الفصل التاسع
*السّاري*
**العمود.. مسافر الليل
**********
لا تنبش الأسرار!
لا تحفر الجدار!
لا تبحث خلف الواجهة اللامعة!
فالأبيض يغشي العينين عن السواد؛
والأسود يكدر نقاء البياض!
هنا القانون.. وهناك روح القانون؛
هنا اللحظات الحاسمة..
وهناك سنوات شقاء المَظْلَمَة!
هنا دماء أُهدِرَت..
هنا ضحايا قُتِّلَت..
هنا أرواح بعيداً للأبد حَلَّقَت..
شاكية، يائسة، مُكَمَّمَة، مُكَبَّلَة؛
والحقوق؟! واجبة!
والعدالة؟! غائبة!
وهل أملك اختيار؟!
**********
منذ ثمانية عشر عام:
"هيا سارة! لا تزيدي في إرهاقي، رددي اسمك خلفي أرجوكِ: ســــــارة!"
قالتها سوسن برجاء واضح لطفلتها ذات الستة أعوام التي يتعلَّق نظرها كله بشقيقها التوأم الراقد في فراشه، هَزَّت الصغيرة رأسها رفضاً ثم همست ببطء متلعثم مُشيرة إليه:
_ســــا..ســـامــــر!
زفرت سوسن بحنق ثم تراجعت إلى المقعد بحركتها البطيئة وتوسلتها بحنان:
_حبيبتي، أريدك أن تنطقي اسمك أنتِ، ألا تريدين الذهاب إلى المدرسة مثل جميع الأطفال؟
هَزَّت الطفلة الصامتة رأسها نفياً فزجرتها سوسن بعصبية:
_لا تهزي رأسك سارة، قولي نعم أو لا!
طأطأت سارة رأسها أرضاً وهطلت دمعاتها في صمت فأحاطتها أمها على الفور مرددة بخفوت:
_أعتذر حبيبتي، لا تحزني!، لكنني أريد أن أسمع صوتك، ألا تريدين أن تتحدثي مثل أخويكِ؟
أومأت سارة برأسها إيجاباً في صمت فاستحثتها أمها وهي تأخذ إحدى يديها وتضعها على بطنها المتكورة قائلة بحماس:
_ألا تريدين أن تغني لسلمى ما إن تصل بعد أيام؟
ارتفعت رأس سارة والحماس انتقل إليها واضحاً، بان الجهد الذي تحاول بذله وهي تتمتم بحشرجة:
_ســـ..ســـلـــمـــى!
دمعت عينا سوسن بفرحة وهي تمازحها هاتفة بسعادة غامرة:
_إن علم ساري أنكِ اليوم نطقتِ اسم سامر وسلمى بينما لم تفعلي المثل مع اسمه سيغضب كثيراً!
هَزَّت سارة رأسها نفياً بقلق واضح، فتحت فاهها تحاول بصعوبة نطق اسم شقيقها الأكبر، الحنون، الذي يهتم بها وبتوأمها طوال الوقت..
حاولت بجدية؛
حاولت بقوة؛
حاولت بإصرار؛
لكن.. لم يصدر عن حنجرتها الضعيفة سِوى:
_ســـ...
ودمعاتها البريئة أكملت بقية الاسم.
طفلة صغيرة ضعيفة كأي مثيلة بنفس عمرها؛
طفلة رقيقة هادئة أكثر جداً من أي مثيلة بنفس عمرها!
ورغماً عنها!
طأطأت رأسها ثانية بِعجز، ليس لِسنواتها القليلة سبباً به، إنما لضياع قدرتها عن التعبير كأي أخرى بنفس عمرها!
**********
استند صبري على أقرب جدار مغمض العينين وهو يحاول السيطرة على الإرهاق الشديد الذي ينتابه منذ الأمس بسبب ارتفاع ضغط دمه، التفكير يؤلمه والحيرة تقتله وهو لا يجد حلاً للمصيبة التي طرأت على أسرته مؤخراً، يحاول بكل الطرق تدبير الأمر فلا يستطيع.
