الفصل الحادي عشر
*ضياع واهتداء*
**********
مُندفعة.. مجنونة.. مُتهورة
لا أحمل همَّاً لشيء
لا أُلقي بالاً لأحد
هكذا أنا
هكذا "هم" يرونني أنا
وهكذا أستمع دائماً بابتسامتي الزاهية
فخورة بقُدرة رائعة على الإخفاء!
أُخفي قهراً ويُتماً
أُخفي عجزاً وتخبُطاً
أخفي دمعات قاسية
وحُلم قديم بصُحبة راحلين..
وأمل وَلَّى لأحضان مُسالمة
ثم كابوس أخرس يحوي دماءً باكية!
**********استيقظت دينا تتمطى بكسل في الفراش الناعم الوثير باحثة عن زوجها بجوارها فلم تجده، حدقت في سقف الغرفة للحظات ثم أجبرت نفسها على النهوض، خرجت تبحث عنه بكل مكان منادية إياه فلم تجد إجابة، لتعود مرة أخرى إلى غرفتها وتهاتفه، انتظرت حتى جاءها صوته أخيراً مُرَحِّبَاً:
_صباح الخير حبيبتي.
ردت بصوت ناعم:
_صباح الخير تامر، أين أنت؟ لقد استيقظت لتوي ولم أجدك!
رد بنبرة جادة:
_أنا بالعمل دينا.
اتسعت عيناها بدهشة وهي تهتف:
_بالعمل؟! ألم نتفق على ألا ذهاب للعمل الآن؟! لم يمر سوى أسبوعان على زواجنا!
باستهجان واضح أجابها:
_أتريدينني أن أظل بالمنزل أكثر من أسبوعين دينا؟ هل أنا متفرغ لتدليلك فقط؟ المعرض يحتاج إلى وجودي، وأشقائي قد تحملوا غيابي الفترة الماضية.
وبضيق واضح هتفت بِحنق:
_نحن تزوجنا لتونا تامر ويجب أن..
لينطلق في أذنها صياحه الغاضب مُقاطعاً إياها:
_لا تصرخي دينا! ولا تهاتفيني أثناء العمل ثانية!، إذا تفرغت سوف أهاتفك أنا.
وبدون كلمة أخرى أنهى المكالمة لتحدق هي في الهاتف بذهول تحول بالتدريج إلى شرود...
لقد مر أسبوعان على زواجها من تامر، ابن تاجر السيارات الثري، والذي تعرّفت عليه منذ بضعة أشهر عن طريق أحد مواقع التواصل الاجتماعي ثم ما لبث أن أخبرها برغبته في اللقاء بها، ومن ثَم الارتباط بها!
لم تصدق أنها بعد محاولتين فاشلتين خلال فترة قصيرة أعقبت طلاقها سيتحقق حُلمها بالفعل تلك المرة!
لكنها رغماً عنها بدأت بالمقارنة بينه وبين طليقها..
حمزة وسيم.. تامر يفوقُه وسامةً؛
حمزة طبيب متوسط الحال..تامر تاجر سيارات ثري؛
حمزة من عائلة بسيطة تماثل عائلتها تماما..تامر سليل عائلة مرموقة؛
ليكسب_بالطبع_ تامر المقارنة باكتساح وتُجبر والدها على الموافقة بالرغم من عدم اقتناعه بسبب الفروقات الواضحة بين العائلتين، لكنها أرادت من يجعلها تكتشف أوجه الرفاهية المختلفة، من يحقق كل طموحاتها التي لم تنجح بتحقيقهم ببيت أبيها ثم ببيت زوجها السابق.
لكن...
بعدما عاشت معه لأسبوعين كاملين أصبحت تستطيع تبين أوجه أخرى للمقارنة..
حمزة كان واضحاً تماماً.. تامر غامض بشدة؛
حمزة كان هادئاً دوماً ويتحملها حتى عندما كانت تُثير إغضابه مُتعمدة.. تامر عصبي بشدة وينقلب مِزاجه لأتفه الأسباب؛
ثم وجه المقارنة الأخير والفاصل..
أهل زوجها!
فبينما كانت عائلة حمزة دائماً ما تحاول التقرُّب منها وإقامة علاقات ودية معه..
عائلة تامر تتعامل معها بتكلُّف شديد يتحول أحياناً إلى عجرفة واضحة وتعالي خانق؛
لكنها لم تقتنع أبداً بحياتها معه، طوال السنوات الثلاث كانت ناقمة عليه، حتى عندما اكتشف ما فعلته ثم ذهابها مع أمها إلى شديد بك وتشاجر معها مُخبراً إياها أنه لا يستطيع الاستمرار معها لم تعترض، في الواقع لقد شعرت براحة أنها ستتخلص من حياتها المملة بزواجها الرتيب منه.
ماذا ينتظرها إذن مع تامر؟
تساءلت بقلق ثم أجبرت نفسها على تجاهل السؤال، لتعود إلى وجه المقارنة الحاسِم بالنسبة إليها..
حمزة طبيب متوسط الحال.. تامر تاجر سيارات غني!
**********
اندفعت إلى غرفة مكتب زوجة أخيها هاتفة بِحماس:
_مَوَدَّة! لقد طرأت فكرة على ذهني وأريد مناقشتك بها.
رفعت مَوَدَّة عينيها عن الحاسب الآلي وسألتها باهتمام:
_أخبريني رهف! ما الأمر؟
استندت رهف على حافة المكتب أمام مَوَدَّة ثم قالت:
_كنت أفكر في استغلال خبرتي التعليمية هنا في المكتب، ما رأيك في إنشاء دورات تقوية خاصة بمجال الترجمة لحديثي التخرج بمقابل مادي زهيد، نستطيع عن طريقها إفادة الخريجين ونحصد من خلالها بعض الشُهرة؟
وقبل أن ترد مَوَدَّة تابعت رهف:
_أيضاً بإمكاننا استغلال خبرتي مع الأطفال بسن الروضة.
ظهر التفكير المُتَمعِّن على وجه مَوَدَّة ثم ردت بعد لحظات:
_نستطيع أيضاً إقامة اختبار في آخر الدورة لنختار الأفضل للعمل معنا.
ابتسمت رهف بحماس أشد وهي تهتف:
_فكرة رائعة!
بادلتها مَوَدَّة الابتسامة وهي ترد:
_ابدئي بتنفيذها فوراً، وأخبريني ما يلزم كي نبدأ بإطلاق بعض الدعاية.
مطت رهف شفتيها بتفكير ثم قالت بخفوت:
_ربما يجب علينا البحث عَمَّن لديه خبرة في مجال الدعاية مَوَدَّة، أنا لا أفقه في ذلك الأمر شيئاً.
لملمت مَوَدَّة أغراضها وهي تستقيم مُجيبة إياها:
_سنفعل بكل تأكيد، سأتحدث اليوم مع عَمَّار، عسى أن يدُلّنا على شخص ما.
نظرت لها رهف باستغراب متسائلة:
_هل ستنصرفين الآن؟
رمقتها مَوَدَّة بلا فهم، ثم ما لبثت أن استدركت باعتذار:
_اعذريني رهف، نسيت أن أخبرك، اليوم سنتناول طعام الغداء في بيت أبي حيث سيستقبل خالد ابن عمي الذي عاد من سفره منذ أسبوعين ولم تسنح لنا الفرصة للترحيب به، هل ستشعرين بالملل بمفردك؟ أستطيع أن اعتذر لأمي.
ابتسمت لها رهف بحب ثم اقتربت منها مُقبلة إياها على وجنتيها وهي ترد:
_لا حبيبتي، لن أشعر بالملل، ستكون فرصة للبقاء في هدوء بعيداً عن صخبك أنتِ وزوجك وابنك، سأبدأ على الفور في دراسة أمر تلك الدورات، استمتعوا بوقتكم.
ثم صمتت لوهلة وتابعت بتردد:
_وإن.. وإن كانت هناك فرصة لترك إياد للمبيت عند والدتك أو لإحضاره إليَّ بعد الزيارة والخروج وحدكما سوياً أنتِ وعَمَّار فافعلي!
نظرت لها مَوَدَّة بدهشة ثم تسائلت:
_لم أفهم! لِمَاذا؟
وبنبرة مُتحرِّجة ردت رهف:
_أريد أن.. أريد أن تقضي أنتِ وعَمَّار بعض الوقت بمفردكما قليلاً، منذ أن أتيت للإقامة معكما وأنتما تلازمانني، حتى عندما تخرجان لتناول الطعام بالخارج أو للتنزه أكون معكما وهذا يُشعرني بأنني أنانية و.....
أسكتتها النظرة الغاضبة بعيني مَوَدَّة التي هتفت بها:
_هل أنتِ بلهاء رهف؟!
ولما لم ترد تابعت مَوَدَّة بلهجة أقل حدة:
_هل أكسبتك شعوراً أنا أو عَمَّار في أي وقت بضيقنا لوجودك معنا؟
هزت رهف رأسها رفضاً وهي تهتف بحنق:
_لا! على الإطلاق! لكنني يجب ألا أكون....
قاطعتها مَوَدَّة بنفاد صبر:
_حمقاء! يجب ألا تكوني حمقاء أكثر من ذلك رهف، أنتِ لا تفهمين شيئاً.
نظرت لها رهف باستفهام فَزَفرت مَوَدَّة بحرارة ثم تابعت مبتسمة:
_ منذ أن علمت بوجودك وبلحاق عَمَّار بك اعتبرتك جزء أساسي في أسرتي، وعندما أتيتِ بالفعل أحببتك كشقيقة لي، كما أنني مدينة لكِ بالكثير.
نظرت لها رهف مبتسمة في صمت فأضافت:
_لولا ظهورك بحياتنا رهف لما كان عَمَّار قد ثار أخيراً على حياتنا البائسة، أنتِ هدية له ولي، لا أريد مطلقاً أن تفكري بعكس ذلك، اتفقنا؟
أومأت رهف لها بابتسامة ممتنة ثم احتضنتها دامعة فتظاهرت مَوَدَّة بالحزم صائحة بها:
_هيا يا فتاة لن نهدر الوقت في خواطر سخيفة، ابدئي بترتيب أمر هذه الدورات منذ الآن، وأريد منكِ تقريراً شاملاً على الفور.
ابتسمت لها بتشجيع و انصرفت لتحدق رهف في إثرها بامتنان شديد، ثم اتجهت إلى غرفة مكتبها لتستأنف عملها.
حينما...
"هي لازالت هناك، حبيسة قبو مُظلم، مُعلَّقة بسوط ينهال على جسدي ليُبعثر كرامتي ويمزق رجولتي!"
انتفضت فجأة واضعة يديها على أذنيها ظنَّاً منها أنها بتلك الطريقة ستُسكِت تلك العبارات اللعينة التي لم تتركها لأشهر...
فبصوته الرخيم المُعذب؛
ونظراته الضائعة الميتة؛
ودمعاته مهدورة الكرامة؛
اعتاد على اقتحام عقلها أثناء يقظتها ونومها، بعبارة لم تفهم منها شيئاً، سوى أنه
يتعذب؛
يتألم؛
وأنه قد ضاع منذ زمن!
"أنتِ تكرهينه رهف، أنتِ تكرهينه مثلما تكرهين شديد بك، أنتِ تكرهين ذلك الرجل يا رهف ولا يوجد أي احتمال آخر!"
وبتلك العبارة التي اعتادت على تلقينها لنفسها أجبرت عقلها على الانهماك في العمل وطرد صورة أي عينين خضراوتين دامعتين تتسللان إلى مُخيلتها على حين غرة!
**********
"يا إلهي! سأقدم استقالتي بنهاية هذا الشهر!"
تعلقت عينا عاصم بالموظفة التي خرجت للتو من مكتب ساري هاتفة بتلك العبارة الحانقة ويبدو على وجهها علامات الغضب الشديد، زفر بضيق وهو يعي أن الوضع بات يهدد بالقلق فعلاً، فصديقه أصبح خارج حدود السيطرة، الموظفون بدءوا بالشكوى المتزايدة بسببه، فلا يتحمل أحد التعامل معه في أوقات عبوسه وجفائه ونزقه، أما عن نوبات غضبه فحدِّث ولا حَرج!
وضعه بالضبط أصبح كما المُدمن الذي نزعوا عنه العقاقير المخدرة فجأة، وها هو يتخبط ويثور على الجميع بلا استثناء!
غيَّر اتجاهه منطلقاً إلى مكتب سارة مؤجلاً التحدث معه في ذلك الوقت، فملامح الموظفة أنبأته بحالته العصبية تلك اللحظة، لِذا فأي مناقشة في العمل ستبوء بالفشل حتماً.
وماذا عن حالته هو نفسه؟!
لا يدري!
أيامه متشابهة، عمل وزيارة يومية لأمه ثم عودة إلى البيت لينام متهربا من أي حديث وِدِّي مع والده مكتفياً بتبادل عبارات رسمية معه!
نعم لم يسامحه بالكامل؛
نعم لايزال يلومه ويعاتبه بداخله على السنوات التي حُرِم خلالها من أمه بسببه؛ نعم لا يستطيع التغاضي أو النسيان خاصة مع حالتها الصحية الضعيفة وعدم وجوده بجوارها بالرغم من كونها تتلقى الرعاية الكاملة من سما..
وسما؟!
يا لحيرته!
يا لتخبطه!
يا للتِيه الذي يسبح به مستسلماً!
لا يفهم ما الذي أغضبها منه بالمرة الأخيرة، متأكد هو من أنه أغضبها بالرغم من أنها المرة الوحيدة التي لم تُصِح خلالها به أو تُفحِمُه بأي من قصائد لسانها، لكن نظرتها كانت كافية، وكأنها قالت:
"لقد خيَّبت أملي فيك يا عاصم!"
