١٣_الفصل الثالث عشر (لا تُصالح!)

7.3K 244 24
                                    

الفصل الثالث عشر
*لا تُصَالِح!*
**********
عندما تنجح تعويذتِك..
لا تلومي قلباً للسِحر خضع!
وحينما تُصيب لعنتِك..
لا تزدري عقلاً بالجنون اندلع!
رُوَيدِك يا رقيقة فلم أستسلم بعد؛
حُبا هو أو صار حرب؛
صابر أنا.. مثابر أنا؛
دوما تَأَنَّيت.. مرارا تَمَهَّلت؛
عمري كله تَدَبّْرت؛
والآن قد حان موعد مسابقتي الأثيرة..
والكأس قلب!
**********
في صالة الاستقبال بالمكتب تعالت ضحكات سارة المُتسلية فنظرت لها رهف بغيظ شديد هاتفة:
_أتضحكين يا سارة؟! ألا تتخيلين الموقف المُحرج الذي وضعني فيه أخوكِ أمام قريب مَوَدَّة؟
لملمت سارة ضحكاتها بصعوبة ثم قالت:
_لا تغضبي مني رهف! لكن كلما تخيلت صدمة ساري وهو يستمع لآخر يغازلك أغتاظ لأنني لم أكن أشاهد.
اكتفت رهف بالصمت وهي تتذكر ما حدث باليوم السابق..
فما إن استشعرت حلول شجار حتى تركتهما سوياً وأنقذت نفسها دون تردد..
لا ينقصها سوى افتعال مشاكل أمام عملها أيضاً..
_أنتِ تعلمين أنه نادم ويتعذب أليس كذلك؟!
ردت بشرود:
_أعلم!
فعاجلتها سارة متسائلة:
_وهل ستسامحينه؟
اهتزت حدقتاها وهي تستعيد ملامحه بالأمس..
أكثر من أربعة أشهر مَرَّت منذ رأته بالمرة الأخيرة بالمرآب؛
حينما قَصَّ عليها كل معاناته بنظراته دون كلام صريح بينما لم تفهم؛
حينما أوشكت أن تُصاب بالجنون وهي تُطالِع العشق الصارخ بعينيه متناقضاً مع فِعلته الشنيعة بحقها!
حينما اتخذت عهداً على نفسها بأن تنساه تماماً وكأن طريقاهما لم يتقاطعا يوماً..
ذلك العهد الذي لم تستطع الوفاء به ساعة واحدة؛
في البدء كانت النِقمة هي السبب؛
ثم صار الحِقد هو الدافع؛
وأخيراً توقفت عن خداع نفسها لتعترف ببساطة أن العِشق هو المبرر الوحيد!
ولِتصل بهذيانها بعد ذلك إلى شعورها الدائم بمراقبته لها..
في الشارع؛
أمام البيت؛
أمام مقر عملها؛
وفي مدينة الألعاب!
مجنونة أصبحت؛
عفواً!
مجنونة "به" أصبحت!
هذا الرجل اختطف قلبها ثم تخلَّى عنها أمام الجميع بلحظة؛
هذا الرجل هو نفسه الذي تَسَمَّرت أمامه بالأمس ذاهلة من الحالة التي صار إليها؛
فإن كان قد شُفِيَت ذراعها ولم تخذلها منذ صارت في رفقة أسرة أخيرة؛
وإن كان محياها قد أشرق بوضوح، والسعادة_ برغم كونها ظاهرية_ قد وجدت طريقها أخيراً إليها؛
فإنه على النقيض تماماً منها؛
عيناه الخضراوتان اللتان دوماً ما كانتا عابثتين صارتا.. ميتتين!
صوته اللذي كانت تستشعر التلاعب به مهما تَصنُّع الجدية، صار.. مُتعَب، مُرهَق، مُتوسِّل!
حيويته وقوته وسطوته صاروا.. ضعفاً واستسلاماً وإنهاكاً!
هذا الرجل فائق النشاط كيف تحول خلال أشهر إلى كهل بأرذل العُمر هكذا؟!
انتفضت عندما أخرجتها سارة من شرودها الذي طال مُكررة سؤالها بتصميم، وبنفس الشرود زفرت مجيبة:
_لا أعلم!
سارعت سارة بحزم:
_إياكِ!
نظرت لها رهف بدهشة فأوضحت:
_إياكِ أن تسامحيه رهف! يجب أن تستعيدي حقك منه أولاً.
تعاظمت دهشة رهف وهي تسألها:
_هل هو أخوكِ حقاً؟
ضحكت سارة بشقاوة هاتفة:
_هو أخي وصديقي وأبي، لكن هذا هو العدل!
مطت رهف شفتيها بلا اهتمام ثم سألتها:
_إذن أين هي صديقتك التي سأُجري معها المُقابلة بشأن الوظيفة؟ لم تتبق إلا ساعة على موعد بدء المحاضرة الأولى.
ابتسمت سارة وهي تتطلع إلى نقطة خلف رهف، قبل انطلاق صوت الوافدة:
_السلام عليكم!
التفتت رهف لتتطلع إليها بابتسامة ودودة انمحت فوراً وهي تتذكر ذلك الوجه الذي رأته للمرة الاولى والأخيرة بأسوأ أيامها، لكن سارة أسرعت إلى الفتاة جاذبة إياها هاتفة بارتباك:
_مرحباً سما!
**********
"لقد آلمني عنقي حقاً، اهدأ واجلس كي أفهم أولاً!"
هتف بها عاصم وهو يتابع ساري الذي يدور في غرفة المكتب كالمجنون منذ عدة دقائق، فالتفت الأخير إليه صارخاً:
_اهدأ؟! أتريدني أن اهدأ؟! لقد أخبرتك أن ذلك المائع المُستفز كان يبتسم لها ويغازلها..
وبصراخ أعلى:
_أمامي!
زفر عاصم بِضَجَر وهو يرُد:
_أعلم، لقد أخبرتني عشرات المرات بالفعل، وأنا لا أفهم كيف أن غضبك بذلك الشكل سيجعلك تنسى الأمر!
هتف ساري به فجأة وهو يلتفت إليه:
_أنت ستبحث خلف ذلك الشخص يا عاصم، ستخبرني بكل شيء عنه منذ ميلاده وحتى اليوم، يجب أن أعلم لماذا يحوم حول زوجتي، وماذا يريد منها بالضبط!
صمت عاصم للحظات ثم حمحم وهو يتراجع بضعة خطوات للخلف احتياطاً للأمان، ثم تحدث مبتسماً باستفزاز:
_أولاً: ربما هو لا يحوم حولها كما تعتقد، هو بمثابة قريب لأخيها وكان يُحييها ليس أكثر، ثانياً: أنا_بِخِلافك_ قد تُبت إلى الله عن وظيفة التجسس، فاشبع بها وحدك وابحث أنت خلفه كيفما تشاء، ثالثاً:...
استنشق نفساً عميقاً ثم هتف بنفس الابتسامة:
_رهف لم تعُد زوجتك منذ شهور يا ساري، وهي الآن حُرَّة تماماً!
والنظرة التي اعتلت وجه ساري جعلته تلقائياً يضع يده على مقبض الباب خلفه كي يلوذ بالفِرار إن احتدمت الأمور وجُنَ صاحبه أكثر، إلا أن الاخير بمنتهى الهدوء وبعض من الألم تحدث قائلاً:
_أعلم ذلك!، لكنها ستصير زوجتي ثانية، لأنني ليس لدي أي خيار آخر.
ضرب عاصم كفيه ببعضهما بغيظ ثم هتف:
_كما تحب، لكن أرجو ألا تتهور!
والابتسامة الماكرة التي عادت للتو بعد غياب طويل على وجه ساري أكدت له أنه بالفعل قد تهوَّر وانتهى الأمر!
**********
"ولماذا تركتِ عملك سما؟"
ألقت رهف السؤال على الفتاة التي تجلس أمامها بثقة أثارت إعجابها حقاً، فأجابتها:
_كان المدير يعلم بحاجتي إلى العمل مع عدم مقدرتي على التأخر كثيراً بالخارج، لكنه قام بالضغط عليَّ كي يُضيف عدد ساعات عملي، فقدمت استقالتي.
