•••
رأى المِشرَّط يلمع في الهواء ويشقه قادمًا ناحيته، لكنه لم يُحرِك ساكنًا بل بقي أسيرًا لقدره، هذه المرة أغمضَّ عينيه مستكينًا للحظة الأخيرة من حياته.
إلَّا أن صوتًا هزَّه، صوتًا أعاده، صوتًا مألوفًا، أجبره على أن يفتح عينيه أخيرًا لعلَّ هذا الكابوس ينتهي، بل واِنتهَى فعلًا.
كان يشهق ويشهق بينما يدا ترتستيان المحيطتان به تشده إليه أكثر، في عناق اِحتوَّاه ليهمس مهدئًا جسده المنتفض:
"إنه مجرد كابوس، مجرد كابوس، لا تقلق أنت بخير الآن!"
كررها مرةً تلوَّ الأخرى حتى هدَأ وتوقف عن الاِرتجاف، غزَّت أنفه الرائحة القوية لتعقيِّم المستشفيات، رأى الجدران البيضاء ولمح فوق جسده إزار المرضى الأخضر، فرخى قبضته حول تريستيان واِبتعد، سالت الدموع المحبوسة في عينيه، ليمسحها سريعًا بظاهِر يده.
فجأة، شعر بصداعٍ قادم من أسفل رأسه تشعَّب حتى جبينه، تآوه واضعًا يده ليجد أن رأسه كان ملفوفًا بالضِماد.
"هل تتألم؟ لحظة واحدة سأقوم باستدعاء الطبيب!"
همَّ تريستيان بالنهوض إلا أنه قبض على معصمِه بكلتيّ يديه، رافضًا أن يتركه يتحرك من مكانه ولو لشبرٍ واحد.
ابتسم تريستيان بحنيَّة ليضع يده الحرة فوق شعره، قائِلًا بمزاح:
"منذ متى كنت تتشبث بي هكذا؟ هل اِنقلَبت الأدوار فجأة؟ "
لكنه لم يجبه بل زادَّ من اعتصار يده، كمَّا لو أنه يخشى أن يختفي في أي لحظة، أن هذا هو الكابوس في الحقيقة وهو لم يستيقِظ بعدّ. تنهدَّ تريستيان بقلة حِيلة وعاد ليجلس في مقعده.
"هل أنت حقًا بخير؟"
سأله باِهتمام ونظراته تلمَّع بالقلق.
هزَّ رأسه، نافيًا بالسلب لأول مرة في حياته كلها، مما جعل عينا تريستيان تتسعان، وهو يسأل بهلع:
"أخبرني ما الذي يُؤلمك؟ ذلك الحقير إليوت ضربك على رأسك بزجاجة لهذا أُصبت باِرتجَّاج، لكن الطبيب قال أنها ليست بإصابةٍ خطيرة ويمكنك الخروج من هنا خلال عدة أيام."
طفقَت الدموع من عينيه فجأة كمَّا لو أنه تذكر أمر ما، ليفغر تريستيان فمه وينهض جالسًا قربه في السرير، مُحتضِنًا إياه.
"إلهي! ما الخطب؟ أرجوك أخبرني؟ لماذا تبكي؟ هل أنت خائف؟ هل...هزَّ رأسه نفيًا واِتكَأ برأسه على كتفه مخفيًا عينيه الدامعتين، لم يعلم تريستيان ما عليه فعله، لذا ظلَّ صامتًا يُمسِد في شعره بهدوء.
لم يُدرِك تريستيان مقدار الراحة التي يشعر بها، لم يعلم أن تلك الدموع هي في الحقيقة دموع سعادة، أنه نجَّا، تحررَّ من كابوسٍ نُسِج من أسوَأ مخاوفه، حاكته له مخيلته بإتقان واقعيّ فابتلع احاسيسه بالكامل، رباه، فكرة أنه كان يمكن أن يكون حقيقة، تُشّيعُ الجزع في أوصاله وتُوقِفُ تنفسه، تذكرَ بوضوحٍ مرعب، علبة الحساء، النار، وجه الشرطي، صوت حذائِها، والمِشرَّط الذي كاد أن يُغرز في عنقه. سرت فيه رجفة وطفقت المزيد من الدموع المتتاليَّة، تداعى جسده بنشيجٍ مكتوم، وسمح لروحِه الصغيرة بالتحرر من مقاومتها لقدر أكبر منها، حررها من قوة تدَعِيّها ولا تَمتلِكُها، فظل على حاله، مختبئًا بقميص أخيه الكبير حتى اِنزَلق وعيه مجددًا عبر حفرة سوداء، ملساء، قادته لعالمٍ خالٍ من الأحلام هذه المرة.
أنت تقرأ
«Blue, Dark & Sad | أزرق، داكن وحزين»
Teen Fiction"هنا، يُوجد الماضي الذي يصنعنا والحاضر الذي لا ننفك نتهرب مِنه بالنظر إلى المستقبل، بالتوق إليه. لحظات الحياة المتسربة من بين أيدينا ودروسها التي لا نعِيها إلا متأخرين. هذه القصة عن أرواحٍ لم تيأس، مهما بدت لها الحياة مُعتمة ولا تطاق. مهما ألقيّ به...