"لقد انتظرت منك أكثر مم تستطيع يا عاصم!"
"لم تكن على قدر توقعاتي للأسف يا عاصم!"
"لقد رسبت عن جدارة في ذلك الاختبار المُبهَم يا عاصم!"
عن أي أمل كانت تتحدث عيناها؟!
وأي انتظار خذله؟!
على العكس..
هي من خذلته!
هي من أغضبته!
هي من تتحاشى رؤيته بوضوح!
لمدة أسبوعين يذهب يوميا إلى أمه فتنعزل بغرفتها حتى ينصرف، لا يراها، لا يسمع صوتها، لا تتشاجر معه، لا تخبره بمدى قلة ذوقه! ولا تخبره أنها لن تسمح له بأخذ أمها بعيداً عنها..أمه!
وهو لا يدري أين الخطأ أو متى وقع؟
لقد كان يحاول بدء علاقة طيبة معها، كان يحاول تأسيس حياة جديدة معها لأنها تناسبه من جميع الجهات وهو بالمثل..
فقط لأنها مناسبة؟!
نعم فقط!
ولا يوجد سبب آخر بالطبع..
وعند ذلك الخاطر اندفع إلى مكتب سارة صائحا بغضب:
_إن أغلقت الشركة أبوابها بسبب أخيك الذي أصبح مثل الطوفان مع جميع الموظفين سأقتله وأرتاح!
وضعت إحدى كفيها تحت وجنتها ثم مطت شفتيها قائلة بضجر:
_إذا كنت تلقي تلك المُقدمة كي أذهب أنا إليه لأخبره بتفاصيل العرض الجديد، فوفِّر على نفسك العناء، ليس بي رغبة بالشجار معه اليوم أيضاً.
جلس عاصم على المقعد المواجه لمكتبها هاتفاً بحنق:
_لقد سئمت سارة، والموظفون أيضاً فعلوا، إلى متى سيظل على ذلك الغضب؟ وممن يغضب أساساً؟ هل نحن من أمرناه أن يتقمص دور أمير الانتقام مع الفتاة المسكينة؟ ألم يكن ذلك هدفه وقد حققه؟ لِمَ هذا الجنون؟
ردَّت سارة بشرود:
_لم يكن يدرك أنه عشِقها بهذا الشكل عاصم، لم يكن يتوقع أن ينهار بعد فراقها، وصدقاً_بالرغم من أنه أخي وصديقي وأبي_ إلا أنني يتنازعني الشعور بالشفقة عليه والغضب منه في آنٍ واحد.
وعندما وجدته شارداً رمقته شزراً ثم صاحت بغيظ:
_و تجاه أي غبي آخر!
أجفل وهو ينظر لها بتحفز:
_عفواً! ماذا تقصدين؟
ابتسمت وهي ترد ببراءة مصطنعة:
_لا عليك! بالمناسبة، كيف حال سما؟
توترت عيناه ببريق حزن مختلط ببعض الحنين وهو يشرد في صورتها بذاكرته..
في ملامحها؛
في عبوسها الطفولي؛
في قامتها الضئيلة؛
في شجاراتها معه؛
وفي نظرة الخيبة الأخيرة!
حتى أجفل على صياح سارة:
_يا ابني! سألتك كيف حال سما؟
نظر لها بغيظ ثم رد:
_لِمَ لا تسألينها بنفسك؟ ألا تتواصلين معها؟
اتسعت ابتسامتها وهي ترد ببرود:
_للتو كنت أهاتفها.
ظهرت اللهفة بعينيه وهو يسألها:
_عَمَّ كنتما تتكلمان؟
لتشيح بوجهها متظاهرة بالتحديق في الحاسب المحمول:
_أسرار فتيات لا شأن لك بها!
ضغط على أسنانه بغيظ وهب واقفاً وهو يصيح:
_زوج من اللزوجة المُجسمة في هيئة بشر اضطر للتعامل معهما يوميا، عسى الله أن يخلصني منكِ ومنه قريباً!
ابتسمت مرة أخرى ببرود وهي تهتف به:
_إلى أين أنت ذاهب؟
ليرد بحنق بدون أن يلتفت:
_سأحمل كفني وأذهب إلى الطوفان!
أولاها ظهره واتجه إلى الباب لينصرف قبل أن تُثير أعصابه أكثر، وما إن خرج حتى ارتفع رنين هاتف مكتبها لترد على مكالمة مكتب الإستقبال:
"مرحباً آنسة سارة، هناك شخص يود مقابلتك."
وبلامبالاة أجابتها:
_إن كان مندوب شركة الإنشاءات اجعليه يذهب إلى المهندس ساري.
ليأتيها نفي الموظفة:
_لا، إنه يقول أن اسمه الدكتور حمزة، ويريد مقابلتك بالتحديد.
تسمَّرت سارة للحظات ثم قالت باقتضاب:
_أرسليه!
**********
ولج إلى المكتب وهو يستدعي أقصى قدر من انضباط النفس ثم أغلق الباب بهدوء ووقف يتطلع إليه أثناء وقوفه شارداً أمام النافذة..
إلى هذا الكائن الذي لم يعتقد يوماً بوجوده..
مُتشح بسواد روحه قبل ملابسه؛
يُوليه ظهره متأملاً الخارج من النافذة ولا يبدو أنه موجود في العالم ذاته من الأصل!
في حِداد دائم هو؛
يبكي ضياع حبيبته وقلبه بلا دموع مرئية؛
يُشفق عليه وأيضاً يود ضربه!
يرغب بمساعدته وأيضاً يرغب بالثورة عليه!
هل استرحت يا ساري؟!
هل شُفيت عن طريق الانتقام؟!
هز عاصم رأسه نافياً سؤالاً لم يخرج من عقله ثم زفر يائساً منادياً إياه:
"ساري!"
مرت لحظات حتى ردَّ أخيراً ببرود:
_ماذا تريد؟
اتجه عاصم إلى أحد المقاعد المواجهة للمكتب وجلس ليتحدث بلهجة عملية:
_العرض الذي نود تقديمه إلى......
قاطعه بنفس البرود دون الالتفات إليه:
_تناقش أنت وسارة ونفذا ما تريانه مناسباً.
هتف عاصم بغيظ:
_وماذا عن رأيك أنت؟ يجب أن أعلــ....
قاطعه مرة أخرى:
_لا يهم، رأيي أنا لا يهم، افعلا ما تريدان.
هنا فقد عاصم كل صبره وهو يهب واقفاً بصياح:
_بل يهم ساري، يهم، الشركة تهتم، أنا أهتم، أختك تهتم، أمك التي تتعذب وهي تراقبك تذوي أمامها تهتم، ولا يستحق أي منا أن تنعزل هكذا، الحياة لن تتوقف على رهف ساري!
وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي يُدرك تماماً أنه سيجذب انتباهه بها..
اسمها!
رهف!
كلمة من ثلاثة حروف قادرة على فعل الأفاعيل به حقاً!
قادرة على إخراجه من جموده؛
إخراجه من ظلامه؛
انتزاعه من ذلك القبو الذي تقطن به روحه وهو مستسلم تماما؛
اندفع إليه ساري مُمسكاً إياه من مقدمة سُترته هاتفاً بشراسة:
_ليس لك شأن، لا أحد له شأن بما أفعل، لا أحد يحق له أن يتدخل بيني وبينها!
ابتسم عاصم بسخرية ضاغطاً على جرحه بكل قوته وهو يرد بخفوت:
_استيقظ ساري! لم يعُد هناك شيء بينك وبينها أصلا.
اتسعت عيناه واستنفرت ملامحه كلها بلحظة، فشعر عاصم بالندم والقلق، بينما تحدث ساري من بين شفتيه مُحذِّراً:
_إياك أن تكررها!
هنا اتسعت عينا عاصم بدوره لكن دهشةً وهو يسأله:
_أكرر ماذا؟!
ليجيبه ساري بنفس التحذير:
_أنه لم يعد هناك شيء بيني وبينها، رهف ستظل إلى الأبد حبيبتي الوحيدة، وزوجتي!
ازدرد عاصم لعابه بتوجس وهو يستدعي بعقله رقم مشفى الأمراض العقلية!
فالرجل الواقف أمامه ويكاد أن يُزهِق أنفاسه فَقَدَ كل عقله بالتأكيد!
عندئذٍ تحدث ساري بهدوء وصدره يعلو ويهبط في تتابع سريع مُقلق:
_أنا لا أهذي يا عاصم، حقاً لا أهذي، لقد اعتقدت أنني سأعتاد الألم الذي أستحقه بمرور الوقت، اعتقدت أن الراحة التي ستورثها لي رؤيته مذلولاً كما كنت وأسرتي يوماً ستساهم في تَقَبُّلِي انفصالها عني، لكن..
بتر عبارته وتاهت عيناه ثم سقطت يداه إلى جانبه باستسلام، فالتقط عاصم أنفاساً اشتاق إليها، بينما أضاف ساري ببطء مريب:
_لكن ها أنا.. لا راحة، لا تقبُّل، والاشتياق إليها يجُز أعماقي جَزَّاً.
راقب عاصم التحذير يرحل بعيداً عن عيني صديقه ليحتلها مزيجاً من..
الحسرة؛
الألم؛
الضياع؛
الغرق؛
يموت صديقه على قيد الحياة!
نظر له بإشفاق فتابع ساري بلهجة مُتحشرجة:
_رهف!
والطريقة التي يتلفظ بها باسمها وحدها تُشعِره أنه يتنفسها!
أضاف ساري والضياع ينتشر أكثر بعينيه:
_أنا لم أنسها لحظة ولن أفعل، لقد تسللت إلى دمي، لقد احتلتني ولا أرغب منها بأي تحرير!
ثم استكمل بنفس اللهجة متسائلاً:
_أتعتقد يا عاصم أن هناك إنسان يموت بالافتراق عن آخر؟
ولم ينتظر إجابة وهو يتابع بنفس الحسرة:
_أنا لم أكن أعتقد ذلك أبداً، بل.. بل لقد كنت أسخر ممن يُظهرون مشاعرهم وأراهم يُبالغون في وصف الألم والعذاب بعد الفراق.
صمت مرة أخرى ثم استدرك مبتسماً بتهكم كان التألم به جَليَّاً:
_من عاب اِبتُلى، أليس كذلك؟!
أغمض عاصم عينيه مُشفقاً على صديقه الذي أكمل بصوت متقطع..
صوت رجل يعاني؛
صوت رجل محروم؛
_يوماً ما سألتها أربعة أسئلة لم يكونوا مطلقاً ضمن خطة انتقامي، لم تمنحني هي عندئذٍ إجابة شافية.
ثم عاد إلى النافذة يُحدق إلى الخارج دون أن يرى حقاً ما يدور هناك:
_لحظة أن قتلت نفسي قبلها، لحظة أن أزهقت روحي قبل أن أفعل المثل بها، لحظة أن دمَّرت قلبي وسددت أذناي عن صوت صرخاته أتتني الإجابات وحدها!
وابتسم بعشق مُتَحَسِّر ابتسامة لم يرها عاصم الواقف خلفه لكنها كانت مُوجهة إلى طيف رهف الذي يطالعه الآن كما اعتاد طوال مائة وثمانِ وثلاثين يوما وسبعة عشر ساعة هي عمر تنفيذ حكم إعدامه بيديه!
وبخفوت أجاب طيفها:
_رهف! أنا أدركت أنني التقيت برفيقة روحي لحظة أن التفتِّي إليّ ووقعت عيناي على براءة عينيكِ.
وبخفوت أشد تابع:
_رهف! نعم أنا حقاً تعرَّفت إليك منذ اللقاء الأول.
وبحسرة أكمل:
_رهف! لقد ارتبطت خيالاتي ومخططاتي كلها بكِ خلال بضعة أيام فقط.
وبدمعات أنهى:
_رهف! أعلم أنكِ بادلتِني حبي، لكنني لم أكن أهلاً له ولا لقلبك النقيّ.
وعندما صمت وأدرك عاصم أن لا قوة ستنتزعه الآن من اتصاله الوهمي بها لم يجد تعليقاً مناسباً على كلماته، حتى بعدما لاحظ ظل ابتسامته العاشقة على سطح النافذة، فتراجع ببطء وخرج بهدوء تاركاً إياه مع خيالاته!
**********
ارتفعت طرقات على باب غرفة مكتبها وفُتِح ليدخل الطارق رامقاً إياها بجدية ثم قال بنبرة مهذبة:
_كيف حالك آنسة سارة؟
نظرت له بلا تعبير ثم ردت باقتضاب:
_بخير، لماذا أتيت؟
حمحم بحرج ثم ابتسم بتكلف وهو يجيبها:
_كنت أريد التحدث معك قليلاً.
مطت شفتيها ببرود ثم سألته بهدوء:
_ألا تعلم بوجوب حجز موعد مُسبق؟ أم توقعت أنني بالتأكيد مُتفرغة لتشريف سيادتك بالزيارة؟!
حدق بها بدهشة والحرج يتملك منه أكثر وسؤالاً معيناً يُلح على رأسه:
"أهكذا شعرت عندما تعاملت معها بوقاحة في المرتين الأخيرتين؟!"
ثم تبعه سؤال آخر يفرض نفسه الآن بقوة:
"ما الذي أتى به إلى هنا في الأساس؟!"
والإجابة بداخلة كانت مُبهمة، فمُنذ أسبوعين وعندما جاءت إلى المشفى تسأله عن رهف مُعلنة عن رغبتها الشديدة في التواصل معها ليبدأ هو بإفراغ غضبه بها حتى أحرجها أمام صديقه وهو يشعر بـ:
الذنب والضيق!
