١

51.3K 3.9K 3.4K
                                    

في ركنٍ منسيٍّ من جنوب المدينة...
حيٌ عجوز، أرهقته السنون، وسكنت جدرانه الشقوق والصمت.
عمارات متهالكة، شقق فقدت بريقها، وأرواحٌ تتنفس الخوف كأنّه هواء.

شارع هناك، لا يناديه أحد باسمه الحقيقي.
على ألسنة النّاس صار يُعرف بشارع الموت.
ولم يكن اللقب من نسج خيال، بل شهادة دم تركتها الجرائم على أرصفته المتشققة.

وسط هذا الخراب،
بيت قديم يتكئ على حافة السقوط، يملكه رجل يُدعى "أبو موسى".
منزل يشبه صاحبه: منهك، صامد رغم العواصف.

تلك الليلة،
جاءت الرياح تصرخ في الأزقة،
تحمل معها غبارًا كأن الأرض تلفظ أحزانها،
ثم بدأ المطر يسقط، بلا رحمة، من سماءٍ ثقلت بأسماء الله الحسنى، كأنها تسبح في رجاء.
صوت المطر كان أشبه بطبول حربٍ تُقرع فوق المدينة النائمة.
الطرقات خالية، النوافذ موصدة، والأبواب تُرتجف من العاصفة،
والكهرباء غابت، كأن الضوء نفسه رفض أن يشهد ما سيحدث.

في قلب هذا الظلام...
سُفكت روح.

كانت جريمة القتل سهلة، كابتسامة عابرة على وجوه أناسٍ نزعت الرحمة من قلوبهم.
لم تكن الضحية سوى متعة عابرة لهم... لعبة أخرى في سجل قسوتهم.

تعالوا...
اقتربوا أكثر.
سنفتح معًا باب بيت "أبو موسى"،
ونبدأ من هنا...
الفصل الأول من الحكاية التي كان يجب ألّا تُروى.

المكان: العراق/بغداد
الزمان: أبريل/ ٢٠٠٩

استيقظتُ مفزوعة من نومي، قلبي ينبض بعنف، نظري اتجه إلى الساعة المعلقة فوق الحائط...
كانت تشير إلى الثانية عشرة منتصف الليل.

تلفّتُ حولي، فلم أجد سوى الظلام يلف الغرفة، الكهرباء مقطوعة، والبرد يزحف إلى أطرافي.
مددت يدي المرتجفة نحو المصباح اليدوي، وما إن أضأت نورًا خافتًا حتى نهضت من فراشي ببطء.

رأيت النافذة مفتوحة، والستائر تتراقص مع رياح الليل.
تقدمتُ، وقفت أمامها، قطرات المطر تلامس وجهي، وبرودة الليل تداعب خدي.
أغمضت عيني للحظة أتنفس رائحة الأرض المبتلة، محاوِلةً أن أطرد ذلك الشعور الثقيل الذي جثم على صدري.

وفي لحظة خاطفة، سمعت وقع خطوات خلفي!
استدرت بفزع، أبحث في زوايا الغرفة...
لكنني لم أجد أحدًا.

تمتمتُ بصوت خافت، محاولة تهدئة نفسي:
ــ "مجرد أوهام... لا شيء هنا."

عدت نحو فراشي، سحبت الغطاء لأدفن نفسي تحت دفئه.
لكن قبل أن أغمض عيني، دوّى في أرجاء البيت صوت ضحكة خافتة، شيطانية النبرة، صادرة من الطابق العلوي.

تجمد الدم في عروقي، ترددت خطواتي، ثم شددت عزيمتي وصعدت السلم بخطوات حذرة.
في كل خطوة كان قلبي يخفق أسرع.

توقفت أمام غرفة أختي، دفعت الباب بهدوء.
كانت نائمة بسلام، أنفاسها منتظمة، ووجهها يغمره نور خافت.

انحنيت، قبلت جبينها، ثم أغلقت الباب خلفي بصمت.

لكن لم تمض سوى ثوانٍ حتى دوّى صراخ مروع من الطابق الأعلى.
كان صراخ أمي!

ركضت بأقصى سرعتي، السلالم بدت أطول من المعتاد، والظلام يبتلعني مع كل خطوة.

وصلت إلى الطابق الثالث، وقد خنقت أنفاسي رائحة دخان خفيف.
أنرت مصباحي الصغير، وعيناي تبحثان بجنون عن مصدر الصراخ.

حينها، وقعت عيناي على جدار كتب عليه بخط مائل بلون أحمر قانٍ:

ــ "بدأ العد التنازلي... كوني هادئة. F"

تسمرت مكاني، وارتجف جسدي بعنف.
صرخت دون وعي:
ــ "لا... مستحيل! ليس مجددًا!"

وضعت يدي فوق رأسي محاولة ألا أفقد صوابي، لكن قدماي حملتاني نحو باب المخزن، الذي كان مواربًا كأنه يدعوني للدخول.

جمعت شجاعتي، دفعت الباب ببطء، ودلفت إلى الداخل.
أشعلت نورًا خافتًا معلقًا بالحائط، كان بالكاد يضيء المكان.

تقدمتُ خطوات مترددة داخل المخزن.
تعثرت بجسم صلب، وسقطت أرضًا.

رفعت رأسي لأجد سكينًا كبيرة ملوثة بالدماء موضوعة بعناية على الأرض.

مددت يدي المرتجفة، أمسكت السكين، وعيناي تتسعان رعبًا.

بينما كنت أحاول أن أستوعب ما يحدث، سمعت أنينًا خافتًا.

توجهتُ بنظري نحو الزاوية المظلمة...
وهناك رأيت المشهد الذي مزق قلبي!

أمي وأبي ممددان على الأرض، جسداهما غارقان بالدماء، والسكاكين مغروزة في صدريهما.

صرخت صرخة ملأت البيت، وقعت على الأرض بجوارهما، أحتضنهما بجنون، أنتحب بكاءً مريرًا:

ــ "لماذا؟! لماذا أنتما؟!"

ارتجفت يداي، وامتلأت وجنتاي بالخدوش الدامية من شدة انفعالي.

ركضت خارج المخزن، وأنا أصرخ بأعلى صوتي.

وفي لحظة، دوى صوت جرس الإنذار، معلنًا عن حريق في المنزل!

هرعت إلى الطابق الأسفل.
والدخان بدأ يملأ الأرجاء، والنيران اشتعلت بالمطبخ، تلتهم الأخشاب والأثاث بشراسة.

التفت خلفي حين شعرت بيدٍ تمسك بي.
قفزتُ رعبًا لأجد أختي، وعيناها تغرقان في دموع الخوف.

صرخت بي، وهي تكاد تفقد عقلها:
ــ "ماذا يحدث؟ أين أمي وأبي؟ لماذا البيت يحترق؟!"

لم أستطع أن أنطق بحرف.
لم أجد أي إجابةٍ أواسيها بها.

سحبتها من يدها بقوة، وأسرعنا نحو باب الكراج.
كنت أبحث بجنون عن مفتاح الباب.

صرخت بها:
ــ "هاتفك! أين هاتفك؟!"

رمت لي هاتفها، وانتزعتُ مفتاح الكراج من الطاولة، فتحت الباب بكل ما أوتيت من قوة.

ركضنا في المطر المنهمر، سقطنا أرضًا من شدة العجلة، دون أن نلتفت.

ومن خلفنا...
كان البيت يبتلع نفسه تحت لهيب النار.

يتبع...

  🌪🌬 نمارق رحيم

"شاء القَدْر ألا نَلتَقي ..
كأيديّ المَسيح كُلَّ كَفٍ بإِتجاه"

⭐⭐⭐⭐

شخوص داخلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن