ثأرها والعراق

4.9K 197 35
                                    


مر شهرٌ ولم ينسى فردٌ واحداً حزنه لفراق الشيخ الكبير ولأجهر , ثار رجال القبيلة و ولولت النساء وندبن ولطمن خدودهن لموتهما , شيّع جثمان شاهين فجثمان إبنه أجهر والنساء ترتدي السواد..
بكى العبيد لموت شاهين فلا شيخٌ كان مثله..شديدٌ باسل يهابونه لكنه لم يقم بضربهم قط...
ولا تزال القبيلة في حالة يرثى لها...الخيام محترقة والعديد من أفراد القبيلة قد قتلو حتى العبيد لم يخلى سبيلهم وتم حرقهم أحياء دون أي ذنب يذكر...أُعلن بأن هِماد هو شيخ القبيلة الأن ...
وتغير هِماد كثيراً في تلك الأسبوعان المنصرمة ولم يعد يتحدث كثيراً كالسابق , شارد الذهن ونادمٌ لموت والده وأخيه ...يحمل بقلبه أحقاداً كثيراً ...
لم يرتح قلب أياً من أبناء شاهين كون أنهم لم يقتلو أخنس الذي تبخر كأن لم يكن ولم يجدونه ثأرهم مُعلقٌ بأعناقهم حتى يقتلونه.... وكون أن عذراء لم تستقيظ منذ ذلك اليوم بعد ولم يعلم أحدٌ ماعلتها فلا جروع تظهر على جسدها ولا مرض!..

في خيمة عذراء التي ترقد بمضجعها ويتبعثر شعرها الأسود اللماع حولها...كانت ليلى بجانبها تجثو على ركبتيها وتضم يديها وهي تتضرع بقلبٍ خاشع ترجو سلامة عذراء...
ثم وقفت ليلى وذهبت خارج خيمتها لبرهة وعادت وهي تحمل بين يديها جرة مملؤة بمياه البئر كي تسقي عذراء منها..
دلفت إلى خيمة عذراء فتوسعت عيناها وسقطت جرة المياه منها ...كانت عذراء تجلس وهي تتلفت بعينان ناعستان تنظر إلى أرجاء خيمتها وتحدق بها ببرود ..أدمعت عينا ليلى فرحاً وسارعت الخطى بإتجاه عذراء فإحتضنتها ثم تلمست ملمحها بيديها وكأنها تتأكد من كونها قد إستيقظت ..رفعت رأسها لتنظر إلى عذراء التي كانت ترمقها ببرود ثم قالت عذراء: مالذي حدث؟.
ثم توسعت عيناها بعد أن تذكرت كل ماحدث ...تذكرت مقتل أجهر ووالدها أمام مرأى عيناها وتذكرته..تذكرت بنيامين الذي هي معجبة به وكيف تحول أمامها لشيطان مرعب أسود فاحم اللون بقرون وأنياب ومخالب...
أدمعت عيناها وغطت وجهها بيديها فظهر القلق على ملمح ليلى التي كانت تحاول مواساتها ...وقفت عذراء على عجلة وهي تزمجر ثم صرخت قائلة: أين بنيامين؟..أين هو؟.
وقفت ليلى وهي تزدرد لعابها وتضع يدها بجانب قلبها والقلق قد أكل منه ماأكل ثم قالت متسائلة: ماذا تقصدين ؟ من هذا؟.
لكن عذراء نفذ صبرها فقالت وهي تحدج ليلى بنظرها: بنيامين فارس أبي وحارسي أين هو لا تتلاعبي بي!.
أخفضت ليلى رأسها ثم هزت رأسها بأسف وحزن فقالت: لا بد من أن وقع الصدمة كان له أثراً كبيراً عليك ... أنكِ لا تزالين مُتعبة ياصغيرتي إضجعي وسأنادي الحكيم.
بعثرت عذراء شعرها ثم صرخت وجثت على ركبتيها وتضرج ملمحها بالحمرة لشدة غضبها فصاحت قائلة: أنتِ تقودينني للجنون ...
ثم أشارت إلى ندبتها وفركتها فقالت: إنظري أنا أعرف سر هذه الندبة الأن...وهذا الخاتم أيضاً.
رفعت يدها فلم تجده لتتوسع عيناها تعجباً فقلبت يديها وهي تبحث عنه وتردد قائلة: أين هو؟...أين هو..أين هو؟.