ويشعر أيضاً أنه تعنَّت معها كثيراً..
هي ليست الجانية، وقد أقسمت أن نِيَّة أخيها كانت سرية ولم يشاركه بها أحد، فلِمَ قسى عليها هي بذلك الشكل؟
يوم يتبعه يوم يتبعه يوم..
ليجد نفسه اليوم يُنهي عمله وينطلق إلى هنا داعياً الله ألا يُقابل أخيها بأي مكان كي لا يرتكب جنايةً ما..
والآن ها هو يقف أمامها كالطالب الفاشل الذي ينتظر توبيخاً!
لتُحقق له خاطره على الفور وهي تهتف ببرود:
_أنا ليس لدي اليوم بأكمله كما تعلم دكتور، إن كنت لديك إهانة ما تود إلقائها على مسامعي فأنا لن أسمح لك، لكن أعدك أنني سأصل إلى رهف، رغماً عن أنفك وتعنُتك!
_آسف!
والكلمة انطلقت منه تلقائياً ليعبس هو نادماً، ولتتسع عيناها الجميلتان دهشةً ثم تتساءل بلا تصديق:
_ماذا قلت؟!
والحرج يكتنفه أكثر وأكثر وعيناه تتهربان منها بعيداً، لكنها لم تكن لتُفلت تلك الفرصة، حيث وقفت مُسرعة ودارت خلف مكتبها متجهة إليه ثم كررت سؤالها:
_ماذا قلت؟!
صمتت للحظة بحث فيها عن تبرير أو تراجُع فلم تُمهله وهي تسأله بدهشة:
_هل اعتذرت لي الآن؟!
والتراجُع لم يعد في الإمكان، بينما التبرير وصل خافتاً متقطعاً:
_لقد.. لقد قسوت عليكِ، فقد كنت غاضباً من أخيكِ ومازالت، لكن أنتِ ليس لكِ ذنب في فعلته.
والسخرية تمكنت من ملامحها وهي تمط شفتيها هاتفة:
_لا تسعني الفرحة حقاً، هل عفوت عني أخيراً دكتور حمزة؟ هل صدقت أنني لست بِشريرة؟ سأقوم بتوزيع المشروبات الغازية في الشارع احتفالاً!
حدَّق بعينيها للحظات متأملاً، وبدلاً من الرد النزق الذي كان سيُلقيها به وجد نفسه يسألها باهتمام عملي:
_لماذا عيناكِ حمراوتان؟
اختلطت سخريتها ببعض الدهشة هاتفة:
_عيناي خضراوتان، هل أصابك عمى الألوان يا دكتور؟!
من بين أسنانه هتف بغيظ:
_أعلم جيداً أنهما خضراوتان آنسة سارة، لكنني أقصد أنهما مُلتهبتان.
بحنق ردت:
_لا ليستا مُلتهبتين.
بحنق أكبر رد:
_بل مُلتهبتين!
وكي يُنهي تلك المناقشة المُثمرة أضاف بسرعة:
_أنا طبيب رمد آنسة سارة وأؤكد لكِ أنهما مُلتهبتان بشدة!
اتسعت عيناها بدهشة ثم التقطت حقيبتها الموضوعة على المكتب وأخرجت مرآتها الصغيرة لتُحدِّق بها بقلق، ليجد نفسه لا إرادياً يشاركها تحديقها لــ .. عينيها!
بالطبع هو اهتمام مِهني بحت اعتاده مع الكثير، لكن..
لكن..
لا...!
_لا تقومي بفركهما هكذا! سأصف لكِ نوعاً من القطرات سيقوم بتهدئتهما خلال فترة قصيرة.
أغلقت مرآتها ووضعتها بحقيبتها، استدارت له مرة أخرى وعقدت ذراعيها ثم سألته بهدوء:
_شكراً، أنا سأتصرَّف، الآن ماذا تريد دكتور حمزة؟ لقد التزمت برغبتك ولم تر وجهي منذ ذلك اليوم، لماذا أتيت الآن؟
أجابها بهدوء يحوي نظرة اعتذار لم ينطقه:
_لقد جئت لأُخبِرك بمكان إقامة رهف.
وكما حدث عندما قابلها بمكتب شقيقها للمرة الأولى ارتخت ملامحها بابتسامة جميلة وحلَّت الفرحة عينيها وهي تهتف:
_حقاً؟! ستفعل؟!
عيناها.. عيناها..
طفلة هي؟
أم..
أنثى هي؟
نَضِرَة هي!
وباهرة هي!
"ماذا بكَ حمزة؟! أكل ذلك لأن عينيها مُختلفتان قليلاً؟ لقد رأيت أعيُن كثيرة خلال عملك يا رجل، ما بالك مُتسمِّر هكذا؟"
نفض رأسه بسرعة وهو يدور بنظراته في أنحاء المكتب مُجيباً إياها:
_نعم، أنا أثق بك، ربما أنتِ فعلاً أحببتها.
وبلهفة شديدة ردت:
_جداً جداً أقسم لك، ولا أريد سوى الاعتذار لها والاطمئنان على أحوالها، لقد.. لقد كنت أتجهز نفسياً كي تُصبح أختي.
والعبارة الأخيرة جاءت مُتحسرة ليهتف فجأة:
_من هي سلمى؟!
أجفلت وهي تنظر له بصدمة ثم تساءلت بصوت مبحوح:
_من.. من أخبرك عن سلمى؟
نظر إلى التحول البادي على وجهها بقلق ثم قال:
_أنتِ! أنتِ أخبرتني في المرة الأخيرة أنكِ اعتبرتِ رهف تعويضاً لكِ عن سلمى.
ازدردت لعابها وهي تتذكر آمالها المتحسرة التي تنطلق على لسانها أحياناً بدون تركيز، ثم أغمضت عينيها وهي تمسح على وجهها بكفيها وتزفر بحزن، وعندما فتحتهما كانتا خضراوتين..مُحمرَّتين.. مُلتمعتين بالدموع!
_سلمى هي أختي التي ماتت قبل موعد الوضع ببضعة أيام.
ثم أردفت بقسوة فاجأته:
_قتلها ذلك المُجرم شديد، بنفس اليوم الذي تسبب فيه بموت أخي التوأم سامر، ثم أبي، بينما أنا كنت خرساء لا أستطيع الصراخ أو الاستغاثة!
تدلى فكُّه السفلي ببلاهة وهو يُحدِّق بصدمة في عينيها اللتين ترمقانه بهدوء، ليعود بذاكرته إلى يوم الزفاف خارج القاعة عندما أخبر عَمَّار عن الاسم الكامل للعريس، ليدهش من ردة فعله المُرتعبة وهو يقفز من السيارة مُتجهاً إلى الداخل ومُردداً عبارة اخترقت أذنيه ولم يجد الفرصة لفهمها أبداً:
"كنت أعلم أن جرائم شديد بك لن تموت، وكنت أعلم أنه سيعود ليأخذ بثأر عائلته، لكن رهف ليس لها أي ذنب."