انتبه على تربيته خفيفة فوق ذراعه فالتفت ليبتسم بتعب شديد لابنه:
_ما الذي جاء بك إلى هنا ساري؟ ألم تُنهي اختباراتك اليوم؟ لماذا لم تخرج مع أصدقائك؟
أجابه ابنه بابتسامة غير مبالية:
_أنا لا أود الخروج أبي، أتيت إليك كي نعود إلى المنزل سوياً، وربما.. ربما أراد أحد التجار تحميل سيارته فأسلّي وقتي.
يُسلّي وقته!!
نظر صبري إلى ابنه بإشفاق مشوب بفخر شديد، ابنه الأكبر، بل صديقه والسند الذي أخذ على عاتقه مشاركته مسئوليته..
يشعر أنه رجل كبير وليس مجرد صبي في الرابعة عشر، فبينما مشكلات الآباء مع ابنائهم هروبهم من المدرسة أو دروسهم الخصوصية، أو ظهور بوادر تمرد مرتبطة بمرحلة المراهقة، كانت مشكلته الوحيدة مع ساري اكتشافه عمله باليومية في وظائف مختلفة عدة مرات..
لا يطلب منه أية مصاريف، لا يُعذبه ولا يرهقه بأية طلبات، منذ ستة أعوام وقد بدأ يعتمد على نفسه مادياً كيفما استطاع، وكلما واجهه باعتراض يخبره أنه..
يُسلّي وقته!
زفر يائساً وهو يراقبه قد عرض مساعدته بالفعل على أحد التُجار ثم بدأ يحمل بعض الأخشاب على إحدى كتفيه ليضعها فوق سيارة النقل الكبيرة، كان التعب يبدو جلياً على ملامحه الفتية لكنه يحاول جاهداً عدم إظهاره.
شعر صبري بوخزة بقلبه وهو يرى ابن الحاج محمود صاحب المصنع يصطحب ابنه الذي يكبر ساري بعامٍ واحد ويقوم بتعريفه على مرافقيه.
الصبي يمسك بيده أحد أجهزة الألعاب الإلكترونية التي انتشرت مؤخراً وينهمك في اللعب عليها تماماً، بينما ساري على بُعد بضعة أمتار منه يحمل أثقالاً تفوقه وزناً كي يتحصّل على بعض الجنيهات ليعطيها لأمه في الخفاء ظنّاً منه أنه لن يعلم!
استغفر بضيق وهو ينهر نفسه ويحمد ربه على حاله، فهو أفضل من غيره بِعدة مراحل، ثم ابتسم بضعف وهو يرى حفيد صاحب المصنع يتجه إلى ساري الذي أنهى عمله ويقف لاهثاً يتصبب منه العرق بغزارة محاولاً التقاط أنفاسه.
نظر ساري بابتسامة مهذبة إلى الصبي الذي يتطلع إليه بدهشة، فهتف به الأخير بفضول:
_ أنت تعمل هنا، أليس كذلك؟
أومأ ساري برأسه وهو لا يزال يلتقط أنفاسه بصعوبة فتابع الآخر:
_هل أستطيع أن أعمل مثلك؟
رد ساري ببساطة:
_نعم تستطيع بالطبع، التجار هنا كثيرون والحمّالون قليلون، إن عرضت على أحدهم تحميل بضاعته فوق السيارة لن يرفض، لكن سأسدي لك نصيحة! يجب أن تكون جيداً في المساومة، لأنهم يعتقدون أن أمثالنا يسهُل خداعهم بسبب السن.
اتسعت عينا الولد بانبهار وهو يرد مبتسماً ببشاشة:
_شكراً، أنا سأفعل ذلك بالتأكيد، ربما استطعت بناء بعض العضلات مثلك.
ابتسم ساري بود بينما تابع الصبي وهو يمد جهازه تجاهه:
_أتريد اللعب عليه قليلاً؟ إنه صدر مؤخراً، أُسلِّي وقتي به.
تردد ساري وهو ينظر إلى الجهاز الذي سمع عنه من بعض زملائه بالمدرسة ثم سأله بخفوت:
_هل ستسمح لي؟!
اتسعت ابتسامة الصبي بترحيب وهو يضعه في كفه قائلاً:
_طبعاً، العب به كما تشاء، أنا لدي واحد آخر بسيارة أبي.
أمسك ساري الجهاز بين يديه وهو يضغط أحد أزراره بلهفة شديدة، لكنه في نفس اللحظة لمح سيارة نقل فارغة كبيرة تدخل إلى باحة المصنع..