والفضول الأنثوي غلبها وهي تسألها:
_ولماذا لا تستطيعين التأخر؟
ببساطة أجابتها سما:
_لأن أمي ضريرة ولا تستطيع الاعتناء بنفسها طوال اليوم.
ابتسمت لها رهف بإشفاق ثم سألتها بلا تعبير:
_ألا يظل أي من أشقائك معها؟
وإجابة سما كانت أيضاً بلا أي تعبير:
_ليس لدي أي أشقاء، ولقد توفيت أمي أثناء وضعها لي.
تسمَّرت يد رهف على القلم الذي تمسك به ثم افتعلت ابتسامة وهي تنظر لسما بتوجس:
_أنتِ ظريفة حقاً مثلما قالت سارة، لقد أرعبتني لوهلة!
ضيقت سما عينيها بعدم فهم ثم ضربها الإدراك فجأة فضحكت باستمتاع وهي تُعلِّق:
_آسفة لم أوضح الأمر، أمي التي أنجبتني توفيت فعلا أثناء الوضع، لكن أمي التي ربتني وأعيش معها هي زوجة أبي.
أطلقت رهف أنفاساً مُحتبسة بصدرها، ثم ضحكت برقة وهي ترد:
_اتفقنا إذن سما، المواعيد هنا مَرِنة لأننا لازلنا في البداية، تستطيعين البدء منذ اليوم إذا أردتِ.
اشتعل الحماس بعيني سما وهي تهتف:
_حقاً؟! حسناً! أين سيكون مكاني؟
وقفت رهف فتبعتها سما تتجولان في أنحاء المكتب ثم عادتا إلى مكتب الاستقبال، شرحت لها رهف أجزاء المكان وأهدافهم المستقبلية للعمل، ثم استدارت لها مرددة بحرج:
_اسمعي سما! المكتب لايزال ببداية العمل ولذا ليس لدينا موظفين كثيرين، أعلم أن تخصصك في الدعاية والتسويق، لكن اليوم بداية الدورة التدريبية التي سأقوم بتدريسها ويجب أن أجهز المادة العلمية، هل ستنزعجين إن طلبت منك العمل من مكتب الاستقبال لأن الطلاب على وشك الوصول وسيقومون بالتسجيل؟
هزت سما رأسها نفياً بسرعة وهي تُجيبها:
_بالطبع لا، أنا أعمل من أي مكان، أخبريني فقط مكان الإيصالات وتلك الأمور.
شكرتها رهف بابتسامة ثم بدأت ترشدها إلى خطوات الحجز وعادت هي إلى القاعة التي ستنعقد بها الدورة بعد قليل.
.......
جلست سما وهي ترتب المكتب بحماس شديد طاردة أي خاطر أو فكرة بإنسان مُعيَّن..
لكن ذلك المُعيَّن يبدو أنه قد قرر اكتفائه من خصامهما الذي لا يفهم له سبباً، فقد دق هاتفها باسمه ليدق قلبها معه..
أجلت حنجرتها وحاولت أن يخرج صوتها طبيعيا، ثم:
_مرحباً!
والابتسامة احتلت ثُغره بمجرد سماع صوتها، لكنه طردها فوراً مُتظاهراً بعُبوس واهِ قائلاً بخشونة:
_مرحباً، أنا اتصل بكِ لأنني أهاتف أمي ولا ترد، من فضلك أريد التحدث معها.
أبعدت الهاتف عن أذنها وأعطته لكمة متمنية أن تستطيع فعلها يوماً مع مُحدِّثها نفسه، ثم أعادت الهاتف مرة أخرى وهي ترد بهدوء بذَلَت جهداً كبيراً للحصول عليه:
_أنا بالعمل الآن، وهذا موعد نومها، أعد الاتصال بها بعد ساعة أخرى، ستكون استيقظت بذلك الوقت.
سألها بسرعة:
_أي عمل؟ لقد أخبرتني أمي أمس أنكِ تركتِ العمل!
"وكأنك تهتم!"
زفرت بغيظ وهي تُجيبه:
_بالفعل تركته، وقد عرضت عليَّ سارة العمل بشركة أخيها لكنني لم أقبل، واليوم بدأت العمل بمكانٍ آخر، ولحظة.. ما شأنك أنت؟!
اتسعت عيناه بغيظ شديد وهو يهتف:
_هي شركتي أيضاً وكان الأفضل أن تعملي معي بدلاً من العمل مع الأغراب، ثم شأني أنني خطيبك، أم هل تراكِ نسيتي؟
فردت ببرود على الفور:
_خطبة مزيفة مهندس عاصم ، وقريباً سأنهيها، وعندئذٍ سأختار من أتابع حياتي معه بإرادتي، سنعيش بسعادة سوياً طوال العمر، وسيكون بيننا مشاعر جميلة متبادلة.
وبينما هو يستوعب القذائف التي تُلقيها على رأسه تِباعاً عاجلته:
_سأنهي المكالمة الآن، أنا منشغلة.
وأنهت المكالمة ليُرَدِد هو بدهشة:
_مشاعر جميلة متبادلة؟!
**********
جلست دينا في صالة الاستقبال بالفيلا الفخمة تهز إحدى ساقيها بغضب شديد وهي تنتظر ظهوره وتتوعده بالانتقام، دخلت مُدبِّرة المنزل مخاطبة إياها بتهذيب:
_شديد بك سيُنهي مكالمته ويقابلك فوراً.
أشارت لها برأسها بلا اهتمام فأردفت المرأة:
_ماذا تُحبين أن تشربي؟
وقبل أن ترد انطلق الصوت الصارم:
_اذهبي أنتِ يا سناء، السيدة لن تبقى طويلاً على أي حال.
خرجت مُدبرة المنزل بصمت بينما هبَّت هي واقفة تهتف:
_أتجرؤ على تهديدي شديد بك؟ ألا تعلم أن ما تبقى من اسم لديك أستطيع أنا أن أمحوه تماماً بضغطة زر واحدة؟!
اتسعت عينا شديد بغضب شديد:
_أنتِ وقحة جداً، يبدو أنني حينما تركتك أنتِ وأمك بسلام اعتقدتِ أنكِ نِداً لي، لكنك لم ترِ مني شيئاً بعد، أستطيع أن أنهي حياتك البائسة هنا في هذه اللحظة!
وبالرغم من الرعب الذي اجتاحها إلا أنها تظاهرت بالشجاعة وهي تجابهه بقوة:
_افعلها! افعلها شديد بك حتى تقوم صديقتي بتسليم عقد الزواج اليوم فيصير ما تُعلِن أنت عنه أنه مجرد إشاعات من منافسين إثباتات لا تقبل الشك، مع دليل دامغ على أنني كنت بقصرك قبل اختفائي.
نظر لها شديد بحقد فتابعت بابتسامة مستفزة:
_هل تعتقد أنك وحدك من تستطيع التخطيط؟ أنا أيضاً أستطيع فعل ذلك وبذكاء، كيف تعتقد إذن أن العقد لا يعلم بوجوده سواي الآن؟
تجاهلها وهو يتجه إلى أقرب مقعد ويجلس فوقه يرمقها بترفُّع:
_ما سبب زيارتك؟
صاحت بغضب:
_أنت! أنت من بدأت شديد بك، لقد كان بيننا اتفاقاً وأنا التزمت بما يخصني بينما لم تفعل أنت، أحتفظ بالعقد لديَّ ولا يدرى أحد بوجوده مقابل أن تُخيف تلك اللعينة وتترك البيت.
صاح بغضب مماثل:
_وأنا قد نفذت باليوم التالي، وهي لم تعد تقطن لديكم، بل وتَسَبَبَت في ترك ابني المنزل والآن تقيم معه، أي أنا من تضررت بآخر الأمر.
صرخت به فاقدة كل سيطرتها:
_هذا ليس من شأني، ليس من شأني ما تسببت هي به، لكن إن اعتقدت أنك تستطيع تهديدي بتخريب حياتي الجديدة فأنت مُخطىء، وإن أنا خسرت ما حصلت عليه بشق الأنفس سيخسر الجميع قبلي!