بعد قليل استطاع الحصول على صوته وهو يسألها:
_آسف، لكن...
قاطعته بهدوء:
_لكن رهف ليس لها أي ذنب فيم فعله أبوها ولا تستحق ما فعله بها ساري، أؤمن بذلك تماماً دكتور حمزة.
فاجأته ثانية تلك الفتاة..
هي فعلاً صادقة؛
هي فعلا لا تدافع عن أخيها؛
هي فعلاً عانت أيضاً!
ربما.. ربما أكثر من رهف!
لقد رأت أحبابها يموتون أمامها تباعاً؛
تُرى هل حصلت على فرصة لنسيان هذه المشاهد يوماً؟!
لا يظن ذلك!
_ماذا تعنين بأنكِ كنتِ خرساء؟
ابتسمت ببساطة تحاول إخفاء حسرتها:
_كنت أعاني تأخراً شديداً في النطق، وذلك اليوم امتنعت عن الحديث تماماً، وبعد سنوات كان ساري قد جمع مبلغاً مناسباً من عملُه في أحد المطاحن وقام بتكثيف جلسات التخاطب من أجلي، بالتزامن مع جلسات لدى طبيب نفسي مختص في الحالات المماثلة، وبالتدريج أصبحت طبيعية وأتحدث بطريقة عادية.
ثم ابتسمت بافتعال مستدركة:
_أنا متأكدة أنه يندم على ذلك الآن!
وفشلت تماماً في إخفاء كل ما هو خلف تلك الابتسامة الرائعة
لم تُخفِ الحسرة؛
لم تُخفِ الألم؛
لم تُخفِ الاحتياج؛
لم تُخفِ بعض الذنب!!
ولا يدري كيف يختلط شعوره بالغضب من شقيقها بآخر.. واجب الاحترام!
الفارق في العُمر بينها وبين شقيقها ليس كثيراً، فكيف كانت حالته مع تتابع المصائب والنكبات عليه؟
وكيف استطاع النجاة بأمه وشقيقته؟!
وشقيقته...
لا يدري الآن هل يشعر تجاهها بالإشفاق على ما تعرضت بطفولتها، أم بالعطف و..الحنان؟!
_أنتِ كنتِ طفلة، لا يسعكِ فعل الكثير على أية حال.
قالها بخفوت شابه بعضاً من حنان قاصداً محو تلك النظرات من على ملامحها فردت بصوت مبحوح:
_كنتُ أستطيع الصراخ دكتور، لو لم أكتفِ فقط بجذب أمي أو ساري من ملابسهما، ربما لو علا صوتي فوق صوت ذلك الوحش لِما مات سامر، لِما ماتت سلمى، لِما مات أبي، لِما اختُطف ساري لأيام يتعذب، ولِما أصبح يموت الآن بابتعاده عن حبيبته.
ها هو يتأكد أنها لم تنس تلك المشاهد مُطلقاً..
والدمعات لم تعد تستطيع إخفائها، فاستدارت مُسرعة وهي تهتف بمرح مُفتعل:
_لقد أُصِبت بالكآبة أنا أيضاً، عُذراً دكتور، تستطيع كتابة عنوان رهف في تلك الورقة وتنصرف من هنا لأن الشركة بها ميكروب حزين مُعدِ قاتل!
واستدارت مرة أخرى وبيدها ورقة توجهها ناحيته دون النظر إليه، على عكسه تماماً..
فقد كان ينظر
بدِقَّة!
وبتركيز!
مد يده ملتقطاً الورقة ثم مال على مكتبها وكتب العنوان..
وعندما همَّت بأخذ الورقة مد يده ليسحب أخرى ويخط بها شيئاً ..
حدّقت في الورقتين بفضول هاتفة على الفور لا إرادياً:
_خطك سيء للغاية!
ثم استدركت مُحمحمة بحرج:
_أقصد ما هذا؟
ورغماً عنه منحها ابتسامة واسعة وهو يُجيبها:
_ثلاث مرات يومياً، سينتهي الالتهاب سريعاً.
بادلته الابتسامة بتهذيب وهي تتطلع إلى الورقتين ثم قالت بامتنان:
_شكراً دكتور حمزة.
أومأ برأسه وهو لايزال مبتسماً ومواصلاً تحديقاً لا يعلم ما سببه..
"تحرك حمزة!"
"انصرف يا رجل!"
"لِماذا تقف كالصنم هكذا؟!"
ونظرتها المبتسمة تحولت لأخرى متسائلة فتملَّك منه الحرج حتى دفع ساقيه تجاه الباب بصعوبة!
**********
اقتربت دينا من حماتها بابتسامة مُتملِّقة قائلة بنعومة:
"أتريدينني أن أساعدك أم تامر؟"
نظرت لها المرأة بعبوس ثم تحدثت باشمئزاز:
_اسمي سيدة هدى، لا أريد سماع ذلك اللقب الآخر ثانية!
شعرت بالحرج من لهجة والدة زوجها التي استدركت:
_كيف تخرجين من شقتِك بهذه الملابس؟!
نظرت دينا إلى فستانها الجديد وأخذت تحدق بكل جزء منه ثم رفعت أنظارها إلى المرأة متسائلة:
_ما به فستاني؟
هتفت بها المرأة بعصبية:
_ذوقه سيىء للغاية، ألا تستطيعين اختيار ملابس لائقة بوضعك الجديد؟ افهمي جيداً أنكِ تركتِ الحي الشعبي وانتقلتِ إلى منطقة راقية، تصرفي على ذلك الأساس، يكفينا فضائح!
ثم تمتمت بصوت واضح أثناء ابتعادها:
"اختيار رائع تامر!"
تخشبت دينا مكانها ثم علا الغضب ملامحها بالتدريج فصعدت إلى شقتها منتظرة وصول زوجها الذي اقترب.
وزوجها وصل بالفعل..
لكن بنهاية اليوم!
وبالرغم من أنها رأت سيارته أمام الفيلا التي تقطن بالطابق العلوي بها مع أهله منذ ساعات وانتظرت صعوده إلا أنه لم يفعل!
لتجد نفسها قد قضت اليوم كله بمفردها، وحتى عندما هاتفته قام بإلغاء المكالمة ولم يهتم بإعادة الاتصال بها، والآن قد تذكَّر أخيراً وجودها ببيته.
وقفت خلفه وهو يُبدِّل ملابسه في وضع تحفز فسألها بتحفز مماثل:
_ما الأمر؟
لتصرخ فجأة:
_هل نسيت وجودي تامر؟ أنا أنتظرك منذ الـــ...
وكتم صراخها بإحدى كفيه على فمها والأخرى تجذب شعرها إلى الخلف صائحاً:
_لقد أمرتك ألا تصرخي هكذا، هل أنتِ غبية؟!
