كان موقف مريب ومثير للشك، ليس نبرة العادية التي تحمل الهدوء فيها والنعومة، لم تختلف نبرتها هذا المشهد ابدا، شحوب وجهها هو من اختلف، ورجفان جفنها وعضة شفتها، مشهد لم يتجاوز سوا دقيقة واحد بل أقل، لكنه بسرعة ثانية بنسبة لي وانيا و آرون بكثير التفاصيل ومفصل للقارئ وطويل جدا للوليا وهي تنتظر الإجابة بفارغ الصبر من آرون الوجل، رد بصوت خافض : كما سمعتي.. بل من مفترض أن تأتي إلى حفلة أيضا!!.
اخر جملة مقصودة تماما من طرفه المتحدث الأخير، فهو وان كان موقف غريب قليلاً، فهو مفهوم له على الأقل تبقى لوسيان امرأة مكروهة لديها، وان كان ردة فعلها مبالغ به، اما صامتة في الجلسة، لم تفهم سوى شيئا ما، لأول مرة ترى معالم الفزع والخوف على وجهه صديقتها، رغم معرفة قليلة الزمن، طويلة الفهم، ترى الخوف جليا في مقاسمها الجميلة، ردت لوليا بتوتر وهي تعيد خصلة شقراء خلف أذنها : هل انتقلنا إلى مشاريع تجارية أخرى!!، أكملت بهمس: حتى في براتسك هنا..
اردفت وانيا وقد سمعت بعضا من همس لوليا : اي مشاريع تجارية؟
ابتسم آرون ورد : صديقتك تكره أرضها ووطنها.. اقصد عالمها الخاص بوالدها.. لوسيان احد تلك معالم الصارمة للمرأة!!
لم يرغب في إضافة أي كراهية نحو المرأة التي تشاركهم أعمالهم وتجتهد معهم، رغب في صرف انتباه الفتاة إلى موضوع اخر دون ملاحظتها، أيضا دون تظليل كلام لوليا وأكمل : على الأرجح.. لن تدعك لوليا إلى الحفل..
ختم جملته بخبث..
نظرت ناحيته المعنية اخيرا بملامح غريبة وقالت : بأي ساعة يتفرغ ابي؟!
قد أصاب ما يريد، صرف الأنظار عن الموضوع : وقتك مفتوح من ساعة الرابعة عصرا إلى ما بقى..
أعادت ظهرها للوراء بانتعاش وقالت بخطاب حاسم : إذا سأقضي السهرة معه رفقة وانيا.. ان صادفته الأن أخبره بذلك.. أود تقديم له صديقتي!!
بادرت وانيا كلام.تلك بدهشة وقلق، ولم تستطع ابداء رأي امام الرجل، كان من متوقع رؤية والدها سريعا أو على عجلة أو إلقاء التحية عليه في البهو أو عدم لقائه اصلا، كل الخطاب ما جرى أمامها بعد ذلك لم تستطع تعليق عليه سوا بالاستياء من تسرع لوليا المعتاد، أكملوا حديثهم دون اهتمام بها..
: أنها الأولى
: اي أولى
: الصديقة الأولى.. تقدمينها إلى والدك
: ما إدراك بذلك
:والدك يشكي دائما انطوائيتك
: غير صحيح.. ذلك لأنها مميزة!!
نظرت نحو وانيا بفخر وابتسامة عذبة، قد اختلفت ملامحها وملامح المعنية، وقالت دون أي تردد : سترى انها محبوبة جدا بل عفوية دون أي مظاهر خادعة
وافقها الرجل ونظر لها بتأمل ثواني: انها قبل ذلك جميلة!
حديثهم الفعلي هذا، حولها من القلق والانزعاج إلى توتر والخجل، نهاية إلى ختام حديث ذلك الرجل، داهمها خفقان قوي، سيل ينبوع حار صب فوق رأسها، لوهلة ظنت أنها ينبوع نفسه، من حسن حظها إذا انتهى ذلك المشهد بعد نهوض آرون ووداع لوليا بربت على رأسها، ووداع مع وعد لقائها مرة أخرى، في الحقيقة لم تسمع، كلامه سوى لوليا والمتحدث نفسه وانتم، اما هي تزداد درجة حرارتها حد الصم والبكم، بعد ذهاب الرجلي، التزمت فتاتين الصمت، فلا الخجولة نجحت في كسر حاجز خجلها ولا الأخرى مضت عن صمتها، عاد الهدوء يعم الجلسة، و هدأت الألسن لم تهدأ القلوب....