نقل أنظاره بين الجهاز بين يديه والسيارة التي توقفت بالفعل وهو يفكر...
"لقد أصبح معي مالاً يكفي بالفعل لطعام غداً وبعده، وربما بعض الحلوى لسامر وسارة، أستطيع اللعب قليلاً."
لحظات فقط مرت حتى زفر بحسرة وهو يُعيد الجهاز إلى صاحبه الذي نظر له بدهشة قائلاً:
_ألم تستطع اللعب؟ يمكنني أن أعلمك!
مط ساري شفتيه بشبه ابتسامة مُتحسّرة:
_لا! شكرا! لقد تذكرت أنني لستُ متفرغاً، ربما في مرة أخرى.
ثم مد يُمناه إلى الولد مصافحاً بابتسامة:
_أنا ساري صبري رشوان.
صافحه الصبي ببشاشة وهم بالرد عندما انطلق من خلفه صياحاً غاضباً:
_عَمَّار!
التفت عَمَّار بذعر واضح إلى الرجل الذي يُقبل تجاههما بغضب صارخاً:
_ألم أنهَك من قبل عن التحدث مع العاملين بالمصنع؟! ألا تفهم أنك حفيد رب عملهم؟ إنهم يعملون لديك يا أبله!
تلجلج عَمَّار بحرج مختلساً النظرات إلى ساري الذي عَبَر الألم وجهه فأخفاه على الفور، بينما تابع شديد:
_هيا تعال معي إلى مكتب جدك، هيا!
وانصرف الرجل فوراً بدون النظر إلى ابنه أو رفيقه، رفيقه الذي يحاول كبت دموعاً أُهين صاحبها ولا يعلم..
"لِمَ؟!"
التفت عَمَّار له بتوتر ثم قال مُصافِحاً، آسفاً:
_لا تحزن، أبي عصبي بعض الشيء، أنا.. أنا عَمَّار شديد الناجي، سأراك ثانية بالتأكيد، وفي المرة المُقبلة سأُحضر الجهازين معاً كي نتنافس سوياً في أحد أركان الباحة، ما رأيك؟
أومأ ساري برأسه موافقاً برغم عِلمه بأن ذلك لن يحدث، وعندما انصرف عَمَّار لاحقاً بأبيه زفر بقوة ماحياً ما حدث منذ قليل من عقله، ثم اتجه إلى التاجر الذي يبحث بعينيه عن حمّال ما هاتفاً بصلابة:
"مرحباً! أستطيع أن أتوَلَّى حمل بضائعك كلها خلال نصف ساعة لا أكثر!"
**********
"كُفّي عن البكاء يا سوسن أرجوكِ، سيدبر الله الأمر، اهدئي حتى لا تسوء حالتك أنتِ أيضاً!"
قالها صبري بحنان لكن زوجته لم تتوقف عن البكاء وهي تستغفر في نفس الوقت، فاقترب منها يربت عليها برفق ، ثم ضمها بين ذراعيه فزفرت بتعب مخاطبة إياه:
_ماذا سنفعل يا صبري؟! لا أجد حلاً، رأسي سينفجر من التفكير، لا أستطيع تخيل أن يحدث سوءاً لابني!
لثم صبري رأسها بِحُب وهو يتحدث بنبرة هادئة، بالرغم من الهلع الذي يكتنف قلبه:
_إن شاء الله لن يحدث شيء له، سنقوم بإجراء العملية وسيشفى تماماً، وسيشب مزعجاً يتشاجر طوال الوقت مع إخوته، وسترين صدق ما أقوله لكِ!
لم تستطع تصديق آماله، لم تستطع مبادلته ابتسامته المفتعلة، لم تستطع إيجاد حلاً أبدا فهتفت وهي تهب واقفة قدر ما أسعفتها صحتها:
_كيف سنفعل يا صبري؟ أخبرني كيف سندبر ثمن العملية؟ كيف سنواصل جلسات التخاطب لسارة؟ نحن حتى لا نملك ثمن عملية الوضع وبقى أسبوعان فقط وأبدأ بشهري التاسع، من أين سنحصل على كل تلك المصاريف؟ من أين؟
"أنا لدي سبعون جنيهاً!"