والجذب تبعه دفعة الى الفراش متابعاً بهتاف تحذيري:
_إن تكرر صراخك مرة أخرى دينا سأجعلك تندمين.
وبمنتهى العنف جذبها لتقف مرة أخرى دافعاً إياها إلى باب الغرفة وهو يأمرها بغضب:
_هيا! اخرجي، نامي ليلتك بأي مكان آخر!
وبمنتهى القوة صفع الباب بوجهها لتقف هي محدقة به بذهول وخاطر واحد بذهنها يبتسم لها بسخرية:
"حمزة لم يصرخ بكِ هكذا مُطلقاً!"
**********
فتحت سوسن باب الشقة هاتفة بحنق:
_لماذا تدقين الباب بتلك الطريقة؟ وأين هي مفاتيحك؟
ابتسمت سارة باستفزاز مُجيبة:
_في الحقيبة، لكنني أردت أن تفتحي لي الباب يا جميلتي.
نظرت لها أمها بشك ثم سألتها بتوجس:
_هل أُصبتِ بالحُمَّى أم ماذا؟
ضحكت سارة برقة وهي تجيبها:
_بل حصلت على عنوان بيت رهف اليوم أمي، وغداً منذ الصباح الباكر سأذهب إليها مُحمَّلة بالهدايا كي لا تَسُبَّني فور أن تراني، لقد أخبرني ساري ذات مرة أنها تحب الشوكولاتة والمثلجات، سأبتاع لها الكثير منهم.
اتسعت عينا سوسن بدهشة متسائلة:
_كيف حصلتِ عليه؟
لتبتسم سارة بفخر وهي ترد:
_ذلك الطبيب الأرعن اكتشف فداحة خطأه بحقي وأتى اليوم إلى الشركة مُعتذراً ثم أعطاني العنوان طواعية.
ولما لم تُعلِّق أمها تابعت بزهو:
_تعرفين أن تأثيري رائع!
لكن تعليق أمها الذي انطلق لم تتوقعه مُطلقاً:
_أعطني العنوان سارة!
**********
"ولماذا الترجمة بالتحديد مَوَدَّة؟ أعتقد أنه ليس لدراستك علاقة بها."
أطلق خالد السؤال باهتمام شديد فأجابته مَوَدَّة فوراً:
_أنا بالفعل لست متخصصة في ذلك المجال، لكنني أتولَّى الشئون الإدارية بالمكتب، وبالنسبة للترجمة فهي من اختصاص رهف أخت عَمَّار.
ضيق خالد عينيه بدهشة وهو ينظر إلى عَمَّار متسائلاً:
_أليست أختك اسمها تغريد على ما أظن؟
ابتسم عَمَّار بتكلُّف وهو يراقب ردود أفعال المُحيطين به قبل أن يُجيب..
فخالته مطت شفتيها باعتراض وبعض الامتعاض؛
وزوجها ظل وجهه مصمتاً بلا تعبير؛
أما حبيبته فقد ابتسمت له بتشجيع؛ فالتفت إلى خالد الذي ينتظر مُتحدثاً بهدوء:
_أختي الصغرى هي تغريد، لكنني اكتشفت وجود أخت أخرى نصف شقيقة منذ بضعة شهور فقط، اسمها رهف وهي من لديها خبرة تعليمية ولُغوية، لذا هي من تتولى تلك الأمور بالمكتب.
عم صمت بالمكان والكل على نفس وضعه، إلا خالد الذي اتسعت عيناه بدهشة أكبر وهو يتساءل:
_ماذا تعني بأنك اكتشفت وجودها منذ شهور؟
حدَّق عَمَّار بعينيه للحظات ثم أجاب مُشدداً على كل كلمة بهدوء:
_أبي كان متزوجاً بالسر منذ سنوات وأنجب رهف لكنه لم يعترف بها حتى الآن، وربما لن يفعل مطلقاً!
هنا لم تستطع خالته التزام الصمت أكثر فاندفعت هاتفة:
_وهكذا آويتها أنت ببيتك بعد تلك الفضائح التي يتعرض أبيك وأمك لها بسبب تلك اللــقيــ...
قاطعتها مَوَدَّة هاتفة:
_أمي!
وبينما نظر عَمَّار لخالته بغضب شديد، انطلق صوت زوجها مؤنباً:
_لا داعِ للكلام في هذا الأمر يا عفاف، الفتاة المسكينة لم تضر أحداً بشيء، كما أنها عَمَّة حفيدك ويجب عليكِ احترامها.
ابتسمت مَوَدَّة لأبيها بامتنان فبادلها الابتسام بينما هتف خالد باستغراب:
_أنا لا أرى ما المشكلة في كونها غير مُعتَرف بها من جهة أبيها!
نظر له الأربعة بدهشة فتابع وهو يهز كتفيه بلا اكتراث:
_هي نتيجة ذلك الزواج وليست المُتسببة به، لذا لا أجد منطق في أي لوم أو عتاب يُوجه إليها هي.
هتفت عفاف بحنق:
_أنت تفكر هكذا لأنك عِشت معظم عُمرك بالخارج، لذا فلا ترى حرج في أمر مثل هذا، لكن هنا بمجتمعنا الشرقي يُعتبر عار يجب التخلص منه وليس العكس.
هب عَمَّار واقفاً هاتفاً بسخط:
_عار على الرجل والمرأة اللذين تزوجا في الخفاء خالتي، وليس للضحية أي ذنب في هذا!
ثم أردف مُحذراً:
_رهف مثل تغريد تماماً، ولا أسمح بأي كلمة من شأنها الإقلال منها!
ثم التفت إلى مَوَدَّة صائحاً:
_سأنتظرك بالسيارة مَوَدَّة، الحقي بي!
وانطلق إلى الخارج مسرعاً فنظرت مَوَدَّة لأمها بِعِتاب شديد ثم اصطحبت ابنها وهرولت للحاق به، بينما نظر توفيق إلى زوجته بضيق متسائلاً:
_لماذا فعلتِ ذلك عفاف؟!
ولم يجد رداً منها سوى نظرة اعتراض، بينما رمقها خالد بعدم استيعاب حقيقي لتفكيرها الخالي من المنطق.
**********
"ألن تتناول طعام العشاء معنا عاصم؟"
رد على أبيه باقتضاب دون أن يرفع عينيه عن هاتفه:
_لستُ جائعاً.
حمحم أبوه وهو يتابع:
_إذن ما رأيك أن تأتي لتشاهد التلفاز معي أنا ومريم؟
ليرد بنفس الاقتضاب:
_شكرا، لا أريد..
تململ أبوه في وقفته بحرج ثم تساءل باهتمام:
_كيف حال ساري الآن؟
هنا رفع عاصم عينيه إليه بسخرية مُجيباً:
_أخبرني أنت أبي! كيف تعتقد حاله؟ كيف يكون شعور الرجل عندما يظلم امرأة يعشقها؟ أنت أدرى مني بذلك!