________________________________________
في احد حجرات الفندق، الحجرة الأخيرة من طابق الثاني، حيث احتلت مساحتها نصف الطابق، امتدت من الباب الكبير الذي يؤدي إلى بهو كبير وعريض نهاية إلى حجرة تتصل مع البهو دون أبواب، سوى من عاموديين يقفون بزاوية، قد طبع على الحجرة لون الكلاسيكي الخشبي، الذي يشبه حدا كبير مكاتب تسعينات والثمانينات مثل مكاتب السياسين العملية أو الاقتصاديين، بارضية خشبية قوية، ترن عند ضربها، امتد لون الأرضية إلى الجدران الخشبية أيضا في الوسط، امتدت طاولة مستطيلة كبيرة عريضة، مثل طاولات قصور قديمة، بلون بني محروق وزجاج مسقوف فوقها طبع عليها كفوف الأفراد، ومقاعد تبدو من برلمان البريطاني، ومكتب يقع خلف الطاولة مربع الشكل، متحد من اللون الأرضية الصلبة ووضع على طرفه إنارة بسيطة وبعض ملفات الحمراء الكبيرة، مقعد خشبي مريح بقماش مخملي احمر، وضع فوق المكتب لوحة تشرف على الاجتماع الحاصل بل مناورات الحادة بين شخصين إلى ثلاثة أشخاص بين عشرة صامتين واخر يرأس الجلسة بوجهه جامد، واستمر فيضان المشروع إلى حد ما، إلى أن حسم بطرف شخص ما، الجملة الذي رمي بها بعد ايماءة الشخص البارد، ((فيرارد ميد وبواتين شيمرفيرد.. تكفلوا بالترويج وضخ الأموال اللازمة))، أن ذكر مثل هؤلاء الأشخاص امام أولئك الرجال، رجال الطبقة المخملية كافية أن تخرس الجميع، مثل فيرارد ميد أكبر مصرفيين روسيا وبواتين شيمرفيرد، النبيل القوي الوحيد في ساحة الروسية، مثل هذا الدعم يضفيف أفواه صامتة وتواقيع جديدة، اكمل الشاب بثقة : بعد اجتماعنا الأخير في روسيا ونجاحنا في صفقة مصنع نيولردوم.. تواصلوا معنا أعلنوا ولائهم لنا أكدوا على ظهورهم معنا بشكل إعلامي أيضا!
قبل جملة الأخيرة انطلقت صيحات الاستهجان والاستنكار، إعلان موقفهم إعلامياً مستحيل، بل مضحك أيضا، لكن تدخل الرئيس هذه المرة بنفسه بعد صمت طويل، قطع الشك باليقين، وقال بنبرة هادئة بغلاف القسوة وعيونه تدور حولهم فردا فردا : لو كان ظهورهم معي إعلاميا.. يصيبهم بأي أذى لما أعلنوا موقفهم واخبرتكم بذلك.. الذي يجلس أمامكم ليونيد ناريسوفيتش.. احد اباطرة الحديد الان.. ما سوف يجنونه في حال نجاح صفقة سان بطرسبرغ.. من أموال وشهرة بالإضافة إلى النفوذ.. كافي أليس كذلك؟!
رد احد كبار السن بشك المصرفي : أليس هذا يضفي عليك بالسمعة السيئة.. ان تكون شريك مصرفي وشريك نبيل.. يعني اجتماع شيوعي وملكي بنفس الجهة.. إلا يعود علينا بالخسارة المالية وسمعة سيئة عليك انت بالذات؟!