هب واقفاً يهتف بغضب:
_متى هددتك أنا؟ لم أرك منذ كنت لديكم بمنزل أبيك.
فجابهته بهتاف أقوى:
_بالأمس عندما هاتفتني لتخبرني أنك تراقب زوجي وتهددني به، هل اعتقدت فعلاً أنني لن أعلم أنك أنت من تتلاعب بي وتهددني؟!
دهشة واضحة اعتلت ملامحه ثم تساءل بازدراء:
_بِمَ تهذين أنتِ؟ أنا لم أهاتفك، وزوجك هذا أنا لا أعرفه.
تعالت ضحكة ساخرة غاضبة منها ثم قالت بهدوء خافت:
_وهل أنا سأصدقك؟ لا يعلم شخص بوجود ذلك العقد سوى أنا وأمي، حتى هي تعتقد أنه ضاع فعلاً، من إذن سيفعلها منا؟
صمت قليلاً يستوعب هذه الكارثة الجديدة، ثم صرخ بها فأجفلت:
_أتعنين أن هناك شخصاً آخر بخلافي وخلافك أنتِ يعلم ويُهددني؟! من أخبرتِ أيضاً بشأن ذلك العقد اللعين؟!
والغضب الواضح بلهجته أرعبها؛
والتساؤل الصريح بنبرته أصابها بذعر؛
أهناك احتمال ألا يكون هو حقاً من هددها؟!
عقَّبت بخفوت وتوتر واضح:
_إذا لم تكُن أنت من هاتفتني، من يكون إذن؟
هنا اتسعت عيناه بوعيد مردداً بخفوت:
_عَمَّار!
**********
سلَّمت الإيصال للطالبة التي تواجهها أمام المكتب وهي تبتسم لها ببشاشة قائلة:
_تفضلي الإيصال، المُحاضرة ستبدأ بعد خمسة دقائق، القاعة رقم 2.
شكرتها الفتاة بابتسامة فأومأت لها برأسها حينما دق هاتفها لتجد اسم صديقتها فردت بمرح:
_أنتِ تعرفين أنني أصبحت غير متفرغة للثرثرة مثلك أليس كذلك؟
لترد سارة بمرح مماثل:
_أنا المخطئة فعلاً لأنني أردت الاطمئنان عليكِ.
قالت سما بهدوء:
_لم تتحدث رهف معي بأي شيء سوى العمل، تبدو طيبة للغاية.
ثم تابعت بغيظ:
_لا أفهم كيف لأخوكِ أن يفعل بها فِعلته؟
زفرت سارة بتعب وهي تُعَلِّق:
_هو يتلقى عقابه الآن سما.
ثم تغيرت نبرتها مرة أخرى:
_ على العموم لقد أردت شكرك حقاً.
ابتسمت الأخرى وهي تجيب:
_على الرحب والسعة، لكن ما السبب؟
وجاؤها الرد سريعاً:
_النظارات الشمسية التي أرسلتها لي اليوم، لم أكن أعتقد أنكِ تذكرت شكلها عندما رأيتِ صورتي بها، لكنها بالفعل مماثلة تماماً.
ضحكت سما بشدة ثم رَدَّت:
_لكنني لم أرسل إليكِ أية نظارات سارة!
اعتدلت سارة في مقعدها وهي تهتف:
_حقاً؟! إذن هو ساري يحاول أن يتملَّقني كي أُقنع رهف بمسامحته، أيعتقد أنه سيشتري ضميري الأخلاقي وميزان العدل خاصتي عن طريق تلك النظارات الرائعة؟
ثم استدركت بابتسامة ماكرة:
_آآآآآه يا ساري المسكين! لا يعلم أنني بالفعل أعددت قائمة لمكائد متعددة ننصبها له!
تعالت ضحكات سما على الطرف الآخر هاتفة:
_أريد المشاركة معك في تلك المكائد لو سمحتِ.
وقبل أن يأتيها التعليق من سارة استدركت هامسة:
_سأُنهي المكالمة الآن، يبدو أن هناك طالب قادم، إلى اللقاء!
وضعت هاتفها على سطح المكتب ورسمت نظرة جادة على وجهها ثم:
"مرحباً، أريد التسجيل في الدورة التي ستبدأ الآن!"
وبمجرد أن رفعت رأسها حدَّقت بصدمة في "الطالب" القادم!
**********
وفي داخل القاعة:
استنشقت بعمق ثم واجهت الطلاب بابتسامة مفتعلة وهي تحاول اكتساب بعض الثقة..
لطالما تمسكت بتدريس الأطفال والمراهقين وتهرَّبت بإصرار من الأكبر سناً..
خجلاً؛
حرجاً؛
أو قلة ثقة!
لكنها ببدايتها الجديدة قررت أن تُلقي رهف القديمة بكل عِلاَّتها خلف ظهرها، قررت أن تُصبح أقوى وتواجه كل مخاوفها بشجاعة!
"مرحباً بكم، اسمي رهف، وأعمل بمجال التدريس والترجمة منذ خمسة أعوام، وسنتعرف من خلال تلك الدورة على أساسيات الترجمة من اللغة العربية إلى الإنجليزية والعكس، هلا بدأنا التعارف؟ الاسم والتخصص، وسبب الالتحاق بالدورة."
توالى التعارف بالترتيب من الطلبة والطالبات من مختلف الكليات وبأعَمَّار مُتقاربة ما بين الثامنة عشر والواحد والعشرين، وحينما همَّت بالبدء ارتفعت طرقات على باب القاعة، هتفت بترحيب وهي تقوم بتشغيل العرض على الجهاز المرئي:
_تفضل بالدخول!
لحظات والطلاب جميعهم أخذوا يتطلعون إلى الوافد ببعض الدهشة حينما انطلق الصوت من خلفها:
_مرحباً، أنا مهندس ساري صبري رشوان، عُمري اثنان وثلاثون عاماً، والتحقت بالدورة لأنني أحب مجال الترجمة ودوراتها جداً جداً!
والتفتت مُجفلة لتقع عيناها على الفور داخل عينيه الخضراوتين اللتين عادتا..
عابثتين!
**********
فتحت مَوَدَّة الباب وهي تحاول التغلُّب على إرهاقها الشديد لتشهق بتوتر وهي تهتف:
_عمي شديد؟!
صاح بها بغضب:
_أين هو زوجك؟ أخبروني أنه ليس بالمشفى!
فتحت فمها لترد لكنه أزاحها بيده وهو يدخل متطلعاً إلى أركان الشقة بازدراء:
_أهذا هو الجُحر الذي تركتما الفيلا من أجله؟
ضغطت أسنانها بغيظ وهي تحاول التمسك بأقصى درجات التهذيب لديها، بينما تابع هو بِتَهَكُّم:
_وأين هي تلك اللقيطة؟ هل تتركين حفيدي معها كثيراً؟ احذري مم يمكن أن تُكسِبه إياه في الخفاء!
وحلَّقت أقصى درجات التهذيب بعيداً وهي ترد ببرود:
_إياد بمدرسته عمي، ورهف بعملها الآن فهي تُدير مكتب الترجمة، وبالنسبة لإياد فرهف مُعلمته بالفعل منذ شهور، وأتمنى حقاً أن يكتسب بعض الأخلاق الحميدة من عمته!
التفت إليها مستعداً للصراخ عندما جاؤه الصوت الذي بات يستفزه ويُقلقه:
_مرحباً شديد بك!
حدق بعيني ابنه الذي استيقظ الآن بسبب الصوت المرتفع ثم هتف به:
_اسمع! أنا لم أتخذ ضِدك أي فعل عندما عصيتني وتركت الفيلا لتعيش مع تلك اللقيطة لأنني أعلم أنك ستأتيني يوماً نادماً بعد أن تُدرك فداحة خطأك، لكن ذلك لا يعني أنني سأظل مُتفرِّجاً على وقاحتك وجنونك هذا.
وبنبرة مُهددة أكمل:
_لا تتحداني عَمَّار، فأنت لا تعلم إلى أي مدى ممكن أن أصل!
ابتسم عَمَّار ببرود وهو ينظر لأبيه قائلاً:
_لديَّ فكرة مُبَسَّطَة، فخلال بضعة أشهر واجهت ضحيتين من ضحاياك، وما خفيَ كان أعظم!
صاح به بغضب:
_ابتعد عن قصة عقد الزواج العرفي تماماً، كُف عن البحث خلف الشهود، ولا تحاول تهديد المرأة!
كتف عَمَّار ذراعيه وهو يتساءل ببرود:
_أية مرأة؟!
اقترب أبوه منه مُجيباً بخفوت:
_لا تتخابث عَمَّار! أنت تعلم أنني أتحدث عن تهديداتك لابنة خال اللقيطة كي تُسلِّم لك عقد الزواج، لكن انس!، وإياك أن تظن أنني نسيت ما حدث في الزفاف، وما يمنعني عنك أنت وهي وذلك الحقير أنني لديّ ما هو أكثر أهمية منكم جميعاً لأنشغل به، لكنني لن أسمح لكم بالتلاعب معي أكثر من ذلك، وقريباً سيصلكم ردي!
قالها وانصرف صافعاً باب الشقة بقوة، فرمقت مَوَدَّة زوجها بقلق وسألته:
_ماذا يقصد عَمَّار؟
لكن عَمَّار لم يرد وهو يشرد بعيدا بغيظ.
**********
حاولت التركيز مع استفسار الطالبة التي تجلس أمامها لكنها كانت تكافح بالفعل!
لقد مرت نصف ساعة..
نصف ساعة فقط منذ بدء المحاضرة شعرت بها كأنها ساعات!
متوترة.. مرتبكة.. خرقاء!
وكيف لا تكون وهو جالس على مقرُبة منها مُحدقاً بها بتلك الدقة، متأملاً، مُتظاهراً بالـ..ـ
تركيز!
فالطالب المجتهد لم ينس شيئاً، بدءاً من الدفتر، والقلم، و قاموس مُصغَّر، وعبارة مُكررة كالمُجيب الآلي!..
"عفواً آنسة رهف، لم أفهم هذه النقطة!"
ونقطة تجُر نقطة تجُر نقطة...
وغباؤه منقطع النظير؛
واستفساراته لا تنتهي؛
وعشقه يقفز من عينيه؛
وكلما نظرت إليه شزراً أهداها..
غمزة!!
و..
"تباً لكِ رهف! هو يعلم أنكِ لازلت تُحبينه ويتلاعب بكِ!"
ابتسمت للفتاة وهي ترشدها بكلمات مُقتضبة إلى كيفية تخمين معنى كلمة مجهولة من خلال سياق الجملة..
وبدون أن تنظر تجاهه تشعر بعينيه تخترقانها بقوة، فأولته ظهرها وعادت إلى استكمال شرحها متشبثة ببرود مفتعل كي تنتهي تلك المُحاضرة بدون فضائح..
وبعدها ستقتل سما التي سمحت له بالدخول؛
أو ستقتل نفسها التي أحبته بذلك الشكل؛
أو ستقتله هو وتسترجع حقها بيديها؛
أو...
لا لن تقتله فهي لازالت تـ...
"اصمدي يا فتاة!"
**********
خرجت من مكتب عاصم متجهة إلى مطعم الشركة متأففة، فهو يبدو عصبياً ويتشاجر مع الجميع، وساري حضر هذا الصباح ثائراً ثم اختفى في ظروف غامضة، لتَعلَق هي بين العمل وحدها منذ أن تركت رهف وسما..
"إذن هل أحببتِ النظارات؟!"
انطلقت العبارة خلفها فالتفتت باستغراب ثم ابتسمت بإشراق هاتفة:
_دكتور حمزة! كيف حالك؟
توقف أمامها مُحدقاً بعينيها لاإرادياً وهو يجيبها:
_بخير تماماً، أنتِ تبدين سعيدة.
ضحكت برقة فازدرد لعابه وخفق قلبه بجنون ثم ردت هي:
_سعيدة جدا، بصرف النظر عن الكآبة المنتشرة بالشركة إلا أنني سعيدة للغاية، أتريد بعضاً من القهوة؟ لتوَّي أعطيت نفسي فترة راحة، ما رأيك؟
لتتسع ابتسامته وهو يرد بلهفة:
_وهل تسألينني؟!
.......
أحضر الكوبين وجلس على المقعد المقابل لها ثم سألها باهتمام:
_ما سبب سعادتك؟
ويبدو أنها كانت تنتظر السؤال فأجابت بسرعة:
_اليوم ذهبت إلى رهف بالصباح وتناولنا طعام الإفطار سوياً وقصَّت عليّ ما حدث بالأمس مع ساري وذلك الرجل قريب أخيها الذي رأيناه سوياً، وقد التحقت سما صديقتي وخطيبة عاصم بوظيفة بالمكتب، ثم اختفى ساري منذ ساعات فاسترحنا من غضبه لكن صديقه تَسَلَّم الدفَّة وتركته حالاً يصرخ في الموظف المسكين، وأفضل شيء حدث اليوم على الإطلاق أنني حصلت على نظارات جديدة بدلاً من نظاراتي التي كسرتها أنت بحذائك الغر...
بترت عبارتها وهي تعض على شفتها السفلى بحرج بينما أخذ هو يضحك باستمتاع شديد فاستدركت:
_آسفة!
هز رأسه نفياً وهو يميل على الطاولة:
_لا تأسفي!
حمحمت بحرج من نظراته التي لاحظت للتو أنها مُربكة ثم استأنفت بمرح وهي تتهرب بعينيها منه:
_ساري يدور كالمجنون باحثاً عن أي شيء يساعده في التقرب من رهف، وبدأ بي أنا فأهداني النظارات الجديدة كي.....
بترت عبارتها وهي تلاحظ انقلاب ملامحه المفاجىء فسألته بتوجس:
_ماذا حدث؟
ليسألها بتحفز:
_من الذي أهداكِ النظارات؟
هزت كتفيها مُجيبة:
_ساري!
ليسألها بحنق:
_هل أخبرك ساري أنه من أهداكِ إياها؟
فأجابته باستغراب:
_لا، لم يكن موجوداً حين استلمتها، لكنه أرسلها إليّ عبر الــ.......
بترت عبارتها وهي تفغر فاهها دهشة وذهنها يعود إلى العبارة التي ألقاها عليها ببداية اللقاء:
"إذن هل أحببتِ النظارات؟!"
لقد اعتقدت أنها تضعها فوق رأسها لكنها الآن تذكرت أن النظارات بحقيبتها بالأعلى، كيف إذن...
_هل أنت من أهديتني النظارات؟
ليتظاهر بالغضب وهو يُشيح بوجهه بعيداً ولا يرد، فمالت هي على الطاولة متابعة بلهجة آسفة:
_أعتذر دكتور حمزة، لقد اعتقدت أن ساري هو من أحضرها إليّ، اعتقدت حتى أن سما هي من أحضرتها إليّ، لكنني لم أعتقد أبداً أن تكون أنت...
وصمتت لا تجد تتمة سوى:
_لقد مرَّت شهور على ذلك اليوم فلم....
مرة أخرى صمتت، لكنه نظر إليها متأملاً ثم أتمَّ عبارتها بخفوت:
_ربما أنا فعلاً قد تأخرت كثيراً يا سارة!
وردُّه الذي يبدو عابراً يحمل بعينيه معانِ مختلفة، تهربت منها بسرعة وهي تبتسم بارتباك مُعلِّقة:
_النظارات رائعة دكتور حمزة، مثل السابقة بالضبط، كيف لا تزال تذكر شكلها؟
ورد آخر مربك لم يعُد يرغب بالتحكم به:
_ربما أنا لا أنسى أي شيء يخص من يهمونني، حتى وإن لم أدرك ذلك إلا مؤخراً!
وازداد توترها وهذا نادراً ما يحدث؛
وتزايد حرجها وهذا أيضاً نادراً ما يحدث؛
فوقفت فجأة لينظر لها باستفهام فهتفت بمرح كان الارتباك به واضحاً:
_فترة راحتي انتهت، سأضطر إلى استئناف العمل كي لا أكون هدفاً لغضب الشريرَيْن الذين أعمل معهم، إلى اللقاء دكتور حمزة، سعِدتُ بزيارتك.
أولته ظهرها تبغي هرباً سريعاً، لكن كالعادة يندفع لسانها بدون استئذان، فالتفتت إليه متسائلة:
_لِمَ جئت هنا أصلاً؟
و الرد كان
اقتراب؛
ثم تحديق؛
ثم ابتسامة؛
ثم:
_كي أراكِ!
وتوردت وجنتاها فشكِّلت مع اخضرار عينيها لوحة جمالية مذهلة!
وعندما كان ينتظر رداً أو تعليقاً أو استفساراً كي يحظى ببضعة دقائق أخرى معها فاجأته كعادتها وابتسمت بِخجل ثم.. رحلت!
**********
خلت القاعة إلا منهما وطالب آخر يتقدم نحوها بابتسامة بشوشة قائلاً:
_عفواً آنسة رهف، هناك جزء لم أفهمه، أيمكنك إعادة شرحه لي؟
ابتسمت رهف وهي تومىء للشاب بترحيب قائلة:
_بالطبع، تفضل باسم!
أشار لها إلى بضعة أسطر كتبها وهو يقول:
_لم أفهم كيف أبدأ بالــ......
"ولِمَ لا تسأل ذلك السؤال في المرة المُقبلة أثناء المحاضرة وأمام باقي الزملاء؟!"
صدح صوته القوي في القاعة خلف الشاب فنظرت له بدهشة بينما رمقه الطالب بعدم فهم فتابع ضاغطاً على حروفه بغيظ هائل:
_كي تعُم الاستفادة!
شعر الطالب بالحرج فسحب الورقة وابتسم لها بلا معنى ثم خرج..
تعالى صدرها وهبط في تنفس سريع وفجأة اتجهت إلى باب القاعة وصفعته بقوة ثم التفتت إليه مُحدقة به بغضب شديد هاتفة:
_ما الذي تفعله هنا بالضبط؟ ما الذي تفعله بمكان عملي؟ ماذا تريد مني ساري؟ ألا تتحمل فكرة أنني تخطيتك؟ ألا تتحمل فكرة أنني نسيتك وبدأت ثانية؟ ألا تتحمل فكرة أنني أستطيع استئناف حياتي بعد غدرك بي؟
اقترب منها بسرعة والندم يأكل ملامحه:
_حاولت.. والله رهف لقد حاولت، وبكل قوتي، لكنني لم أستطع!
وبنبرة انهزامية أضاف:
_الموت يحدث للإنسان مرة واحدة ، لكن أنا ظللت لأكثر من أربعة اشهر ونصف أموت يومياً بدونك، أنا...
توقف للحظات ثم استدرك بألم شديد:
_أنا.. تمنيت كثيراً أن تتخطيني وأن تنسيني وتتجاوزي بشاعة ما اقترفته بحقك، تمنيت أن تستأنفي حياتك وتجدي السعادة التي تستحقينها أخيراً.
خفُت صوته بحسرة متابعاً:
_لكنني أنا لم أستطع، لم أنس، لم أتجاوز، ولن أفعل مُطلقاً.
ارتعشت شفتاها ودمعت عيناها وهي ترمُقه بعتاب شديد فأردف برجاء:
_اقتليني رهف! اقتليني حقاً وبأي وسيلة، لكن ظلَّي معي وأنا أستقبل آخر أنفاسي، لا تحرمينني منكِ رهف!
أغمضت عيناها وزحفت دمعاتها المُتألمة على وجنتيها..
اقترب خطوة فابتعدت إلى الخلف خطوتين؛
اقترب خطوتين فالتصق جسدها بالحائط خلفها؛
وانطلق صوته هامساً أمام وجهها:
_انظري إليَّ رهف!
هزت رأسها بضعف رفضاً فكرر بإصرار:
_افتحي عينيك وانظري إليَّ!
فتحت عيناها لتغرق داخل عينيه مباشرةً فسألها بخوف واضح:
_أتكرهينني ؟!
هطلت دمعاتها بسخاء ولم ترد فتوسلها:
_أرجوكِ رهف أجيبيني! أكرهتني حقاً؟!
وجاؤه صوتها المُتألم العاتب:
_حتى وأنت تتخلى عني ببساطة لم أكرهك، حتى وأنت تُطلقني بعد نصف ساعة من الزفاف لم أكرهــــ....
قاطعها بعشق، دامع العينين:
_أُحـبِّـك رهف!
اتسعت عيناها بصدمة؛
ارتجفت شفتاها بتأثر؛
وارتعش قلبها بجنون؛
أخيراً؟!
أخيراً سمعتها منه؟!
بينما تابع هو بصوت مبحوح:
_أُحِبِّك منذ رأيتك بالمرة الأولى، أُحِبِّك وتمنيتك حينها بكل ذرة بكياني، أُحِبِّك برغم كل الأثقال التي تعلو ظهري وتُقَيِّد قلبي، أُحِبِّك ولم أحب سواكِ أبداً ولن أفعل، أُحِبِّك وأموت الآن لأنني لا أستطيع ضمك بين ذراعيّ، أموت كي أشعر بكِ بين أحضاني، أموت الآن وأريدك زوجتي ثانية بجنون!
صمت تام..
وأنفاس ثائرة؛
عشق جارف..
وعتاب صارخ؛
ليتابع بخفوت مُتألم دامع:
_كلما تذكرت أنكِ كنتِ فعلاً زوجتي وأنا من انتزعت ذلك الحق مني أتمنى لو استطعت قتل نفسي!
وبهمس توسلته:
_ابتعد!
وبهمس مماثل رفض:
_لم يعد بإمكاني!
وبهمس آخر سألته:
_ماذا تريد مني الآن؟
وبتوسل أجاب:
_تزوجيني رهف!
حدَّقت به بذهول فتابع مُسرعاً:
_تزوجيني وانتقمي مني كما تشائين، فقط عودي زوجتي رهف، أعيدي لي حقي بكِ!
والرفض علا ملامحها التي يتنازعها الألم والعتاب والتوسل فرددت بخفوت:
_مستحيل! مستحيل ساري، لم أسامحك، ولا أثق بك، أنا لا أثق بك على الإطلاق!
وانسلَّت من هالة جذبه لتفتح الباب وتُهروِل إلى الخارج..
بينما ظل هو مكانه مُغمِضاً عينيه بعذاب للحظات ثم انطلق غاضباً!
**********
عادت من العمل والسعادة تنتشر على محياها، فبالرغم من عودة المهندس ساري إلى مقاعد الدراسة في ذلك العُمر والشجار الذي توقعته بينها وبين رهف لسماحها له بالدخول إلا أنها لم تفعل، فقد اكتفت بالانصراف والألم يبدو على وجهها ثم تبعها هو والعذاب يتسيَّد ملامحه، زفرت بضيق وهي تتساءل بداخلها:
"لماذا يؤلم الحب البعض؟"
وعلى ذِكر الحب فما إن دلفت وأغلقت الباب ثم التفتت حتى وجدته أمامها واقفاً متأهباً، فرفعت رأسها إلى الأعلى قليلاً كي تنظر إليه باستفهام..
"طويل القامة حقاً!"
_شرفتِ أخيراً آنسة سما!
"قليل الذوق فعلاً!"
_ألا تستطيعين إخبار أمي أنكِ ستتأخرين حتى لا تنتظر عودتك بقلق؟
"عديم الإتيكيت جداً!"
بعصبيته غير المبررة والغيظ ينضح من وجهه يُناظرها، رمقته بابتسامة رسمية اكتسبتها خلال عملها السابق وهي ترد:
_عُذراً! لقد كان يومي الأول بالعمل حافلاً، سأعتذر أنا لأمي.
وتخطته فأوقفها بعصبية:
_انتظري!
توقفت مكانها فاتجه إليها يواجهها:
_أين هو مكان عملك الجديد؟
اتسعت ابتسامتها وهي تجيبه بشماتة لم تحاول إخفائها:
_تستطيع سؤال صديقك عن العنوان، فقد شرَّفنا اليوم بالزيارة، وأرجو أن تُخبره أن يتهيأ جيداً للاختبار الشفوي القادم، وإلا ستُحرِجه المُعلِّمة أمام الطلاب الذين يصغُرونه بعشرة أعوام على الأقل!
عقد حاجبيه بدهشة يسألها:
_صديقي؟!
لترد بابتسامة مستفزة:
_نعم! المُهندس ساري، يستحق الاحترام فعلاً، لقد بدأ بالاستذكار بهذا السن، فأنا أعمل بمكتب الترجمة الذي تديره زوجته السابقة، واليوم قد حضر الدورة التدريبية، ألم يُخبرك؟
ثم تابعت ببؤس مُفتعل تستغل علامات الذهول على وجهه:
_شيء غريب، ألست أنت من تساعده في التخطيط والتدبير؟! ماذا حدث يا تُرى كي يستغنى عن خدماتك التحقيقية؟
ضغط أسنانه بغيظ هاتفاً:
_سما!
فانقلبت ملامحها وهي تبادله هتاف مماثل:
_عاصم!
وقبل أن يرد سألته بهدوء عاد
حزيناً؛
مُتحسراً،
خائب الأمل!
_ماذا تريد عاصم؟
وقبل أن يفكر سألها:
_لماذا أنتِ غاضبة مني سما؟ أنا لا أحب غضبك مني!
وبينما اعتلتها لمحة دهشة كان هو يغرق في بحورٍ منها، هو بالفعل لا يحب غضبها منه، هو بالفعل منذ آخر لقاء بينهما وقد أصبح نزِقاً بسبب خصامها له وهجرها إياه، هو بالفعل منذ الصباح لم يستطع التركيز بالعمل بسبب....
صاح فجأة بغضب:
_وما قصة "المشاعر الجميلة المُتبادلة" تلك؟
حدَّقت به لوهلة لا تفهم قصده ثم تذكَّرت رغبتها صباحاً في التلميح ببساطة استبداله بعد أن يتركها، فكتفت ذراعيها وتحدثت ببرود:
_إنها نوع من المشاعر ينشأ بين اثنين ويجعل حياتهما سعيدة، وأنا سأحصل عليه يوماً.
ازداد الغضب على وجهه وهو يسألها:
_أليس بيننا أي نوع من المشاعر الجميلة؟
فغرت فاهها دهشة وهي تهتف به:
_أي مشاعر جميلة يا رجل؟! أنا لم أقتلك حتى اليوم كي لا أقضي فترة شبابي بالسجن، وأنت لم تفعل المثل معي لنفس السبب!
أحنى أصابع كفيه العشر في وضع استعداد لهبش وجهها وهو يهتف من بين أسنانه:
_أعتقد أنني قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من فعلها ، أو سأقطع لسانك على أقل تقدير، أو سأثقب عينيك كما يفعلون بأفلام الرعب، ما رأيك إذن في تلك المشاعر الجميلة سما؟
والسؤال الأخير كان بابتسامة مُتحدية فمنحته مثلها وهي تجيب:
_هي متبادلة عاصم!
"هل عُدتِ يا سما؟"
والصوت الضعيف انطلق من خلف جسده الذي يمنع الرؤية عنها فانشرحت ملامحها فوراً وهي تتخطاه إلى أمه تحتضنها وتُقبِّل رأسها وتقُص عليها تفاصيل يومها الأول بالعمل، بينما التفت هو يتابعها بتدقيق وهو يتجاهل_مُتعمِّداً_ دقات قلبه الذي يحاول إزاحة الغشاوة المُجبر عليها من صاحبه، أيُعقل أنه_رغم كل احتياطاته_ قد وقع فعلاً بالفخ؟!
**********
بددت ضحكات مَوَدَّة بعض القلق الذي انتابها منذ التهديد الذي تلقته مع زوجها من أبيه، فودت لو تشكر رهف الغاضبة أو ربما ذلك الطالب المجتهد!
_أتضحكين مَوَدَّة؟! لقد كانت أول مُحاضرة وقد جاء ليُفسدها بمكره وتصنعه الغباء وأسئلته اللامتناهية وصوته المُتلاعب وتحديقه المستمر و...
بترت رهف عبارتها فاستحثتها مَوَدَّة بمكر:
_وماذا أيضاً رهف؟
وبصوت ضعيف ردت:
_لقد اعترف بحبي!
صمتت قليلاً تتشبع بمعنى عبارتها ثم أردفت:
_بعد كل ما حدث اعترف بحبي، اعترف أنه أحبني منذ المرة الأولى كما فعلت أنا، اعترف بأنه لا يطيق الابتعاد، اعترف بأنه نادم وبأنه يريد الزواج بي ثانية.
سألتها مَوَدَّة بهدوء:
_وماذا قلتِ؟
هزت رهف رأسها نفياً دامعة العينين:
_قلت لا، لن أتزوجه.
وبنفس الهدوء سألتها مَوَدَّة:
_حقاً؟! ألن تفعلي؟!
سقطت رهف على الفراش وردت يائسة:
_لا أعلم مَوَدَّة، لا أعلم وقد عاد الضياع يتملَّكني بسبب عودته.
ثم تابعت بملامح غاضبة:
_أرغب في سبُّه، في لكمُه، في ركلُه، في خنقُه.
وبيأس أشد تابعت:
_أرغب في التربيت عليه، في احتضانُه، في التمتع بكل العشق المُنبثق من عينيه!
صاحت فجأة وهي تهُب واقفة:
_أريد أن أشفي غليلي مَوَدَّة، أريد أن أُهدِّىء غضبي ولا أجد طريقة، لكنني متأكدة أنني إن استسلمت له بدون أن أسترد كرامتي سأكره نفسي.
اتسعت ابتسامة ماكرة على شفتي مَوَدَّة وهي ترد بهدوء مُثير للقلق:
_ربما هناك طريقة، لا أضمن عواقبها، لكن.. لا بأس بأن نتسلَّى قليلاً عندما تحترق دماؤه!
**********
"أخاف العيون التي تستطيع اختراق ضفافي فقد تُبصر القلب حافي، أخاف اعترافي"
محمود درويش
حدَّقت سارة في الرسالة النصية بدهشة لعدة لحظات وهي تحاول استيعاب اسم المُرسل، لينتابها خجل مشوب بـ.. غضب!
وكان ردها النصِّي أيضاً بعد لحظات:
"دكتور حمزة أنا بدأت أشعر بوجود تلميحات غير مُريحة، إذا أنا_وبدون قصد_ قد أوصلت إليك أي أفكار غير واضحة فأنا أعتذر عن سوء الفَهم!"
اتسعت عيناه بدهشة وهو يُعيد قراءة ردها عدة مرات، بدأ بالكتابة ثم محا ما كتب..
عاد ليكتب ثم محا..
عاد ليكتب ثم محا ثم اتصل!
تجاهلت الرنين للحظات وهي تحاول السيطرة على دقات قلبها لكنها في النهاية خضعت، وبنبرة صارمة رَدَّت:
_نعم دكتور حمزة؟
_هل أنتِ مرتبطة؟
وأجفلت بدهشة وتوردت وجنتاها ؛
وانتظر الرد بلهفة شديدة؛
فجاؤه ليس كما أراد:
_ألا ترى أن هذا السؤال شخصي قليلاً؟!
ليرد مُسرعاً:
_أعلم، لكني أريد إجابة حالاً.
وطبعها الناري عاد ليفرض نفسه بقوة وهي تهتف:
_آسفة دكتور حمزة، أحب الاحتفاظ بما يخصني لنفــ....
_أنا كنت مُتزوج!
شهقة مصدومة، وتوقف عن الكلام، وشعور بالــ..ضيق!
ليتابع هو:
_كنت متزوجاً لمدة ثلاثة سنوات من ابنة خال رهف.
والضيق يتملكها أكثر لكنه هرِب فجأة ليحل محله ذهول وهي تسأله:
_لحظة! هل قلت ابنة خال رهف؟! أنت لا تعني تلك الشريرة العقر...
بترت عبارتها بِندم متأخراً، والصمت المشوب بالحرج منه جاء كإجابة واضحة بالإيجاب، لتهمس رغماً عنها:
_أعتذر، لكن.. يا إلهي! لم أستطع تحملها نصف ساعة فقط، وأنت عِشت معها ثلاثة سنوات!
ثم استدركت باندفاع:
_ألازلت تُحبُها؟
فأجابها بسرعة:
_لم أحبها يوماً.
ثم تابع:
_ولا هي أحبتني.
فسألته بفضول شديد:
_لماذا تزوجتما إذن؟
ليأتيها الرد بصوت هادىء:
_كانت جارتي، ومناسبة لي، وألح عليَّ والدي من أجل الاستقرار، وهكذا وجدت نفسي أطلب الزواج منها، استمرت الخطبة لبضعة أشهر كانت كفيلة بتحذيري، لكنني كالأعمى أكملت الطريق لآخره.
سألته تلقائياً بفضول:
_لكن هل لو كانت هناك فرصة ثانية لعودتكما معاً، ستتمسك بها أم تــ......
ليقاطعها بضحكة رائقة:
_مُحال!، هي أيضاً لا تُطيقني، ذلك الزواج كان بمثابة كارثة على جميع الجهات، بالإضافة إلى أنني علمت أنها تزوجت.
فسألته بتدقيق:
_وبِمَ شعرت؟
ليجيبها بسؤال آخر:
_في أي شيء؟
لتوضح بنزق:
_عندما علمت بزواجها!
زفر بعمق وهو يجيبها:
_لا شيء، لا شيء على الإطلاق، لم أفرح، لم أحزن، أُشفِق على الضحية الجديدة فقط.
وسؤال أيضاً لا إرادي:
_ألم تشعر بالغيرة؟
وقبل أن يُجيب أردفت:
_ساري سيُجن منذ الأمس لأن خالد هذا قريب مَوَدَّة غازل رهف بمُجاملة عادية من وجهة نظره، ألم تشعر بالمثل وأنت تعلم بزواجها من آخر؟
صمت دام لِثوانِ ثم إجابة غريبة:
_الغيرة نوعان سارة: الأولى وهي الغيرة الطبيعية التي يشعر بها الرجل على زوجته من كانت هي، والأخرى مُتعلَّقة بالقلب، تُشعل النيران وتُطلق الغضب، وأنا كنت أغار عليها عندما كانت زوجتي، شيء طبيعي لأي رجل، أما عندما علمت بزواجها لم تتحرك بي أية مشاعر من ذلك النوع.
ثم صمت فانتظرت ليتابع بنبرة جعلت دقات قلبها تتسارع:
_لكن بالنسبة للغيرة الأخرى فقد شعرت بها للمرة الأولى بالأمس ، وبسبب خالد هذا أيضاً!
تظاهرت بالغباء وهي تفهم ما خلف عبارته من معانِ مُبطنة، ليستأنف هو متسائلاً:
_فهل أنتِ مُرتبطة؟
ووصلت الإجابة أخيراً:
_لا!
ليُربكها بسؤال غريب:
_إذن ما رأيك باختراق ضفافي؟!
والفَهم حلَّ عليها فجأة؛
فتوترت واضطربت وكالعادة...
تهرَّبت!
_تصبح على خير دكتور حمزة.
وبسرعة أغلقت!
ليتنهَّد هو بحرارة مُغمض العينين هامساً لنفسه:
_مُبارك عليك الورطة الجميلة حمزة!
**********
"أنا لا يعجبني ما تنويان على فعله!"
نظرت مَوَدَّة لعَمَّار الذي يقف متحفزاً لها فسألته بدهشة:
_وما الذي ننوي على فعله؟
اقترب منها هاتفاً بحنق:
_أنتِ تُشجعيها على مسامحته والعودة إليه، أتعتقدين أنني لا أفهم؟
ابتسمت مَوَدَّة بدهشة وهي تسأله:
_هل تعتقد أن رهف لن تعود إلى ساري يا عَمَّار؟
انعقد حاجباه بغضب فأضافت:
_أنت تحب أختك كثيراً وتخاف عليها وتريد تعويضها ، أعلم كل ذلك جيداً، لكنك لا تدرك شعور امرأة تتعذب بحبها وهي تعلم أن حبيبها يبادلها مشاعرها وعذابها، فلا تُطلق أحكامك بعشوائية!
همِّ بالتحدث عندما تابعت بهدوء أغاظه:
_هل فكرت يوماً بوضع نفسك مكانه؟ هل فكرت يوماً ماذا ستكون ردة فعلك إن تعرضت لنفس الحوادث البشعة التي قضت على سلامته النفسية في وقت مبكر؟
صمتت تترك له فرصة للتفكير ثم تابعت ثانية بشجن:
_لقد ثُرت فقط عندما فقدت حبيبتك السابقة، ثم أقمت الدنيا وأقعدتها عندما اكتشفت وجود أخت لك ولم تتوقف إلا عندما أصبحت معك.
صمتت فشاب نظراته القلق بينما تابعت هي بإشفاق واضح:
_أخبرني إذن بمدى غضبك ورغبتك في الانتقام عندما تفقد ثلاثة من أسرتك إلى الأبد أمام عينيك وأنت مجرد صبي عاجز ليتم اختطافك بعدها وتُعَّذب بقسوة، هل سيظل حُكمك على الأمور بمنتهى الشفافية عَمَّار، هل ستتمسك بالعقل؟ هل ستتحرَّى العدل؟
انعقد لسانه داخل حلقه فتابعت دامعة:
_هل تلوم رهف على تفكيرها بمسامحته بعد خمسة أشهر فقط من غدره بها رغم توسلاته وعذابه الذي لا يحاول إخفائه عن أحد؟ وهل فكرت أن تلُمني يوماً عندما سامحتك بعد أكثر من سبعة سنوات من الإهمال والتجاهل والهجر والبرود؟
اقترب منها مُردداً بخفوت:
_مَوَدَّة أنا..
فقاطعته بابتسامة مُتألمة:
_أنا لم أنس يوماً عَمَّار عذاب انتظاري لك، لكنني سامحت، لأنني أعلم الآن أنك تحبني، كنت أستطيع الثورة لكرامتي وأنهي زواجنا للأبد، لكنني لم أفعل لأنني أحبك.
صمتت قليلاً تحاول السيطرة على دمعاتها ثم استدركت:
_ أنا لا أقارن بين ما فعله ساري برهف بما فعلته أنت بي، لكن الحب واحد والجرح واحد عَمَّار.
حاول اجتذابها لأحضانه هاتفاً باعتذار لكنها ابتعدت مُسرِعة وهي تقول:
_سأنام الليلة بغرفة رهف، تصبح على خير!
تركته بسرعة قبل أن تغرق في نوبة ألم لم تنسه يوماً وربما لن تفعل أبداً.
أما هو فقد جذب شعره بغضب هاتفاً:
"لازلت بطىء الفهم عَمَّار!"
**********
استيقظت من نومها على إزعاج الرنين المتواصل لهاتفها فردت بصوت ناعس:
_مرحباً!
لتنتفض جالسة مرة واحدة عندما رد الطرف الآخر بهدوء:
_لقد أخلفتِ موعدنا سيدة دينا، ثم تصرفتِ بدناءة وأزعجتِني حقَّاً، تستحقين عقاباً سريعاً إذن!
وانتهت المكالمة بسرعة كما بدأت لتظل هي بفراشها مذعورة!
**********
"هل فهمتِ كيف تستطيعين جذب العميل إلى الخدمة التي تُقدمينها له دون أن تبدي لحوحة؟!"
أومأت سما برأسها سريعاً وهي تُحدق بتركيز في العرض التوضيحي الذي يُقدمه لها خالد على شاشة الحاسب الآلي، وهو الذي تعرَّفت عليه ذلك الصباح كابن عم لمَوَدَّة والذي لديه خبرة هائلة وأساليب متطورة متعلقة بمجال دراستها وعملها، بدا كريماً معها للغاية وهو يحاول إكسابها بعضاً منها..
