•••رياح بارِدة تعبثُ بخصله المبعثرَّة، يحتضن حقيبته المدرسيَّة وجسده محاولًا التقلِيل من الحيِّز الذي يشغله بقدر الإمكان، بخطا بطيئة، متمهِلة كان يمشي بهدوءٍ في الطريق المظلم وهو يعرجُ قليلًا، أنفه مُحمر وعيناه ما تزالان مُمتقعتَّان من فرطِ البكاء، نفث هواءً دافئًا في راحتيه ليفركهما، شعر بوجنتيه تحترقان حين تذكر إنفجاره قبل قليل وتشبثه بقميص ذلك الغريب كما لو أنه طوقُ نجاة.
زاد خط الحُمرة اِتساعًا ليلعن في سره بحرج، لم يعتد نفسه ضعيفًا، لكنه اليوم تداعى بالكامل. ربما كان يحمل طوال هذا الوقت ثقلًا يفوقُ طاقته، ومسألة إنفجاره كانت أمرًا حتميًّا.
زفرَّ بحرارة، على أيّ حال هو لم يكن نادمًا بل الحقيقة يشعر بالراحة أو يعتقد بأن هذا ما يعنِّيه الشعور بالراحة فهو لم يجربه من قبل، حتى حين حالفه الحظ وتمكن من السقُوط في النوم ليلًا، كانت الكوابيس تُطارده بلا هَوَادة، محدقًا بسقف السماء المُظلم فوقه، تساءل لوهلة، بحزنٍ يفوق عمره بكثير عن أيّ الواقعيِّن أقل بؤسًا؟
الكوابيس التي تعتريه في نومه أم كابوس يقظتِه الدائم.افترت شفتاه عن ابتسامةٍ صغيرة، زاد من احتضانه لنفسِه وتابَع المشي، كان مع كل خطوة يشعُر بعظامِه تآن، لابد أن أحذيتهم تركت أثرها على جسده، تنهدَّ وهو يعبرُ البوابة الفخمَّة مُتجهًا إلى ڤيلا مُضيئة، تبدو للناظرِ من بعيد كشعلةٍ من الدفءِ والرخَاء، لكنها لم تكن بالنسبة له سوى قعر جحيمٍ يمقتُّه بكل ذرة من كيانه، توقف أمام الباب الخشبيّ المُهيِّب، حين عبرته تلك الفكرة مخلفة وراءها طعمًا مُرًا، فمن المثير للسخريَّة كونه بالرغمِ من المعانَّاة التي يجدها خارج المنزل- إلا أنه يبغضُ العودة إليهِ أكثر.
المنزل. نعم، منزل وحسب. لم يكن بالنسبةِ له بيتًا، هذا القصرُ الشامخ الذي يصرخ بالغنى والترَّف، بالنسبة له كان باردًا كالصقِيع، موحشًا كحفرة مظلمة سقط فيها وعجِز عن الخرُوج منَّها.
وضع يده على مقبضِ الباب بينمَّا كانت الحقيقة التي يعيّها جيدًا تعتملُ في عقله، هو مُجرد زائرٍ عابر ستلفِظه الأيام عمَّا قريب.
ما إن همَّ بفتح الباب تذكر الهيئَة الرثَّة التي يبدُو عليها، سمع أصواتهم وقهقاتهم السعيدة صادرةً من صالةِ الطعام، فتنهد. لقد فوَّت العشاء، لم يكن الطعام ما يهمه لكن تقريع والدته له -إِن صح نعتُّها بذلك- بتلك النبرَة اللطيفة والمزيَفة أمام أخيه، لطالما كانت تحِّزُ في نفسه بشدة. عدل عن قراره واِتجَّه للباب الخلفي الخاص بالعامِلين، فتح الباب ودلَف خِلسة، كان ينظر حوله بحذر، وبخطواتٍ خفيفة اِتجه ناحيَّة الدرج لولا أن صوتًا هَلِعًا استوقفه:
"يا إِلهيّ سيدي الصَغير ماذا حدث لك!!"
تنفسَ الصعداء حِين رأَى أنهَّا لم تكن سوى مارتِينا، مدبرة المنزل ذات الـ 38 ربيعًا والابتسامة المعديَّة، بالنسبة له كانت مارتِينا أقربُ كيانٍ عرفه لدفء أو عائِلة.
أنت تقرأ
«Blue, Dark & Sad | أزرق، داكن وحزين»
Teen Fiction"هنا، يُوجد الماضي الذي يصنعنا والحاضر الذي لا ننفك نتهرب مِنه بالنظر إلى المستقبل، بالتوق إليه. لحظات الحياة المتسربة من بين أيدينا ودروسها التي لا نعِيها إلا متأخرين. هذه القصة عن أرواحٍ لم تيأس، مهما بدت لها الحياة مُعتمة ولا تطاق. مهما ألقيّ به...