هزت ليلى رأسها قلقاً فقالت وهي تنهر عذراء: أي سر وأي خاتم أنتِ لطالما كرهتِ الخواتم وهذه الندبة أحدثها لكِ صقر كنتِ تربينه في صغرك.
أدمعت عينا عذراء لدهشتها من ما سمعته فعادت لتصرخ قائلة: أي صقر لعين هذا منذ متى كنت أربي صقراً..أين هو أين ذلك اللعين سأقتله ...سألعنه.
ذرفت ليلى دموعها وغطت شفاهها ثم صفعت عذراء وركضت خارج خيمة عذراء وهي تنادي أوس وخبيب الذين كانو أمامها و على وشك الدخول لخيمتها بعدما سمعو صوت عذراء وأخبرتهم ليلى بكل ماحدث فقال خبيب الذي قطب حاجبيه تعجباً وغضباً : هل جننتِ ياعذراء من بنيامين هذا ؟.
لم تجبه عذراء بل وقفت تبحث عن الخاتم فقال أوس وهو يهدأه: هون عليك عذراء إستيقظت لتوها ولا تزال مُتعبة..إنها لاتعي ماتقوله و الأفضل أن نجلب لها حكيماً.
حدجتهم عذراء بنظرها ثم قالت ببرود وهي تزيل دموعها : لست لا أعيه أنا أقول الحقيقة ...وسأريكم بنيامين الأن.
تقدمت لتخرج من خيمتها لكن قبل ذلك إمتدت يد أوس إلى رقبتها وصفعها عليها فوقعت من فورها نائمة ليحملها إلى مضجعها فيضعها ويغطيها قائلاً بأسف وحزن: يبدو بأنها أكثرنا حزناً وفقداً وحسرة.
كانت ليلى لا تزال تبكي قلقاً على عذراء فقال خبيب وهو يبتسم بحزن: لقد قُتلا أمامهاو لم تستطع فعل شيء لهما.
أشاحت ليلى بنظرها عنها ثم خرجت من خيمتها وخرج أخوتها بعد أن أمر خبيب الجاريات بإطفاء المشاعل ...
إستيقظت عذراء قبيل الفجر فوقفت وذهبت خارج خيمتها ...كانت تجر خطواتها وتشعر بأن قلبها مثقلاً بالهموم والأحقاد ..رمقت الخيام المحترقة بنظرة خاوية وباردة ...السكون يطبق على أرجاء القبيلة فالجميع نيام..
لم تعد تحتمل شيئاً..وتراءى أمامها رأس والدها المقطوع وأجهر الذي مات لأجلها ..ثم إبتسامة بنيامين الخبيثة وقرناه الأسودان ومخالبه الحادة السوداء التي بدت كمخالب ذئب مسعور ..ثم عيناه الحمرواتان المتوهجتان كانت رعباً ..رعباً لايمكن أن تنساه ..
شخص بصرها وإرتجفت أكتافها الصغيرة فغطت ملمحها بيديها وبكت..حزناً على شاهين وأجهر وغيظاً من بنيامين ومن مافعله بها ..لمَ  تشعر بالضعف لمَ!...إنها بنت شاهين فأي رجل هذا الذي يشعرها بضعف كهذا...توقفت عن البكاء وتمالكت نفسها فوقفت ثم أزالت دموعها وحدقت بالأفق بنظرة جامدة ..لن تبكي فهذا لن يليق بها ..شامخة الرأس لن تحني رأسها أبداً هذه هي بنت شاهين عزيزة نمر وشيختها..
وحادثت نفسها قائلة بخيبة أملٍ وأسى: لا وجود لبنيامين ..إنه مجرد هيئة لذلك الشيطان الذي يبدو بأنه هو من كان يقوم بأذيتي طيلة تلك الأعوام.
عادت لخيمتها وهي تخطو بهدوء وبنظرة متعالية شامخة ...أمسكت بقطعة قماش ووضعت عمامة سوداء وجلبابين أسودان بداخلها ثم خمار ورفعت رأسها إلى منضدة سمومها فوقفت وأخذت سُمين كلاهما يقتلان أعضاء من يتجرعها...
ثم توجهت لصناديق ثيابها ومدت يداها إلى التمائم والكتاب كي تأخذها معها وعندها سمعت وسوسة ذلك الخلخال الذي أهداه إياه والدها...رفعته إليها ورفعت زينة الجبين إبتسمت بحزن ثم وقفت وحملتهم بين يديها فوضعت التمائم بداخل قطعة القماش وأبقت الخلخال والزينة في كنفها...
وقفت وأمسكت بسيفها وخنجرها ثم ربطتهما في جيدها ..
جلست فوق مضجعها ثم إرتدت الخلخال الذهبي ورفعت شعرها ثم إرتدت زينة الجبين التي لم تزدها سوا ملحاً وجمالاً ...
إرتدت عمامتها السوداء الأخرى وأخفت شعرها بداخلها ثم تلثمت بها وعندما وقفت وخطت بإتجاه قطعة القماش أطربت أذنيها وسوسة خلخالها ...
فسمعت ضباح حصيني الذي كان خلفها لتستدير إليه فدنت منه ثم ربتت فوق رأسه وقالت وهي تظهر إبتسامة صغيرة: هل تريد الذهاب معي؟...أعتذر ياحصيني فهذا صعب أنت ستبطئني وتعقيني .