وعلى بُعد خطوات جلست مَوَدَّة شاردة في أحد أركان صالة الاستقبال، تشعر بالضيق ولا تود البقاء بمفردها، لكن رهف انتزعتها من شرودها وهي تسألها بإشفاق:
_ألن تُخبريني ماذا فعل أخي ليجعلك على تلك الحالة منذ الأمس؟ أستطيع التدخُّل والشجار معه لأجلِك!
ابتسمت مَوَدَّة بتعب ثم تحدثت:
_خلاف عادي رهف، سيُحل إن شاء الله.
مسدت رهف على كفها هامسة:
_إن شاء الله حبيبتي، لا تحزني هكذا!
ثم نظرت إلى حيث سما وخالد يتناقشان بجدية قائلة:
_يبدو أن ابن عمك بالفعل ماهراً في أمور التسويق تلك.
علَّقت مَوَدَّة:
_جداً، حتى إن أبي يستشيره أيضاً بعمله، لكن خالد مشكوراً عرض خدماته عليَّ بما أننا لازلنا في البداية، عسى أن يُصبح للمكتب شُهرة بسبب....
بترت عبارتها وهي تحدق_مع رهف_ بالرجل الذي دلف لتوه من الخارج ويقف بهدوء مُحدقاً في سما وخالد غير المنتبهين إليه وعلى وجهه...
ابتسامة مُخيفة!
_أين رأيت ذلك الرجل من قبل؟
ألقت مَوَدَّة السؤال باستغراب لتُجيبها رهف بدهشة:
_إنه صديق ساري!
ثم هبَّت واقفة مستدركة:
_يا إلهي! إنه خطيب سما!
............
"هل أنا أقاطع حواراً شيقاً ما؟"
ظل ضخم حط من خلف مكتب سما فرفعت رأسها لتراه أمامها، ثم ما لبثت أن ضيقت عينيها بتساؤل:
_عاصم؟! ماذا تفعل هنا؟
وتجاهلها تماماً وهو ينظر إلى خالد بنفس الابتسامة البلهاء ويمد يده مصافحاً:
_جئت أتعرَّف على مكان عملك الجديد.
صمت متعمداً ثم أضاف بتشديد بينما نظراته لاتزال مُثبتة على خالد:
_يا خطيبتي!
ابتسم خالد بدهشة مُتسائلاً:
_هل أنتِ مخطوبة سما؟! أنتم غريبون هنا حقاً! رهف متزوجة ولا ترتدي حلقة، وأنتِ سما مخطوبة ولا ترتدي حلقة بدورك، ما السبب؟!
ليأتيه الرد من عاصم الذي لايزال يتمسك بكفه مبتسماً:
_نحن بُخَلاء!
ضحك خالد باستمتاع وحاول سحب كفه فلم يستطع بينما تابع عاصم يتحدث من بين أسنانه بالرغم من ابتسامته التي بدت مُريبة حقاً:
_أنا لم أتعرَّف إليك حتى الآن!
أجابه خالد سريعاً:
_أنا خالد ابن عم مَوَدَّة، وأقوم بتدريب سما.
"كنت مُحقاً ساري! جيد أنني عُدت للجاسوسية إذن!"
حمحم عاصم محاولاً إخفاء حنقه وهو يُعلِّق:
_وعلام تُدرِّب "الآنسة سما خطيبتي" يا أستاذ خالد؟
انمحت ابتسامة خالد بالتدريج وهو يحاول بقوة سحب كفه مُجيباً:
_على التسويق.
ثم أضاف بصوت خافت:
_أنت تؤلم يدي!
تدخلَت رهف بسرعة هاتفة:
_كيف حالك مهندس عاصم؟ سما بدأت بالعمل معنا والأستاذ خالد عاد لتــ...
قاطعها عاصم بابتسامته التي أصبحت مُخيفة لِيُتِم عبارتها:
_عاد لتوه من الخارج، لقد تأكدت من ذلك بنفسي!
وأخيراً نجح خالد في جذب يده من عاصم بصعوبة، لكنه ما لبث أن تحدث بتلقائية مُجاملة:
_خطيبتك رائعة مهندس عاصم!
وضعت مَوَدَّة يدها فوق رأسها بيأس بينما شهقت رهف بصدمة، أما سما فقد شعرت بالقلق وهي ترى تدلَّي فك عاصم السفلي بذهول وهو يسأله:
_خطيبتي رائعة؟!!
نظر خالد إلى أربعتهم بتوجُس وهو يؤكد:
_نعم رائعة جداً!
هتفت رهف باستدراك وهي تقف حائلاً بينهما:
_يقصد أنها تتعلم بسرعة، ذهنها هو الرائع مهندس عاصم!
والنظرة القاتلة على وجه عاصم لم ترتحل وهو يُحدِّق في خالد الذي ابتعد قليلاً مستشعراً حلول الخطر في الجو..
أما سما فقد تراقص قلبها وهي تُدرك ما يحدث؛
يغار!
عاصم يغار!
حبيبها الغبي يغار!
_خالد! أشكرك جداً على ما فعلته، أنا متأكدة أن سما استوعبت كل نصائحك، لا نريد أن نُعطلك أكثر!
هتفت بها مَوَدَّة فأومأ خالد برأسه بسرعة وانطلق إلى الخارج تتبعه نظرات عاصم المُتوعِّدة.
وعندما اختفى التفت عاصم إلى سما المبتسمة بهيام هاتفاً بذهول:
_رائعة؟!
ارتخت ملامحها بقلق فصاحت بها رهف بحزم مُفتعل:
_سما! لو سمحتِ كفى هدراً للوقت، اذهبي الآن إلى القاعة الأولى وقومي بتشغيل الجهاز المرئي.
التقطت سما الفرصة شاكرة وهرولت سريعاً إلى الداخل، بينما وقف عاصم مكانه للحظات يكاد أن يُحطم أسنانه غيظاً ثم انصرف.
...
وفي سيارته قام بمهاتفة صديقه، وبمجرد أن رَدَّ صاح به:
_لقد كنت على حق يا ساري، هذا السخيف الذي يُدعى خالد ربما نيته ليست بريئة بالفعل، لقد أصبح عدواً لي شخصياً!
وفي غرفة مكتبه هب ساري واقفاً، وبغضب صاح بدوره:
_لقد أخبرتك ولم تصدقني يا عاصم، إن أنت علمت بوجوده في مكتبها مرة أخرى احتجزه هناك ثم أغلق بوابة البناية وأخبرني!
**********
أنهت المكالمة مع أمها تشعر بضيق أكبر، فقد هاتفتها طالبة لنصيحتها بعدما تعقدت الأمور معها بهذا الشكل، واعترفت لها أنها هي من سرقت العقد من خزانتها كي لا تضعف أمها وتعطيه لشديد خوفاً منه، وهو الفرصة الوحيدة التي تضمن عدم تعرضه إليهما، وحتى عندما أخبرتها بالتهديدات الهاتفية من ابنه الآن ظلت أمها تصرخ بها بأنها كذبت عليها وخانتها شخصياً ويجب عليها حل أمورها وحدها....
انتفضت من أفكارها على اندفاع زوجها إلى داخل الغرفة، لتشعر بخوف مشوَّب بالدهشة بسبب مظهره الهائج وعودته مُبكراً، واتجهت إليه تسأله بِقلق:
_ما بك تامر؟ لماذا أتيت في هذا الوقت الــ....
وقاطعها بـ..ـ
صفعة!
صفعة أحرقت وجنتها، وسببت لها طنين بأذنها، وأشعرتها بألم هائل بعظام فكّها..
فتراجعت للخلف بذعر وهي تسأل بصوت متقطع:
_ما.. ما الذي تـــ.....
ليقاطعها مرة أخرى بجذبها من ذراعيها وهو يهتف بها:
_ما علاقتك بشديد الناجي؟ ولماذا كنتِ ببيته بالأمس؟
*****نهاية الفصل الثالث عشر*****
ماتنسوش الڤوت 🌹🌹🌹

سَكَن رُوحِي (مُكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن