شخوص داخلة

٣

ابتسم وقال بصوت هادئ تطغى عليه الطمأنينة:
– الرّب دائمًا يُنصف المظلوم، وأنتِ ظلمتِ كثيرًا، لذا هو معك... وأنا كذلك، لا تخافي. أعلم كم أنتِ قوية، وستتجاوزين هذه المرحلة الصعبة، وستمضين قدمًا.

ثم أردف، نبرة صوته تملأها الحكمة:
– اتركي فكرة الانتقام الآن، ليس وقتها. حين يأتي الوقت المناسب، ربما بعد سنوات، ستكونين قادرة على فعل ما ترغبين به. أما الآن، فالهروب هو خيارك الوحيد. يجب أن تسافري وتختفي، حتى يعتقدوا أنكِ متِّ، وينسوكِ تمامًا.

تنهدتُ، وخرجت الكلمات من بين شفتيّ كأنّها دعاء:
– الرّب كريم...

سألني:
– هل جوازات السفر بحوزتكِ؟

أجبته:
– نعم، موجودة عند صديقتي.

كنت أشعر بشيءٍ غريب طيلة هذا الشهر، كأن قلبي يحذرني، لذا وضعت الجوازات والمستمسكات وحتّى النقود مع صديقة أثق بها... وقد صدق حدسي، فكلّ شيء حدث كما خِفت.

قال وهو يبتسم بإعجاب:
– أحسنتِ، هذا أفضل ما قمتِ به.

ثمّ أكمل، وقد لاح الحزن في عينيه:
– ماتيلدا، لو أخبرتِ والدكِ، ربّما لم يحدث كلّ هذا. كان ربّما سينقذكم، يسفّركم قبل أن يحترق البيت... ربّما كانوا أحياء الآن، وليسوا تحت التراب.

شهقتُ وقلت بحرقة:
– ومن قال لك أني لم أحاول؟ لكن كفى يا دانيال، أرجوك... الرّب رحيم.

سكت قليلًا، ثم تمتم مترددًا:
– لا أعلم ما أقول لكِ الآن...آسف.

قاطعته:
– لا تقل شيئًا، فقط... حاول أن تؤمن لي شقة، أو فندقًا غير معروف في -بغداد- لا أريدهم أن يعثروا عليّ. نحتاج إلى مكان آمن لنخطط للغد. الغد سيكون طويلًا، ويجب أن أستعد له، سأسافر خلال هذا الأسبوع.

– حاضر... أنا معكِ في كلّ خطوة.

– الرّب يحفظك، لقد أنقذتني في مواقف كثيرة، وسأبقى مدينة لك. بعد الرّب، لا أعتمد على أحد سواك. أنت صديقي، الأمين على أسراري.

قال بنبرة خافتة حنونة:
– لا حاجة للشكر بيننا، أنا أخوكِ قبل أن أكون صديقكِ. أغلقي الاتصال الآن، ربّما يراقبون الخط... كلّ شيء وارد.

– لا أستبعد ذلك...

– مع السلامة، واعتني بنفسكِ.

– وأنت أيضًا.

أغلقت الاتصال، والتفتُّ نحو أختي. كانت تبكي بصمت، ثمّ همست بصوت مكسور:
– انظري إليّ... لماذا تبكين؟ انظري، أتكلم معكِ.

– لا شيء، لا تقلقي.

– كاردينيا!!

صرخت فجأة بحرقة:
– ليت الرّب يأخذني. أختي... هل يعجبك ما نحن فيه؟ لا بيت، لا عائلة، مشرّدات بين الكنائس والشوارع... في هذه الليالي.