هتف بها ساري شاحب الوجه مُتحرجاً، بينما كان يتظاهر بتصفيف شعر سارة وجرَّها إلى التحدث، فهتفت به أمه بحنق:
_اسكت يا ساري!
لكنه تابع بحماس:
_لقد بدأت العطلة الصيفية، أي أنني متفرغ طوال اليوم، أستطيع العمل بالمصنع مع أبي طوال النهار ثم أعود للعمل في ورشة عم صقر بالفترة الثانية، أستطيع تدبير مصاريف بعض جلسات سارة، أستطيع المساهمة في ثمن عملية سامر عندما أتسلَّم أول راتب، وربما استطعت المساهمة في عملية وضعك يا أمي، ما رأيكما؟
نظر له والداه بألم شديد وانتحبت أمه ببكاء أشد، بينما اقترب منه والده واجتذبه إلى أحضانه قائلاً:
_أنت صديقي يا ساري، أنت رجل وأنا فخور بك، لكنني أحتاج منك أن تظل مع أمك وإخوتك تلك الفترة وأنا في العمل كي أكون مطمئناً، أخاف أن يتعب سامر أكثر أو تتعرض أمك لآلام المخاض وكلانا بالعمل، اتفقنا؟
ويبدو أن ابنه لا يريد النطق بوعد لن يلتزم به، فقد ظهر عدم الاقتناع على وجهه لكنه رغماً عنه نطق بخفوت:
_اتفقنا!
**********
أنهى صبري عمله وهو يشعر ببوادر ارتفاع ضغط دمه بعدما تم رفض منحه سُلفة يحتاجها الآن أيما احتياج، فآثر العودة إلى المنزل مسرعا بصحبة ابنه الذي لم ينفذ اتفاقه معه بالطبع..
رمقه ملياً بجانبي عينيه دون أن يلاحظه ابنه مستغلاً إنهاكه الشديد وحاجته الواضحة إلى الراحة؛
لو بيده لم يكن ليسمح له أبداً بأن يُفني فترة طفولته ومراهقته يعمل بمشقة تفوق مشقة الكبار أحياناً؛
لو بيده لكان أجبره ألا تطأ قدماه أرض المصنع فيتعرض للذل والإهانة من بعض التجار؛
لو بيده لكان أغدق عليه بكل ما يستحقه من رفاهية ومعيشة رَغدَة مع إخوته؛
الذنب يتغذى عليه.. والحيرة تقتات على روحه؛
لكم كان بعيد النظر حينما اختار له اسمه..
العمود الذي تشتد به سفينة أسرته، والأمان الذي يقف معه بوجه عواصف حاجاتهم وابتلاءاتهم..
ولا يقوى سوى على الابتهال بأن يحفظه له، وتضع زوجته طفلتهما القادمة بالسلامة، ويستمع لكلمتين متتاليتين بدون تلعثم من سارة..وأن يستطيع إنقاذ سامر قبل أن يستسلم قلبه!
لكن للأسف ليس بإمكانه شيء!
وأثناء خروجهما لمح صبري سيارة ابن صاحب المصنع تقف بالباحة الخلفية فتغاضى عن شروده شاعراً بدهشة من وجوده بتلك الساعة وهَمَّ باستئناف طريقه لكنه فكر أنه ربما يحتاج شيئاً ما بذلك الوقت المتأخر.
الحاج محمود والده له أفضال كبيرة عليه ويثق به ثقة عمياء، التفت بصحبة ابنه عائداً إلى حيث يقف شديد بك ابنه، لكنه عندما اقترب أكثر اكتشف أنه لم يكن بمفرده، هذا شوقي أيضاً أمين المخازن الذي حياه بنفسه مُودعاً منذ ساعتين!
وبينما أوشك على فتح فمه بتحية عابرة لكليهما وصلت إلى مسامعه عبارة شديد الخافتة:
_لن يعلم أحد بشيء لا تخف!، الحاج أصبح مريضاً ولا يُدقق في تلك الحسابات، والأوراق معي أنا، وقّع فقط بالاستلام ولا تقلق، والمكسب من تلك الصفقة لك به السُدس، ما رأيك؟
لم يكن الأمر بحاجة إلى الكثير من الذكاء ليدرك صبري فحوى ما يجري بالخفاء،
فأشار إلى ساري فوراً بالتزام الصمت وانتبه بشدة حينما اعترض شوقي الذي أدرك صبري أنه كأمين المخازن بالمصنع _ ربما ليس بأمين تماماً_:
_السُدس؟ هل تمزح معي شديد بك؟ إن أدرك الحاج محمود أو راجع الأوراق أنا وحدي من سيذهب إلى السجن، لن أقبل بأقل من الربع!
صاح به شديد:
_كيف تتحدث معي بذلك الشكل يا شوقي؟ وما الذي تغير تلك المرة؟ كنت دائماً ما تقبل بالسُدس!
تلك المرة؟!
ودائماً؟!
نظر صبري إلى ساري الذي لا يفهم شيئاً بصدمة شديدة بينما احمرّ وجهه تماماً وارتفعت دقات قلبه شاعراً بدوار وشيك فتمسك به ابنه بقلق واضح لكنه ابتسم له بضعف كي لا يشعر أحد بوجودهما، بينما تابع شوقي بِنبرة ابتزاز واضحة:
_المكسب تلك المرة أربعة أضعاف، ويجب ألا تطمع به وحدك شديد بك، ماذا قلت؟ هل أوقع أم أعود إلى بيتي؟
حدّق صبري بنظرة الشر التي ارتسمت على وجه شديد قبل أن يهتف بحنق:
_وقّع يا شوقي، لكنني لن أسمح بابتزاك مرة ثانية.
ولم يكلف شوقي نفسه عناء الرد وهو يوقع الأوراق والطمع يقفز من عينيه بلهفة.
**********
"هل هؤلاء أشرار يا أبي؟"
ألقى ساري السؤال على أبيه الذي يستغفر ويحوقل منذ خرجا من المصنع، فأجابه بشرود وهو يسير بجواره في طريقهما إلى المنزل:
_لصوص يا بني، هم لصوص!
ظهر التفكير على وجه ساري للحظات ثم هتف بحماس ظاهر:
_إذن لِم لا نُسلّمهما إلى الشرطة؟، ربما يعطوننا مكافأة نستطيع بها علاج سامر، وتكثيف الجلسات لسارة حتى تتحدث قريباً، وتلد أمي بمشفى جيد.
نظر صبري إلى ابنه بتفكير شديد ثم هتف:
_أتعلم؟! أنا.. أنا لا أستطيع السكوت عن الحق، سأبلغ أبيه، الحاج محمود لا يجب أن يظل مخدوعاً في ابنه الذي يسرقه أكثر من ذلك.
ابتسم ساري وهو يسأل أبيه:
_وهل سيعطينا الحاج محمود المكافأة؟
خلل صبري شعر ابنه مرددا:
_سنفعل الصواب يا ساري ولن ننتظر المقابل، ما عند الله لا يضيع أبداً.
**********
قابعة أرضاً أمام شقيقها ذي الملامح المتطابقة والذي يبدو عليه التعب أكثر من المعتاد هذا اليوم؛
فتحت فاهها رغبةً في ندائه لكنها أغلقته ثانية باستسلام؛
تصلها أصوات الأطفال الذين يتصايحون ويلعبون خارجاً وتتمنى لو تستطيع التحدث بحُرية مثلهم.
تعالى رنين جرس الباب بإصرار فهرولت الصغيرة إلى الباب وفتحته بفرحة مستعدة لارتمائها في أحضان شقيقها الأكبر والحصول على الحلوى اليومية التي يحضر منها اثنتين دوماً، لها ولِسامر..
لكنها وجدت أمامها ذلك الرجل صاحب.. البنية الضخمة؛
والملامح العابسة المخيفة القاسية؛
وبالرغم من أن سنواتها لم تتعد الست بعد، إلا أنها استشعرت الخطر الذي ينضح منه بتلقائية!
تراجعت الطفلة برعب حينما ارتفعت صيحة أمها من الداخل:
"ألم أنهَك عن فتح الباب يا سارة؟!"
خرجت سوسن بحركتها المتثاقلة من المطبخ معتقدة أن شقيقتها أنعام جاءت لتزورها لكن بدلاً منها طالعها وجه أثار خوفاً غريباً بداخلها فسألته بقلق:
_من تكون حضرتك؟
وصيحة ضعيفة خافتة من الطفل المريض أتبعت سؤال أمه:
_أمي، أنا خائف، أنا أشعر بالألم.
وكلماته التي تخللتها أنفاسه اللاهثة لم تصل إلا إلى سارة، ربما لم تسمعه أيضاً، لكنها..شعرت به!
وبمنتهى الغضب صاح الرجل بسوسن:
_أين هو زوجك؟
خرج صبري من غرفته مسرعاً بعدما سمع الصوت الرجولي بالخارج، وعندما توقف أمام شديد ازداد قلقه وهو يسأله:
_لِمَ جئت إلى هنا شديد بك؟
اندفع الرجل فجأة مُمسكاً صبري من تلابيبه صائحاً:
_كيف تجرؤ على الوشاية بي لدى أبي؟ كيف تجرؤ على التلصص عليّ؟ كيف فعلت ذلك؟ ألم تستطع طلب بعض المال مني وتتظاهر بعدم معرفة شيء؟ كنت أستطيع أن أعطيك، كيف جرؤت على أن تتحداني؟
ابتعدت سارة إلى أقصى ركن حيث شقيقها التوأم سامر تختبىء بجواره لتجده ينظر إلى الرجل برعب مثلها وهو يلهث بسرعة ويكافح للتنفس هامساً:
_سارة، أنا خائف!
رفعت أنظارها إلى أمها فوجدتها تتشبث بأبيها بمواجهة ذلك الوحش صارخة:
_ابتعد عنا! كيف تهجم على بيوت الناس؟ سأصرخ وسيلقيك الجيران بالخارج!
انطلقت سارة إليها جرياً تجذب جلبابها بيد وتشير بالأخرى إلى توأمها متفوهة بالكلمة الوحيدة التي استطاعت اختطافها من صوتها بأقصى جهدها:
_ســ..سامر!
وسامر كان يلهث؛
بشدة يلهث؛
والدماء تنحسر من وجهه؛
والعرق يتصبب منه..
بينما اندفع ساري إلى الداخل بعد أن وصل لتوه من عمله الإضافي صارخاً:
_ابتعد عن أبي، لِمَ تتشاجر معه؟
لكن شديد كان يصرخ بصبري موجها إليه سباب بأقذع الألفاظ، وموجهاً إليه بعض اللكمات..
صبري يختنق هاتفاً بِحشرجة وعيناه تهربان إلى ابنه الأصغر قائلاً بنبرة متقطعة:
_انزع يديك.. القذرتين عني!
وسوسن تبكي صارخة:
_ساعدونا! سيقتل زوجي!
ساري يحشر نفسه بين أبيه ومهاجمه هاتفاً:
_اترك أبي أيها اللص!
سامر يلهث أكثر حتى ابيضَّ وجهه تماماً هامساً بحشرجة:
_ساري! أشعر بالألم، لا أستطيع التنفس!
وساري كان يكافح لإبعاد ذلك الحقير عن والده..
وسارة تجذب ساري من ملابسه قائلة بذعر واضح:
_ســ..سامر!
وصرخت سوسن وهي تلاحظ ابنها الأصغر الذي لا يستطيع التقاط أنفاسه، لتدفع شديد بقوة عن زوجها فتصيبها..
ركلة...
تماماً بأسفل بطنها المتكوِّرة!
وصرخة عالية ملتاعة؛
ثم مياه تندفع منسالة؛
وتهتف سارة بضعف:
_أ..أمي، ســـ..سامر!
لهاث!
وحشرجة!
ووجه صار أزرق!
وانتفاضة أخيرة لجسد ضعيف!
وتهتف سارة بهمس متحشرج مذعورة:
_سامر!
وأدرك المجرم فعلته فتسمر مكانه لحظات ثم تراجع إلى الخلف هارباً..
وسقط صبري بجوار جسد زوجته مذعوراً صائحاً:
_سوسن! سوسن أجيبيني!
وبِكل الألم الذي تشعر به صرخت:
_الطفلة صبري، سأجهض الطفلة، أنقذ سامر!
وانطلق ساري يحمل جسد أخيه صارخاً:
"سامر!"
**********
أنت تقرأ
سَكَن رُوحِي (مُكتملة)
Romanceفتاة يتيمة تضطر للاستقلال بالمعيشة عن خالها لتفاجأ بشخص يتتبعها ويراقبها بكل مكان... ماتنسوش الڤوت والتعليقات لو سمحتم😍😍😍