، نظرتْ لي ثم لفظتْ اسمي بلهجة تعتريها الصدمة:
- مازن؟!
لا زالت صدفة رؤيتها تحرك قلبي، وأنا الذي ظننت في بعدي راحة، وإذا بي أجد الجحيم في فراقنا بينما الصمت في لقائنا، أقسمتُ أنّ نظرات عينيها لن تهزمني وسأحافظ على ثباتي أمامها، وها أنا هنا أعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى بعدما أيقنت نجاتي، وإذا بي مجددًا،.. تهزمني نظرة.
شعرتُ بتوترها وبدقات قلبها التي تزداد، وكأن قلبها أوشك أنْ يخرج من بين ضلوعها، جلستُ ببرود محاولا إخفاء لهفتي، قبل أنْ أقول:
- ساكتة ليه؟ مش هتقولى حاجة؟
لم يعطِ وجهها انطباعًا سوى الصدمة، ربما من مجيئي الغير متوقع، أو ربما لبرودي الغير معتاد، لا أعلم، نهضتْ من مكانها ثم قالت برهبة يشوبها بعض التوسل:
- مازن، لو سمحت امشي.
تجاهلتُ كلامها ثم نظرتُ إلى عينيها، وقلت:
- متوقعتهاش منك الصراحة.
صمت أنظر لعينيها وبعدها أردفتُ:
- فضلت مستنيكى أربع سنين، أربع سنين مش بفكر غير في اليوم اللي ترجعي فيه ونبقى مع بعض، أربع سنين مش بتخيل فيهم غير إننا نرجع أحسن من الأول، وبعد كل السنين دى أعرف إنك اتخطبتي ولأكتر إنسان أنا وأنت كنا بنكرهه في يوم، وكمان بتطرديني دلوقتي.
وجدتها تقول بارتباك:
- ياسر جاي ولو شافك هتحصل مشكلة.
اقتربتُ منها وأنا أنظر لعينيها بتحدٍ ثم قلت:
- خايفة على زعله؟!
أكملتُ وكأنني أفرغ غضبي بها قائلا:
- عملك إيه ياسر عشان تختاريه قوليلي؟! حبك أكتر مني؟!
نظرتْ إليّ وقد تغيرتْ ملامحها لتحمل طابع القسوة وهي تقول:
- وأنا أخدت إيه من حبك يا مازن؟ قولي.. أخدت إيه غير إني اتسبت في نص الطريق؟ اتسبت مش عارفة حتى أعمل إيه أو أروح فين أو لمين، ملقتش شخص واحد أعيط ليه أو أقوله أنا كنت حاسة بإيه وقتها، سيبتني أول ما سمحت ليك الفرصة، كنت عايز مني إيه؟ أستحمل غيابك وأفضل عايشة على الذكرى وأنت تخليت عني، أنت اللي محاولتش ولو مرة إنك توصلي.
ألقت بكلماتها في وجهي؛ فشعرتُ بها واحدة أخرى تقف أمامي، هل حقًا ما تشعره تجاهي هو الكره الآن؟! هل تراني السيء في نظرها؟!
شعرتُ لوهلة أننا لم نُكتب لبعضنا منذ أول الدرب، لقد التقينا لكي نكون النقاط السوداء في صفحات بعضنا، ولكي نعيش ما تبقي لنا عاجزين عن التخطي، وكأن لقائنا ما كان سوى خطيئة نكفر الآن عنها.
تمنيتُ الآن لو أن الدروب فرقتْ بيننا منذ البداية، ولم تجعلني أقع في حب عينيها، وكأنني الغريق الذي وجد بهما طوق النجاة، ليته شيئًا ما حدث ولم نتكلم يوما، ولم يتَيّم قلبي بجمال ضحكتها التي عجزتُ عن نسيانها لسنوات، ليتني لم أقع بحب نظرتها التي خطفت فؤادي لتستحوذ عليه دون غيرها.
كنت أقف أمامها عاجزًا عن الرد وأمل اللقاء الذي تمنيته لسنوت يتحطم أمام عيناي، نظرت لعينيها مطولا ثم قلت أخيرا أحاول التبرير:
- نور أنت اللي اختفيتي، كان في إيدي إيه أعمله غير إني أدور عليكي؟ دورت عليكى وفضلت تلت سنين بدور وميئستش لحد ما لقيتك وعرفت مكانك.
دفعتني بكلتا يديها وهي تقول:
- ولما لقيتني عملت إيه؟ مكنش عندك الشجاعة لما عرفت مكاني تجيلي.. صح؟ أحمد جالي عشان القضية، وأنت جاي دلوقتي عشان القضية.. إنما أنا؟ أنا مش فارقة معاك يا مازن.
ألقتْ كلماتها فلم أعرف ماذا أقول، حاولتُ استيعاب كلماتها، لم تكن تلك الردود في حسباني، توقعتُ لقاءً مختلفًا، توقعتُ لقاءً كافٍ ليعوضني عن فراق سنوات بدونها، كانت كل كلمة تقولها تصعب كل شيء عليّ أكثر، حتى كدت أصدق أنني أنا السيء بالفعل، لم أجد من نفسي سوى أنني سألتها:
- أنت بجد مصدقة إني جاي النهارده عشان القضية؟
رنّ هاتفي ليظهر أحمد المتصل، أعدتُ الهاتف إلى جيبي، ثم نظرتُ لها مرة أخرى صامتا قبل أنْ أردف:
-نور، أنا حبيتك بجد، حبيتك لدرجة إني مكنتش شايف غيرك ولا اتخيلت في يوم أني هقدر أكون مع واحدة تانية وأحبها، لما بعدتي فضلت مستنيكي ومستني اليوم اللي هنتقابل فيه، لما عرفت إنك اتخطبتي كان ممكن أقول تمام جه الوقت إني أشوف حياتي وأنساها بس برده جيتلك، جيتلك وأنا مفكر إني هلاقي نور اللي حبيتها بجد واللي كانت بتحبني، نور اللي كانت مستعدة تقف قدام الدنيا كلها ما دام متأكدة إنها على حق، وعمرها ما قبلت تتنازل عشان خوف من حد أو غيره، متحاوليش تقنعيني إنك رافضة تتكلمي بمزاجك، أو إنك اتخطبتي لياسر بمزاجك؛ لإني عارف أنتِ قد إيه بتكرهيه.
ثم أكملتُ بنبرة تهديد:
- وفي الحالتين سواء اتكلمتي أو لأ، صدقيني هتلاقي اللي كان السبب في كل اللي إحنا عشناه وبنعيشه دلوقتي مرمي في السجن بياخد جزائه.
نظرتْ لي بنظرة مرتعبة ارتجف معها جسدها ارتباكا، التفتّ أنظر إلى ما تنظر إليه لأجد ياسر يقف منتصبًا عند الباب؛ لنتأكد كلنا من أنه سمع كل شيء.

و ما خفي كان اعظمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن