بعد مرور أربعة أشهر:
ظل إياد يقفز فوق فراشها وهو يصيح منادياً إياها فهبّت جالسة تهتف به:
_كُف عن القفز إياد! لقد استيقظت بالفعل.
ارتمى الطفل بجسده عليها ضاحكاً باستمتاع فضمته إلى صدرها بقوة وهو يصيح:
_صباح الخير عمتي.
لثمته على رأسه بحنان قائلة:
_صباح النور حبيب قلب عمّتك.
ابتعد الطفل مسرعاً والحماس يشع من خلجاته كلها هاتفاً:
_لديّ مفاجأة لكِ، لن تتوقعينها أبداً!
اتسعت عيناها بقلق مُفتعل قبل أن تتوسله:
_أرجو ألا تكون إحدى مكائدك التي ستجعل والدتك تطرد كلينا من البيت حتماً تلك المرة!
ارتفعت ضحكات الطفل المستمتعة فضمته مرة أخرى بحنان شاردة...
لقد كانت تنأى عن القرب منه منذ أن عرفت أنه ابن أخيها، لم تكن لتتقبل أي ما يربطها به، لكنها ومنذ أن تذوقت شعور الاحتضان والأمان الذي أغدق به عَمَّار عليها وكل شيء بحياتها تغير..
أصبحت تنتظر قُبلة عَمَّار على جبهتها قبل ذهابه إلى العمل، ومثيلتها عند عودته، مِزاحهم على مائدة الطعام، وتجمعهم كل مساء حيث تتنافس مع إياد على إحدى الألعاب الإليكترونية على شاشة التلفاز الضخمة فيفوز إياد عليها كل مرة، ثم مكائدها معه فيتنصّل منهما عَمَّار هارباً لتحتار مَوَدَّة في تحديد هوية الجاني!
مَوَدَّة؟!
اسم على مسمى هي، شقيقة لم تحلم يوماً بامتلاك مثلها، وأحياناً أم، أم تهتم بطعامها وملبسها وراحتها وتُدللها حد الاختناق.
تتذكر جيداً شجارها الأول والأخير معها منذ ثلاثة شهور ونصف عندما عرض عليها عَمَّار فكرة إدارة مكتباً للترجمة تساعدها به مَوَدَّة لكنها رفضت متجهة بكل انقياد نحو فُوهة اكتئاب مظلمة، عندئذٍ اتخذ عَمَّار جانب التدليل المُفرِط كي لا تبتعد عنه ثانية، لكن مَوَدَّة هي من صاحت بها بحزم:
"أفيقي يا فتاة، لم ينتهِ العالم!"
"لن تظلي مكانك ساكنة للطعنات ، يجب أن تضعي حداً لهم جميعاً!"
"إن كنتِ تريدين الشفقة على ذاتك فاغرقي بها كما شئتِ، لكنك ستندمين حينما تكتشفين ضياع عمرك بلا جدوى."
"أنتِ لستِ ضعيفة رهف، أنتِ قضيتِ سنوات وحدك، الآن أنا معك، عَمَّار معك، لن نتركك أبداً، انتهزي فرصتك واجتذبي حقك من الجميع رغماً عنهم!"
وهكذا وجدت نفسها في اليوم التالي تتجه مع مَوَدَّة وعَمَّار لتتفحص إحدى الشقق الفاخرة التي سيبدأ عَمَّار بتأثيثها كمكتباً للترجمة مُستعيناً بخبرتها اللغوية وبخبرة مَوَدَّة في إدارة الأعمال..
وقفت تتأمل الجدران والأركان بينما يطالعها الاثنان بفضول وحماس، ورغماً عنها سألت بدهشة:
_لِمَ كل الطلاء باللون الأزرق عَمَّار؟! ألم تفكر في طلاء بعضهم بأي لون آخر؟!
ثم سكتت مفكرة قليلاً وقالت فجأة:
_لا أدري، ربما الرمادي مثلاً؟
وقفزة عَمَّار المجفلة تزامنت مع ضحكة مَوَدَّة العالية التي بترتها فوراً حينما لمحت التهديد بعينيه، وبينما رهف تنقل نظراتها بينهما بفضول بادرتها مَوَدَّة:
_نصيحتي لكِ رهف، لا تأتي على ذكر اللون الرمادي أمام أخيك لأنه يعاني بعض الحساسية الزائدة منه!
فترد رهف بنفس الدهشة:
_وما علاقة ذلك بتفاصيل حياته الزرقاء كلها؟! ملابس زرقاء، سيارة زرقاء، حتى ابنك المسكين ألعابه كلها زرقاء، أشعر أننا نعيش داخل غواصة أو ما شابه!
هنا أسرع عَمَّار ينفي اتهاماً لم تقصده رهف مطلقاً:
_أنا أبداً لم أجبره على اختيار أيا من ألعابه، هو من يحب اللون مثلي..