: كل ما قلته وضع في الحسبان.. ما يحدث اليوم في روسيا والعالم اتجاهه نحو مصالح يكسر تلك المخاطر.. لم يعد الشيوعي متعصب ضد ملكيين ولا ملكي متعصب ضدهم.. هناك الأموال والنفوذ.. أصبحنا الان في سباق السرعة.. السريع هو المسيطر.. ذلك ما يهم الملكي والشيوعي المصرفي.. ولا يوجد اتحاد سريع النمو والنفوذ مثل اتحاد ناريسوفيتش.. الصفقة متبادلة يمنحون لنا واجهة سياسية وأصوات شيوعية وملكية..، وقف وأكمل خطابه بوجه جامد وحازم وأكمل : ما يهمنا هو المجد ما يريدونه هم المجد.. جميع من على طاولة والأن اتكفل بجميع الخسائر بنسبة ٥٠٪ وفي حال الربح..، ونظر ناحية صديقه وأعاد النظر لهم وأكمل بثقة مدهشة : في هذا الحال سوف تكون أرباح الاتحاد بنسبة ٥٠٪ لي انا..
َواكمل قبل أي اعتراض : الان وهنا و في حال.. قبل الخروج من الاجتماع من يريد وقوف معي بكل قوة دون أي شروط.. أو من يرغب بتلك الشروط الأخيرة وهي كالآتي.. أما أرباح دون شروط أو أرباح بشروط.. لكم حرية الاختيار..
جلس بعدها، وأعاد ظهره باسترخاء، راقب بعينين حادة، امتعاض البعض وانزعاج الآخر، في محصلة نهائية انسحب ثلاثة من بين عشرة وأربعة وافقوا أرباح دون شرط والستة باقيين أرباح بشرط،في محصلة النهائية، نجح ليونيد ناريسوفيتش في ضمان أربعة ممولين و مصرفي روسي وملكي أعلن عنهم وتبقى سياسي قوي، لم يعلن عنه بذلك نجح في اكتمال الضمانات، أصبح جاهز بل على أتم الجاهزية في مواجهة ودخول المضمار الانتخابي، مواجهة أقوى الناخبيين، لقد انتهى كل شيء، أتم أهم خطوتين، لم يتبقى سوى الزمن الذي لا يستطيع مجاراته أو مواجهته، الان حان وقت الاستمتاع بعطلته بعد شهور متعبة متواصلة، بعد نهاية الاجتماع ووداع الممولين والاتفاق الأخير..
نهض من مقعده بتعب وقال مخاطباً نفسه : تلك الشقية تنتظرني.. حمام دافئ ثم جلسة أبوية جديدة؟!
خرج من الحجرة بابتسامة دافئة تخص ابنته، واستعاد نشاطه وصعد جناحه قبل دخول الحمام، أجرى اتصال هاتفي مع آرون الذي أخبره قبل لوليا عن صديقتها وعن نيتها في السهرة معه رفقتها، اما هو بعد سماع الأخبار السريعة، وسهرة المساء قرر لقائها مساءا والراحة والنوم بعد الحمام للسهرة معهم ليلاً
_____________________________
على احد سفوح جبال سيبريا، تحت شجرة الأرزية التي تطل فوق الكوخ الخشبي مثل غيمة بيضاء برتوش خضراء ، على جذعها العريض استند ظهره رجل قوي، مالك الكوخ والشجرة، أشقر الشعر طويل إلى حد كتفيه ، ازرق العينين، طويل الوجهه، عريض الكتف ونحيل الجسم تبرز عضلاته من تحت الجلد وليس اللحم، المعطف البني والحذاء الجلدي العالي إلى حد الركبة وبنطلون الرمادي، وقفازات الجلدية السوداء ممسكة بكوب الشاي، أعطت مظهر رجل سيبريا بالفعل إضافة إلى الثلج المنتشر فوق رأسه وكتفه، والبندقية الصغيرة بجانب قدمه، انه بلا شك "بواتين شيمرفيرد" النبيل السيبري، ذو الدماء النقية، التي تنافس لون الثلج و، عمر الشجرة، واصالة الكوخ، لقد اعتزل العالم منذ مدة لا بأس بها، فمنذ فضيحة زوجة شقيقه الأخير وموته المفجع، وتلطخ شرفعائلة شيمرفيرد، ابتعد حتى يهدأ وحتى يظن أنه استسلم، لكنه من بعيد يراقب حتى الشمس والقمر، ويحرك الخيوط كما يشاء، لقد جهز مخزن الكوخ الصغير بما فيه الكفاية، وملئ المطبخ بالحاجيات، والبندقية بالرصاصات، بعد مضي سنة، انتهت خلوته أخيراً، عاد من جديد لمواجهة الشيوعيين وصداقة المصرفيين، لكن بشكل أقوى واذكى، ثلوج وصقيع سيبريا أعطي له برود وجمود إضافة إلى عروقه الباردة والاصيلة، فأصبح مثل نمر سيبريا، يدهشك لونه واختلاف طباعه، لكن مدهش به هو حدته الزرقاء، تلك العيون المخيفة الصغيرة التي تحمل لياقة الفهد الصياد، وشراسة المخلب، انها بلا شك احد أعظم الأسلحة ان لم تكن الأفضل، عيون الفهد السيبري، نهض من على الشجرة، وامسك في البندقية، سرعان ما تحول إلى هيئة الفهد السيبري، لكن أعظم ذكاءا وحذرا من الفهد الذي أصبح فريسة وهو الصياد، اقترب ببطئ مدروس من شجرة الأرزية
من مجموعة شجيرات صغيرة تتكاثف قربا من الشجرة الضخمة التي تفصل النهر الجاري عن الكوخ الصغير، حيث أصبحت منحدر حاد خادع مغطى بالشجيرات، مثالي للصيد، ووجه الفوهة بدقة وراقب تحركات الفهد المحاذية للنهر الجاري، كان الفهد شديد الثقة بقوته وحيدا، وبواتين شديد الثقة بتفوق البشري، أطلق رصاصة أصابت عنق الفهد، و ارداه مصروعا، لقد كسر ذكاء الإنسان كبرياء الفهد انه كما يقول بواتين دائما ((العقل البشري هو أعظم الاسلحة)) ، نزل منحدر بحذر مستندا على كومة الثلوج، أقترب من الفهد الذي سال دمه عبر النهر، مفتوح الفم، مفلوج العينين، تسيل الفتحة بغزارة، امسك الفهد من قدمه، سحبه ورائه نحو الكوخ، والتف من الجهة الأخرى للمنحدر ، حيث الطريق البسيط المواجهة للباب الكوخ الصغير، دخل الكوخ البسيط الذي يتكون من زاوية مطبخ صغيرة وصالة مفتوحة برفوف صغيرة منتشرة على طول الجدران الصغيرة المتتلئ بالنوافذ الصغيرة، اعتلى كل جدار نافذتين صغيرتين، وعلى الأرضية الرقيقة، جلسة تلفزيونية بسيطة من تلفاز وصوفة حمراء طويلة وطاولة منخفضة وطويلة، فتح باب المطبخ المطل على الفناء الذي اصطاد منه ذلك الوحش ، ولونت دماءه الحمراء الثلج النقي، وعاد من المطبخ بساطور كبير، دون مسند خشبي، لم يهم في تشريح الوحش المذبوح، حتى صدر ضجيج مكبوت من داخل الكوخ، رمي الساطور بأهمال جانبا، وخرج يحمل هاتف خلوي كبير، فتح الخط، تبادل جمل مقتبضة، وأغلل الهاتف وعاد لعمله، يفكر بنشوة ما قاله الطرف الآخر (( أعلن ليونيد ناريسوفيتش خبر انضمامك إلى الحملة )) ، الخبر الذي انتظر إعلانه طويلاً، رسم ساطور حدود عنقه من الرقبة حتى أسفل بطنه، اخرج جميع احشائه بمتعة ظاهرة....
_________________________________________
.. مدينة سان بطرسبرغ بأحد الضواحي..
انتشرت رائحة السيجارة في الهواء بشكل عبق، مثل رائحة الازفلت الجديدة، تبعث الحرارة والرائحة بشكل مكتوم، والمدهش قليلاً لو كان مصدر الروائح تلك تنبع من شخص واحد، يجلس على مقعد بسيط بالقرب من مسبح كبير وتجلس أمامه امرأة صغيرة تستند بمقعدها بالقرب منه، وتبدو منتعشة بالروائح المنتشرة، بل الشخص نفسه، ارخى سجارته عن فمه قال ببحة : أين جاك..
ردت المرأة باسترخاء : مع المربية
: لوحدهم؟!..
: نعم لوحدهم.. لماذا تهتم؟!