نظر له أبوه بألم ثم خرج مُغلِقاً الباب بدون كلمة، فزفر عاصم بضيق وهو يترك هاتفه على الفراش ثم خرج من الغرفة ملاحقاً إياه.
دخل إلى غرفة أبيه ليجده جالساً على فراشه يتأهب للنوم، لكن الندم والألم يسيطران على ملامحه، شعر بأسف رهيب فنطق بِعبارة بسيطة لكنها صادقة:
_آسف أبي، لم أتعمد مضايقتك.
نظر له أبوه بابتسامة متحسرة ثم علَّق:
_لا عليك! لديك كل الحق في الغضب مني، لا أستطيع تعويضك ولا تعويضها.
اتجه عاصم إليه وجلس على المقعد المواجه لفراشه واضعاً رأسه بين كفيه ثم تحدث بخفوت:
_ضائع أنا أبي، ضائع بين اشتياقي وغضبي وندمي ولهفتي، ضائع ولا أجد سبيلاً.
ثم أردف:
_ أمي تتمنى وجودي معها ولا تبوح بذلك، أراها في عينيها الضريرتين، أشعر بها في لمساتها وبين ذراعيها، وأنا..
صمت قليلاً ثم استدرك:
_وأنا لا أعرف كيف أتصرَّف.
وبحزم مفتعل أمره أبوه:
_اذهب إليها عاصم، لقد فاتت سنوات كثيرة من عمرك وعمرها، عِش معها.
ابتسم عاصم بسخرية هاتفاً:
_ما الذي تقوله أبي؟، كيف سأفعل ذلك؟
ابتسم أبوه بحنان:
_ما سمعت عاصم، أنت تستحق التمتع بحنان أمك ما بقى من العمر، وهي تستحق الشعور بابنها الوحيد معها يهتم بها ويرعاها.
زفر عاصم بضيق وهو يتحدث قائلاً:
_الأمر ليس بتلك السهولة أبي، لا تنس أن ابنة زوجها المتوفى تعيش معها.
ابتسم أبوه بمكر وهو يسأله:
_تلك الفتاة المجنونة التي كنت تحكي لمريم عنها؟
تهرَّب عاصم بعينيه عن أبيه وهو يُجيب بنزق مفتعل:
_هي بذاتها، وأمي مُتمسكة بها كأنها أسطوانة الأكسجين الأخيرة تحت سطح البحر!
ضحك أبوه وهو يُعلِّق:
_هل تغار منها؟
هب عاصم واقفاً وهو يهتف بغضب:
_إنها.. إنها ضئيلة القامة طويلة اللسان عابسة طوال الوقت بالرغم من روعة ابتسامتها، تلومني عيناها على شيء لم أفهمه!
وبحيرة أضاف:
ألا يكفي أنها تمتعت لأعوام بأمي على العكس مني أنا؟ لتُزيد صعوبة الأمر وتُشعرني أنني أغضبتها وآلمتها.
ثم نظر إلى أبيه قائلاً بِتَوَعُّد:
_لكن أتعلم شيئاً أبي؟! أنا لن أترك لها أمي! سآخذها منها ولتريني هي كيف سيفيدها حزام الكاراتيه الأسود الذي تتفاخر به!
والابتسامة الماكرة عادت بسؤال هاديء:
_أتحبها؟
رد عاصم باستهجان:
_هل هناك من لا يحب أمه؟!
والابتسامة الماكرة على وجه أبيه اتسعت وهو يُعقِّب:
_أنا لم أكن أتحدث عن أمك!
انتفض عاصم وهو ينظر إلى أبيه باعتراض هاتفاً:
_ماذا تقصد؟! سما؟! تلك الــ....
القوية؟
الأصيلة؟
الجميلة؟
الرائعة؟
هز رأسه بقوة نافياً أفكارا لا يدري من أي مصائب تهبط عليه متابعاً بغضب ليس له ما يبرره:
_تلك السليطة اللسان؟! إنها.. إنها مجنونة أبي، مجنونة بالفعل وأتوقع منها أي شيء، بالإضافة إلى أنني لست من ذلك النوع.
ضيق أبوه عينيه بتساؤل قائلاً:
_أي نوع؟
ليهتف عاصم بارتباك:
_النوع الذي يغرق حتى أذنيه في الحب، لقد رأيت بنفسي ما حدث معك جراء الحب، لقد رأيت ماذا حدث لساري جراء الحب.
رد أبوه بشجن:
_ما حدث لكلينا أنا وصديقك لم يكن جراء الحب يا عاصم، الحب ليس له ذنب في الحقد والانتقام، كلانا حَقَد لأسباب مختلفة، وكلانا انتقم بطرق مختلفة، فلا تُلصِق تلك التُهم بالحب!
رد عاصم بإصرار:
_وإن يكُن، أنا لست بغبي كي أقع في نفس الفخ!
ثم اتجه إلى باب الغرفة وخرج منها مُسرعاً هارباً ليحدق أبوه في إثره قائلاً بخفوت:
_إلا أنك وقعت بالفعل عاصم، وبمنتصف الفخ تماماً!
**********
"لا تغضب عَمَّار! آنا آسفة."
هتفت بها في السيارة وهي تُطالع وجه زوجها المتجهم فرد بخفوت:
_أنتِ لم تُخطِئي بشيء مَوَدَّة، هي خالتي وبنفس تفكير أمي، لا تهتمي، طالما رهف لم تستمع لذلك الهراء أنا لا أهتم.
خاطبته بنبرة قوية:
_إذن لا يجب عليك التأثر بأي مم يُقال، يجب أن يشعر الآخرين بالحرج من الحُكم عليها، يجب أن تظل أنت جدارها الحامي عَمَّار.
نظر إليها وابتسم مُردداً:
_ما الخير الذي فعلته بحياتي كي تكوني أنتِ زوجتي؟
ابتسمت برقة وعاد هو إلى متابعة الطريق بتدقيق..
فداعبت ذراعه بأناملها هامسة:
_لِمَ العبوس إذن؟ لا أحب أن أراك بهذا الشكل.
التفت إليها مُبتسماً بمكر ثم سألها:
_هل نام إياد؟
توردت وجنتاها وهي تومىء برأسها ثم تساءلت:
_نعم، لماذا تسأل؟
وإجابته أدركتها عندما صَفّ السيارة بجانب الطريق واختطفها في قُبلة دافئة، ثم بكل عِشقه هَمَس:
_أحبك مَوَدَّتِي، لا حرمني الله منكِ.
**********
أنت تقرأ
سَكَن رُوحِي (مُكتملة)
Romanceفتاة يتيمة تضطر للاستقلال بالمعيشة عن خالها لتفاجأ بشخص يتتبعها ويراقبها بكل مكان... ماتنسوش الڤوت والتعليقات لو سمحتم😍😍😍