تحركت بإتجاه قطعة القماش التي تشبه الخيشة ثم ربطت أطرافها ببعضها ورفعتها فوضعتها ثم ربطتها في جيدها فوق غمد سيفها وخنجرها..
تسارع خطاها لتخرج من خيمتها فأغلقت باب الخيمة خلفها وهي لا تزال تستمع إلى ضباح حصيني الذي كان يلاحقها..
ذهبت إلى الإسطبل وبحثت عن الجارح فوجدته حياً يرزق لتتهلل أساريها وهرولت إليه فإحضنت رأسه وصهل الجارح حالما رآها سعيداً برؤيتها..
جرته إلى خارج الإسطبل ثم إمتطته وعدت بإتجاه بوابة القبيلة وعند خروجها منها إستدارت وحدقت بأسوار القبيلة بأسى وحزن وندم يتعبه حسرة ثم قالت: أنا راحلة...لكنني سأعود برأس أحدهم ...لأن إبنة النمور ستنتقم لوالدها.
....
في ظهر ذلك اليوم في صحراء هرجاء وفي بساتينها كانت تعدو بجوادها العربي الأصيل ممشوق القوام ...توقفت عند رؤيتها نهر فترجلت عن جوادها كي تشرب منه وتأخذ مالذ وطاب من الزاد الذي يملئ البساتين ..جلست فوق صخرة وقسمت الرطب إلى جزئين ثم أكلته وقالت تحادث نفسها بجمود وبرود: لن أودع أحدهم ولن أرى أي شخص سأرحل عن هنا بلا شيء يربطني وسأعود قريباً...
إبتسمت بسخرية ثم أكملت قائلة: لكن عشق هذه الأرض بمن فيها هو ماسيربطني إخوتي وليلى ..الرومية وتلميذاتها.. لم أراهنّ منذ ثلاثة أسابيع , أو شهراً إذا ماضميت إليهم فترة غيابي عن الوعي.
إحتدت نظراتها ثم وقفت وهي تزمجر قائلة: أُقسم أنني لن أنام قريرة العين إلا بعد أن أقتلع رأسك وأحرق جسدك ياإبن الأعجمية أخنس عبد يعلى.
لم يغب بنيامين عن ذهنها وقد خفق قلبها ألماً وإستياءً فوضعت يدها بجانب قلبها ثم قالت بإشمئزاو وتقزز:شيطان قذر مثلك لن يبقى حياً...ما أن أنتهي من عبد يعلى حتى أقضي عليك.
إمتطت جوادها ثم عدت به بإتجاه اليمامة وستأخذ أي قافلة تذهب بإتجاه الحجاز ..توقفت وسحبت لجام الجارح كي يتوقف كونها تذكرت أن هناك طلسماً سيساعدها على السفر دون أي عناء وهي لا تود التأخر أبداً..
أكملت طريقها إلى اليمامة وقررت بأنها ستتوقف وتفترش الأرض بعد غروب الشمس ..كانت تفكر في حال إخوتها وماسيفعلونه حالما يكتشفون رحيلها أو باالأحرى هروبها...مالذي سيقولونه للخطاب وماالذي ستفعله القبيلة بشأن هذا !...لكنها قطبت حاجبيها وقالت بعزم وحزم تحادث نفسها: هل هذا وقته؟...سأتولى أمرهم فيما بعد وليذهب الخطاب إلى الجحيم بمن فيهم أبين .
جفلت لبرهة حالما تذكرت أبين وأنها لم تره في المعركة أو بعدها وقالت بحنق وحقد تُحادث نفسها: بالطبع لم يذهب ليقاتل كالرجال ..إما أن دعد منعته أو أنه كان يتمرغ في أحضان إحدى جارياته .
بعد مغيب الشمس وسكون الأرض ولمعان النجوم في صحراء هرجاء التي كانت عذراء لا تزال تعدو بها ...
توقفت بعد أن وجدت مكاناً مناسباً للإفتراش فترجلت عن جوادها الذي إنحنى وجلس لتجلس بجانبه فأزالت عمامتها وإنسدل شعرها فوضعت رأسها فوق معدة الجارح كي تنام...
رفعت رأسها وتطلعت إلى الخيشة التي تحملها معها فقامت بفتحها ثم أخرجت المخطوطة وقرأت طلسماً أشعل لها سبابتها ثم وقفت بعد ذلك وقرأت المخطوطة كما قد فعلت سابقاً لكنها ومابين السطور علمت بأنها أخطئت في قراءة إحدى الطلاسم وهذا كان سبب فشلها ...
ماأن إنتهت من قراءتها حتى إشتدت الرياح من حولها وظهرت عاصفة رملية ثم ظهرت دوامة من الرمل أمامها فوقف الجارح وصهل ثم بدأ يتراجع إلى الخلف ومعه عذراء التي كانت تبتسم وهي تشعر باالإنتصار فقالت تحادث نفسها والسعادة تغمرها : لابد من أنني قد نجحت..لأن هذه هي عذراء الباسلة نمرة نمر.
ما أن انهت حديثها حتى وقعت مغشياً عليها ووقع الجارح بجانبها فاقداً لوعيه وهو يصهل بفزع ويحاول أن يتمالك نفسه ...

•||عذراء الشيطان||•حيث تعيش القصص. اكتشف الآن