: هل تبقين الصغير لوحده مع امرأة غريبة؟
: انها كاثرين هل نسيت؟!.
: لم أنسى..، ورمى سجارة في عرض ماء المسبح وقال بحدة : الطفل مازال عليل الصحة.. بعطلتنا الوحيدة تفضلين الجلوس بدونه!!
قالت ببرود : هل ترى ابنك يستحمل الجو البارد والدخان الظاهر ويفهم الأحاديث الغريبة
لف قدمه وقال بفخر : انه وريثي في النهاية وعليه التأقلم على الأحاديث هذه.. لقد اجلسني ابي في حضنه منذ صغري سرد علي حتى مغامراته النسائية.. هل ترغبين في سماعها مني سيدة ميد؟!
انتفضت السيدة بحدف وقالت برجفان : هل تنوين منافسة والدك أيضا في مغامراته!!
: ذلك شيئ بسيط مازلت في شبابي؟!
: أصبح عمرك ٤٤؟!
: هل يهمك الرقم.. مازلت في عنفواني الرجولي القوي.. هل تودين التجربة؟!، ابتسم بخبث، وسرت رعشة جارفة في جسمها، لقد كانت أنتونية ميد زوجة فيرارد ميد احد اباطرة السوق ومالك احد اكبر بنوك روسية، مريضة منذ ما يقارب الثلاث سنوات، تم تشخيص مرضها بداء السل، رغم العناية الطبية الفائقة، بالكاد نجت من الموت وعادت للحياة، لكن بشروط، أحدهما وهي فقدان عاطفتها ناحية ابنها الصغير الذي نشأ دونها وبعيدا عنها تحت رعاية ابنة شقيقتها الصغرى التي تولت عنايته بطيب خاطر، وقد بلغ من العمر ٧ سنوات، بالكاد يخاطبها بلقب امي، وفقدان حياتها الجنسية عكست تلقائياً على زوجها الوسيم الشاب، فقبل مرضها بالكاد ارضت متطلباته ومراعاة احتياجاته، ومجاراة شبابه، الان بعد وهنها ومرضها، أصبحت مجرد جثة خرقاء تتنفس الأكسجين المر، من رئة الزوج الشره، رغم جفافها وإهماله لها بعد مرضها، في بداية السنة الأولى واضب على زيارتها في المشفى وبعد السنة الثانية أصبح يأتي كل ثلاثة أيام، بعدها أصبح يأتي مرورا في عطلته الأسبوعية، مع سنة الرابعة وتحت ضغط منها طلبت منه الخروج من المشفى والبقاء في المنزل، أصرت على الاقامة في صالة العلوية حيث مكتبه الخاص، حتى تراه كل يوم، وتشبع احتياجات الجسدي والنفسي به، بمجرد رؤيته أو الجلوس معها، نجحت محاولتها تلك في الشفاء والمضي قدما، بعد ذلك أصبحت تتجول براحة في المنزل، وتراقب الغريب المسمى ابنها وزوجها الحبيب البعيد، وتجلس مع ابنة شقيقتها، قد غدت مربية رسمية وعاملة لديهم في المنزل، لقد تعاملت معها بجفاف ورسمية رغم مودة الأخيرة، فالمرض افقد كل ما لديها من مشاعر، مشاعر الأمومة ووالرحمة والشفقة، بل حتى عقلها الحاد الذي تميزت به أي تميز، أصبح رديء وصدأ، كل ما تبقى منها مشاعرها الجارفة ناحية فيرارد ميد، معشوقها السابق و زوجها الحالي، بل تطور إلى درجة لم تعد تشعر بنبض قلبها سوى بالجلوس جانبه من صباح كل أحد، ومراقبة دخان سجارته الطويلة، واستنشاق دخانه بهذيان وتتبع نظرات عينه الرمادية وشعره الكهرماني الناعم الذي عاكس الزمن، غدا يتحول إلى كحلي، وبشرته البيضاء الصافية، وأنفه الذي يعكس ردود فعله وفمه الكبير المغري، الذي لم تكن تنفك شفاهه عن الارتواء ولا جسمه عن الحاجة اليومية، ذلك ما سبب لها قلق كبير، شخص مثله لن يهمل حاجته، بل هو حريص على العناية بها، أشد العناية، لم تفقد عقلها كليا حتى تضمر وفائه، فهو شهير من قبل زواجها بها بمغامراته النسائية، رغم تحذيرات صديقاتها وعائلتها من دخول قفصه