•••
"اِقتربي." "هيا يا حلوة اِقتربي." "لديّ شيء هنا سيروق لك، لقد ابتعتُه خصيصًا لأجلِك."
جثى على ركبةٍ واحدة، يده وراء ظهره وقزحيتيه الداكِنتين تبرقان بحماس، شقٌ طولي اِخترَق عينه اليسرى وامتد حتى أعلى عظمة خدِه، لحيته السوداء كانت خفيفة ومشذبة بعنايَّة، كفكف أكمام قميصه حتى مرفقيه فبرزَّ على ساعده الآيسر وشم تنين وفي الأيمن تفرع آخر على شكل نمر. حاول أن يجعل ابتسامته لطيفة لكنها –كالعادة- بدت كاِبتسامة حاصدٍ للأرواح. هسهست القطة واِلْتصقت بالجدار خلفها وقد انتفش فروها بتحفَّز.
"أمي! أمي! إنه يعذب القطة!"
جرَّت الشابة ابنها ذو الأربعة أعوام نحوها وهمَست: "اِهدَأ سبيستيان!"
"ولكن أميّ!!"
مَنحَهما ابتسامة ودودة في محاولة لطمأنتِهما جعلت الأم تحمل ابنها وتسرع مبتعدة رغم اِرتدَائِها لكعبٍ عالٍ، كادت أن تسقط...فألقت نظرةً خلفها نحو الزقاق حيث وقف ثم سارعت الخطا أكثر والطفل يتملمَّل في أحضانِها ويهتف: "أمي ماذا عن القطة!"
تنهدَّ مُمرًا يده عبر خصل شعره السوداء التي لامست عنقه، ترك طبق الدجاج المشويّ على الأرض ثم اِبتعد. وما إن بات على بعد بضعة أمتار اقتربت القطة وبدأت في التهام الطعام بشراهة ولكن ليس من دون اختلاس النظر ناحيته بين كل قضمةٍ وأخرى لقياس المسافة الآمِنة بينهما.
اِتكَأ على الحائط عاقدًا ساعديه المشدودِين أمامه، شاهدها تأكل بسعادة مع "مياو مياو" لطيفة لم تكن موجهةً إليه بل إلى طبق الدجاج المُتبَّل...أخرج من جيبه حلوى على شكل سيجارة، وضعها بين شفتيه وقال بقلبٍ مفطور: مساوِئ الحب من طرفٍ واحد...
"لايت!"
هتفت فتاة يافعة بعينين مُتمَايزتين، إحداهما زرقاء شفافة والثانيَّة ذهبيةٌ كتبرٍ مصهور، وقفت بالقرب من الباب الخلفي للمخبز، يداها فوق خصرها وعلى وجهها تكشيرة تنافس ابتسامته رعبًا.
- "نعم؟"
- لقد أخفت إحدى الزبونات مجددًا!! أخبرتك ألا تتسكع هنا!
- "ألا يستطيع الرجل أن يخلو بنفسه قليلًا؟"
تكتفت الفتاة فسقطت على جبينها خصلة ذهبيَّة، نفثت عليها: "لا تتسكع في الأزقة! أتعلم كم زبونًا فقدنا بسببك حتى الآن؟ وأيضًا..."
مشت نحوه بخطواتٍ صلبة، توقفت أمامه وسحبت يديه، أنزلت كميّ قميصه ثم شبَّت على أطراف أصابعها وزررَّت أخر زرين من ردائِه الأبيض، اِستلَت مشطًا من جيبها كمصففة محترفة وسرحت شعره المبعثر لجانبٍ واحد.
حدقت بنتيجة عملها برضا، باتَّ يلمع. مجموعة من النجوم حلقت حوله، رمقته بنظرات إعجاب واضحة فقد تحول لرجلٍ مختلف، مدير بنك أو وزيرٍ ذو مركزٍ مرموق بدلًا عن رئيس المافيا الآسيوي الذي كان يبدو مثله قبل بضع ثوان.
- "أنتِ تهتمين بالمظاهر أكثر من اللازم يا لِيلي."
ضرب بقبضته على صدره: "ما يهم هو قلب الرجل."
- "قلبك أسود كالفحم، إذًا ماذا تبقى لي سوى العمل على الخارج عله يكون سببًا لاكتسابنا بضعة دولارات إضافيَّة."
- "ذكريني لمَّ أنجبتك؟"
لوَت شفتيها المطليتين بلونٍ زهريٍ خفيف: "أنت لم تنجبني! والدَاي فعلا! كم مرة سأذكرك بذلك؟"
- "آه حقًا؟ أنتِ لستِ ابنتي؟"
حك شعره وهو يحاول التذكر بجديَّة.
- "يا إلهي الرحيم. هيا..."
دفعته من ظهره: "اليوم هو الثلاثاء يوم حلوى الفدج والكعك بالجنزبيل، لن تصنعا نفسيهما كما تعلم."
- "تخيلي لو صنعوا آلة تخبز لوحدها..."
- "لايت...هنالك آلات تخبز لوحدها بالفعل ونحن نمتلِكُ اثنتين منهما..."
- "أوه حقًا؟ وقد كنت أتساءَل أين اختفت أموالي..."
صمت برهة ثم سأل بتشتت:
- "قلتِ اليوم هو الثلاثاء؟"
فتحت الباب الحديدي ودلفا إلى المطبخ الذي اِمتدَت على طوله خزانات متراصة وألواح سوداء رخاميَّة، ماكينات القهوة زآرت بصوتٍ رتيبٍ مع اِهتزاز الثلاجات وقد فاح عبق الكعك وحبيبات القهوة العربيَّة في الهواء، حملت لِيلي بعض الصوانيّ المجهزة مسبقًا وأدخلتها الفرن، اِلْتفتت ناحيته وقالت: "أجل، اليوم هو الثلاثاء."
شخصَّ لايت ببصره بعيدًا وتمتم مع نفسه: "هو لم يأتِ بالأمس...هذا غريب."
تكتفت لِيلي: "تعني أزرق العينين؟ نعم لم يأتِ، غريب بالفعل هو لا يفوت يوم كعك الليمون."
حركت كتفيها: "إنه غريب أطوارٍ على أي حال. منكمشٌ على ذاته ويذكرني بالحلزونات، يطل برأسه وما إن تحاول لمسه يختفي بداخل قوقعته."
ما ألطفه!توجه لايت ناحيَّة طاولة الخبز الموجودة في وسط المطبخ، رفع جوالًا من الدقيق عن الأرض كمَّا لو أنه يرفع ريشة ووضعه برجةٍ عاليةٍ على الرخام، مُبتسِمًا بوُّد حدَّث نفسه: "عندما يحضر المرة القادمة سأصنع له كعك الليمون حتى وإن لم يكن يوم الاثنين."
أنت تقرأ
«Blue, Dark & Sad | أزرق، داكن وحزين»
Teen Fiction"هنا، يُوجد الماضي الذي يصنعنا والحاضر الذي لا ننفك نتهرب مِنه بالنظر إلى المستقبل، بالتوق إليه. لحظات الحياة المتسربة من بين أيدينا ودروسها التي لا نعِيها إلا متأخرين. هذه القصة عن أرواحٍ لم تيأس، مهما بدت لها الحياة مُعتمة ولا تطاق. مهما ألقيّ به...