جلس عمر في شرفة منزله الصغيرة وأستند على السور الحديدي بينما صدح من الراديو القديم إحدى أغاني العندليب الذي لطالما استمتع والده بالإستماع إليها مثلما يفعل الآن، فقد كان والده عكس الأكثرية ليس من محبين الست أم كلثوم، بل كان يفضل عبد الحليم حافظ ويستمتع بأغانيه وكأنها ما تجعله يشعر بطعم الحياة، كان يراقب والده الذي يستمع لألحان الأغنية مغمض الأعين، وكأنه يوقف جميع حواسه ليقوي حاسة السمع فيسمع الأغنية بكل جوارحه، أغمض عمر عينيه ليستمع للأغنية بدوره، وبعد عدة دقائق صدح صوت العندليب قائلًا: « فاتت جنبنا، أنا وهو، أنا وهو. »
تزامنًا مع صوت العندليب المميز صفعت نسمة هواء باردة جسده فانتابته قشعريرة لم تدم طويلًا، فالطقس في هذا الوقت من السنة كان ربيعي يحتفظ بالقليل من النسمات الباردة من بقايا الشتاء، وكان عمر يرتدي قميصًا خفيفًا أكمامه قصيرة، مما يجعل أقل نسمة هواء تشعره بالبرد الشديد، كان يتعمد أن يرتدي الملابس الخفيفة في هذا الوقت لأنه يظن أن الشعور بالبرد الذي يغلف جسده ويتسرب بخبث إلى عظامه شعورًا لطيفًا، ولكنه لم يعلم أن هذا الشعور هو السبب في آلام عظامه المستمرة.
لوح والده بيده باستمتاع، ثم فتح عيناه ونظر لعمر وكأنه يلاحظ وجوده للمرة الأولى، اتسعت ابتسامته وقال بنبرة خافتة مثل ابنه ولكنها تتسم بالدفء لا الجمود:
- ايه التطورات الجديدة في مشروعك؟
فتح عمر عينيه بدوره وأجاب:
- خلصت معظم الحاجات، لسه فيه حاجات في المكان اللي خدته عايزة تتظبط بس حاجات صغيرة الكبير خلص، ولسه عايز ابتدي اعمل اعلانات للتوظيف.
كان والده يستمع باهتمام لمعرفة أدق التفاصيل، وعندما انتهى عمر ربت والده على كتفه وقال:
- يعني نقدر نقول أنك هتخلص بعد شهر مثلًا؟
- مثلًا
ثم على الصمت فعاد صوت العندليب إلى الظهور في تلك الأجواء الهادئة، كان المنزل يتسم بالأجواء الكلاسيكية بشكل عام، ولكن ما يجعلك تشعر أنه منزل كلاسيكي بحق هو ذلك المذياع القديم الذي لا يصدح سوى بأغاني العندليب والذي يُوضع دائمًا فوق الخزانة العتيقة التي تضع بها والدته الصحون والأكواب الزجاجية الثمينة والتي توجد بالقرب من الشرفة حتى يستطيع والده أن يستمع جيدًا للأغاني بينما يجلس في الشرفة مستمتعًا بذلك الهدوء الصباحي، هذا ما فكر به عمر عندما جلس بملل مسندًا ذقنت التي نمت قليلًا إلى السياج الحديدي للشرفة، بينما لم يستمع والده للأغنية بتركيز تلك المرة لأنه كان يفكر به ويفكر بحالة الحرب بينه وبين والدته بسبب الزواج، فتنهد وقال بهدوء ليجذب انتباهه:
- مش عايزك تزعل من كلام أمك يا عمر، هي حاسة إنها مقصرة معاك بسبب إني واخد كل وقتها، فـ عايزاك تشوف دنيتك أنت وتتجوز واحدة تهتم بيك.
أنت تقرأ
مرآة مزدوجة
Romanceالحياة عبارة عن مرآة مزدوجة، تعكس الجيد والسيء، الحلو واللاذع، الأبيض والأسود، فتصبح أنت أحد تلك الأجزاء الناقصة؛ لتضطر أن تدخل في رحلة بحث عن الشخص الذي يمتلك نصفك الآخر لتكتملا.