الذهبي، الا انها أقدمت على مخاطرة بادراك القلب قبل العقل، قبلت المجازفة، رغم كون فتى الأحلام ومعشوق النساء، الا انه لم تفكر احد من فتيات صالونات سان بطرسبرغ في الزواج منه، الزواج من شخص لعوب وذكي واسع النفوذ، يعني أن تصبح عمياء ومطيعة له، جميعهم فضلوا الدخول معه في علاقات قصيرة المدى، تجربة تقبيله ومعاشرته جسدياً ، الا انها هي مختلفة كل الاختلاف، أخبرته بكل صراحة برغبتها في الزواج منها، وهي ابنة عائلة اروكسين الكبيرة، لقى عرضها لديه الاستحسان فالزواج من فتاة جميلة، ابنة المجتمع الراقي، ذكية ومخملية من طراز رفيع، الأهم تدرك جميع شروطه وهي عدم حشر نفسها، ووافقت بكامل الرغبة، أصبح صدى زواجها منها حدديث الجميع، لسنة كاملة منذ الخطوبة إلى حفل الزفاف الباذخ تكلموا به البشر سبعة أيام كما ارادت، لم يتوانى فيرارد آنذاك وقبل ثمان سنوات من منحها المتعة والحب،خلال إجازتهم الطويلة في جزيرة هاواي، كانت عذراء تبلغ من العمر ٢٨ عاما وهو رجل ضخم البنية، فارع الطول ويبلغ من العمر 36، كل شي كان على أكمل وجهه حتى بعد عودتهم إلى عش زوجية، جهلها بأعمالها، رغم حرصها على مراقبة النساء من حوله لم ترى أي ردة فعل مثيرة للشك، ذلك منحها الراحة والثقة، التزمت الجلوس في القصر، أدت واجباتها المنزلية والزوجية وحضرت صالونات الزوجية، اصبحت احد ابرز وجوه المتزوجات في سان بطرسبرغ، نظمت الحفلات والجلسات الخاصة بزوجها، وحرصت على الالتزام بواجبها نحوه، لم تنسى وعدها لنفسها في مراقبته عن كثب وبعيدا، تكلل نهاية السنة الأولى بحلمها، رغم فرحتها وبروده في تلقي الخبر، لم يتوانى بعدها في إظهار فرحته عن الوريث القادم له، بعد انتصاف شهور حملها واصبح الجنين ذكر، اهدي لها هدية، وتلك كانت الهدية الأولى، وكانت ساعة الماسية بثروة تقدر مئة ألف روبل، قبل شهر من ولادتها، صعدت كل فرحتها إلى تعاسة عندما صابها الإجهاد والتعب، لتبين لاحقا مرض السل، والذي نتج عنه ولادة مبكرة للطفل، دخول بغيبوبة دون رؤيته لمدة ثلاث اشهر، بعدها رأته للمرة الأولى، لكن كطفل مريض وعليل، كان يشبهها في كل شي، حتى المرض الذي اكتسبته قبل ولادته بشهر ، رغم تعهد شقيقتها الكبرى بعد وصيتها لها للطفل بعد تشخيص مرضها، لم تستطيع شقيقتها الوفاء في الوصية، من طفل مريض وأم مرهقة متعبة، فما كان منها إلا إرسال ابنتها للعناية في الطفل، كاثرين المتخرجة حديثا من مدرسة ثانوية، آتت للدراسة في سان بطرسبرغ من شمال الروسي، ووجدت في الإقامة مجانية وراتب جيد مقابل العناية في الطفل إلى جانب دراستها، صفقة جيدة، لم يعجبها ذلك الخبر غير أنه مرضها آنذاك سلب منها كل ما سلب نسيت نفسها، عندما عادت للحياة، بالكاد تذكرت نفسها واستعادت بعضا من عقلها ومشاعرها، لم تظن أنها سوف تعود، عندما عادت كل شي بغير مكانه على نحو سيئ، لم يساعده جسمها العليل على إصلاح ما تلف، سوى الجلوس مراقبة ذلك المدخن أو مراقبة ابنها ومربيته وفق رأيها، بصمت ودون جلل، كان الجالس أمامها يملك من الدهاء ما يكفي لمعرفة فوضى مشاعرها، رغم شحوب وجهها، وقال بتفيكر ظاهري : لقد اكتسبت لقب جديد، وضحك بخفوت وأكمل : لقب جميل اي جمال.. انه يسرك.. الزوج الوفي.. ما رأيك؟!
كان ينتظر منها اي ردة فعل جيدة أو سيئة، بقت صامتة دون أي رد، بعد دقايق قالت بخفوت حزين : لست أنت الخاسر.. تستطيع إعادة كل شي كما تريد؟!
إذا كان يملك من الذكاء ما يكفي لإصابة فؤاده فهي مازالت تملك من حدة لسان كافية لإصابته أيضا، رد كما أردات بغضب مكبوت : خاطئة أيتها السيدة.. في عشي الدافئ هذا أملك أبن عليل ومريض.. لا أظنه يستطيع تحمل علامات البلوغ و زوجة تحولت إلى شبح مخيف يجول في القصر مسبب الرعب لسكانه.. الحال انهم حولوا ذلك العش الدافئ إلى بارد.. لم يصلني البرد بعد لكن وصلني الحظ السئ فلا أملك إلا زوجة ميتة وأبن مريض ..
:تستطيع.. مازال لديك الوقت والصحة لذلك.. اما انا؟؟
قاطعها بنرفزة : اما انتي؟
أكملت دون مبالاة: اما انا لم سلبت مني الصحة والحياة والأطفال في سبيل استنشاق بعض الهواء البارد توجب على التضحية بكل شيء..، و إدارت رأسها نحو ورمشت بدمعة
بدمعة علقت بطرف عينيها، وأكملت : اما انت لا تعاني من كل ذلك.. لقد أحببتك أيها السيد أن رغبت في تركي انا والطفل بعيدا لا أمانع.. في منزل عائلتي الصغير..ارقد آخر أيام حياتي ولا أعلم من منا سوف يدفن الآخر.. تقدم بحياتك سيد ميد ولا تنظر لنا.. مع أنني أشك في انك تحتاج رهن أشارتي حتى؟؟
لقد كان خطابها مؤثر حمل طابع القوة رغم كل ما مرت به، من وغز الإبر وشرب الأدوية وقياس الأجهزة فوق جسمها، والأنهاك العصبي، مازالت تملك تلك الطاقة والنظرة ، لكن هذه المرة بطابع حزين، لا يرقى إلى الصمود لدقائق، غير أنه تلك النظرة المرسلة نجحت في التأثير على السيد ميد، حولت هذه المرة الكرة لملعبها، لأول مرة تخاطبه خطاب المفرد والجمع سويا، وسبر اغواره وكشف غياهيب أفعاله، نهض منتفضا بعيدا عنه، ودخل وقبل ابتعاده، أخبرها انه لن يعود قبل الفجر، ابتسمت بحزن، سند رأسها على مقعد الثاني، وسندت انفها تتبع الرائحة العالقة في مقعده....
________________________________________
تعريف شخصيات رواية
ليونيد ناريسوفيتش 40 سنة
لوليا ناريسوفيتش 18 سنة
ادوس بارتيكوف 45 سنة
اني العجوز 77 سنة
وانيا انوشكا بارتيكوف 18 سنة
آرون ايدلر 29 سنة
لوسيان ميب 39 سنة
ماري سوا 19 سنة
ألكساندر ميب 18 سنة
ايمون دريند 18 سنة
بواتين شيمرفيرد 28 سنة
فيرارد ميد 44 سنة
انتونية ميد 36 سنة
فاريا ميد 8 سنوات
كاثرين لونغ 25 سنة
نهاية الفصل
أنت تقرأ
دخول الجنة
Romanceبعد حياة مملة كئيبة تصتدم وانيا بارتيكوف، بمشاعر غير مفهومة هل هي ابوية أو إعجاب أو حب ناحية والد صديقتها المقربة (ليونيد ناريسوفيتش)، في خضم كل هذا نكشف الأسرار والمفاجأت متعلقة بحياة الجميع... الفصول كل اثنين