احتل القلق عينيه ثم استدرك عازماً:
_ لكن أنتِ مُحقة، ربما يجب أن أحذر من إرغامي له على أي شيء.
نظرت رهف لمَوَدَّة بتساؤل فأشارت لها الأخيرة بألا تهتم ثم سألتها:
_إذن ما رأيك رهف؟ هل نبدأ بتجهيز ذلك المكان؟ بالطبع بعد أن نُعيد طلائه بشكل لائق؟
هنا تلجلجت رهف وهي تُمسد على ذراعها اليسرى التي بدأت تعود لحركتها:
_أنا.. أنا لا أعرف، ربما تلك الخطوة لازالت مبكرة بعض الشيء، أخشى أن أفسد الأمر.
تململت مَوَدَّة وهي تهتف بحنق:
_يا إلهي! ستُصيبينني بالجلطة يا فتاة!
بينما اقترب منها عَمَّار مُشدداً على ذراعيها بيديه الاثنتين وهو يُحدق بعينيها هاتفاً بهدوء شابته الصرامة:
_لا رهف! أنتِ لن تُفسدي شيئاً، أنا أثق بكِ، وأثق بقدراتك، أنتِ أختى وبالتأكيد هناك تشابه ما بيننا، ربما نستسلم لفترة طويلة لكننا ننهض في النهاية مُثبتين لأنفسنا قبل غيرنا أننا لسنا بذلك الضعف.
تعلَّقت عيناها به باحتياج واضح ليتابع مبتسماً:
_ نحتاج لدافع فقط، دافع يُحركنا إلى استقامة حياتنا.
ثم نظر إلى مَوَدَّة بعشق مُضيفاً:
_وأنا قد وجدت دافعي منذ زمن، أعلم أنني تأخرت كثيراً حتى أدركته، فلا أريدك أن تتأخري ثم تندمي مثلي.
توردت وجنتا مَوَدَّة وهي لا تستطيع إبعاد عينيها عنه، فنقلت رهف أنظارها بينهما بحرج، عندما نظر لها عَمَّار مرة أخرى جاذباً إياها بين أحضانه..
ذلك الحُضن!
الحُضن الذي لم تشبع منه طوال الأيام الفائتة؛
الحُضن الذي يشعرها براحة لم تكن لتتخيل أبداً وجودها؛
الحُضن الذي اكتشفت أنه هو ما كانت تسعى إليه منذ زمن؛
ليس مجرد حُضن أخ..
إنه حُضن أب لم يوجد أبداً بحياتها..
حُضن آمن يقيها كل المساوىء خارجه..
ضمته بحنان مماثل ثم رفعت رأسها مبتسمة وقالت بامتنان:
_شكراً عَمَّار!
وانتزعت نفسها قبل أن تنطلق دمعاتها المتأثرة وهي تنظر لمَوَدَّة التي لازالت متوردة الوجنتين، وابتعدت خطوتين هاتفة بمرح:
_سأتجول بالمكان، وأعتقد أنني سأغير بعض الطلاء فعلاً.
وبنبرة شقية خاطبت عَمَّار غامزة:
_ربما أضيف بعض اللون العسلي!
ابتسم عَمَّار بمكر عندما انطلقت هي إلى الداخل تاركة مَوَدَّة متسعة العينين بحرج وتتظاهر بتأمل بعض الجدران الخالية من أي شيء يستحق التأمل بالفعل!
بينما اقترب هو ووقف خلفها تماماً متسائلاً بخفوت:
_تُرى لِمَ اللون العسلي بالتحديد مَوَدَّتِي؟!
أغمضت عينيها تتشبع بلفظة التملك التي أصبح يناديها بها طوال الوقت، حينما أردف بهمس:
_أنا لم أخبر أحداً أنني أحب ذلك اللون أيضاً.
لازالت محدقة بالجدار ولا تجد رداً ليتابع بنفس الهمس:
_متى ستحين لي الفرصة بالغرق بهما؟
عندئذٍ استدارت لتقع عيناها داخل عينيه تماماً متسائلة بارتباك:
_م..ماذا تعني؟!
وإجابته لم تكن بالكلمات..
إجابته كانت لطالما انتظرتها وانتظرها..
إجابته كانت قُبلة!!
قُبلة لطالما تمنى أن تسمح له بها وخاف من ردة فعلها..
لكن صبره الذي ولّى هارباً لم يدع له فرصة للانتظار أكثر..
وهكذا ..
احتضنها واحتضنته؛
تنفسها وتنفسته؛
غرق بها وغرقت به!
وحينما تراجعت بعد لحظات هَمَس لها:
_يا إلهي! لكم أحبك مَوَدَّة! لكم أتمنى تلك البداية الجديدة معك، هلا وافقتِ؟!
انتشر التورُّد بوجهها وهي تومىء برأسها إيجاباً بلا تركيز ثم ابتعدت بصعوبة حينما سمعت صوت خطوات رهف المقبلة فعادت مرتبكة متخبطة لتحديقها بالجدار الخالي..
وكان ذلك اليوم هو البداية الحقيقية لهما؛
بداية جديدة لحب متوازن بينهما؛
بداية واعدة ماحية ما قبلها من جراح.
..........
خرجت رهف من ذكرياتها بزيارتها لمقر عملها الجديد أول مرة على عبارة إياد المُتحَمسة:
_لا! ليست مكيدة، هناك من ينتظرك بالخارج وقد أرسلتني أمي كي أوقِظك.
عقدت رهف حاجبيها بدهشة متسائلة:
_من ينتظرني؟!
وفي الخارج:
تطلعت إلى فتاة رقيقة الملامح تصغرها بسنوات قليلة و تجلس بجوار مَوَدَّة رامقة إياها بترقب ومبتسمة بارتباك ثم وقفت تتقدم تجاهها قائلة برقة:
_مرحباً رهف، أنا تغريد، أختك الصغرى!
**********
نظرت إليها سما بصمت تام ثم هتفت فجأة بها:
_ولِمَ لا تعاودي الاتصال بها؟ لقد مرت أربعة أشهر يا سارة، كما أنكِ لم ترضِ أبدا عما حدث!
بادلتها سارة النظر باستهجان شديد ثم صاحت بنزق:
_أتمزحين معي سما؟ أنا آخر شخص يمكن له التواصل معها.
هزت سما كتفيها بلا اهتمام:
_ لا أظن ذلك، أنتِ سارة، من ظلمها هو ساري، لستِ أنت، لذا لا أعتقد أنها سترفض التحدث معك، فقبل ما حدث كنتما قد أصبحتما مقربتين خلال فترة قصيرة للغاية.
ردت سارة بضيق :
_لكنني أخته سما، أخته، أخت من ظلمها، كيف سترحب بي ثانية؟
عقدت سما حاجبيها بدهشة وهي تهتف:
_وهل أخبرتك أنها ستطير فرحاً بمقابلتك؟! بالطبع هي لا تطيقك وربما تدعو الله أن ينتقم منكِ ومن كل من ابتسم يوماً في وجه أخيكِ النبيه.
انعقد حاجبا سارة بغيظ وهي تهُم بجذبها من حجابها، لكن سما تابعت بتشديد:
_ وهذا لا يعني أن تتوقفي عن المحاولة، تقصي عن مكان أخيها واذهبي إليها، ربما الأشهر التي مرت قد هدأت من حدة غضبها قليلاً.
بان التردد على سارة حتى هتفت سما بحماس:
_أتعلمين؟! ربما بإمكانك الاستعانة بذلك الطبيب الذي هَشَّم نظاراتك، ألم يكن يقربها؟
ضحكت سارة ثم قالت ساخرة:
_الدكتور حمزة؟! أجزم أنه لو رآني بأي مكان صدفة لقتلني! أنتِ لم تكوني معي عندما ذهبت إليه بعد ما حدث بيومين.
بهدوء سألتها سما:
_وهل تلومينه؟
هزت سارة رأسها رفضاً تجيبها بشرود:
_بالطبع لا.
وقبل أن ترد سما ارتفعت طرقات على الباب ثم دخل عاصم مُحدقاً في أحد الملفات:
_سارة، أريدك أن تقابلي مندوب شركة الـ...
بتر عبارته وهو يرفع رأسه ثم هتف:
_سما! متى جئتِ؟
ردت عليه بابتسامة نادراً ما تهديه إياها:
_لقد وصلت لتوي، كيف حالك عاصم؟
جلس على المقعد المقابل لها مبتسما باستغراب:
_بخير حمداً لله، ماذا تفعلين هنا؟ لِمَ لم تأتي إلى مكتبي؟
هتفت سارة ببرود قبل أن ترد سما:
_هي ليست هنا كخطيبتك، هي هنا كصديقتي، أهناك ما يمنع زيارتها لي؟
نظر لها عاصم بدهشة شديدة ثم رد:
_لماذا أنتِ منزعجة هكذا؟، لقد سألت سؤالاً عادياً.
أهدته نظرة ممتعضة فمنحها المثل مغمغماً:
_أنتِ وأخوكِ أصبحتما لا تُطاقان بالفعل، وأنا أعتبر نفسي أُكفِّر عن ذنوبي كلها بالتعامل معكما.
بدأ الشجار المعتاد بينهما فأخذت سما تتأملهما، أو.. بالأحرى تتأمله!
لا تفهم ما الذي يحدث لها بالتحديد، فعاصم بالنسبة إليها لم يكن أكثر من شخص ظهر بحياتها مؤخراً لينتزع منها أهم شخص لديها وهي ليست باستطاعتها منعه..
لقد اعتادت على معاملته بجفاء ولم تبخل أبداً في إظهار عدائيتها تجاهه، حتى خطبتهما المزيفة كانت تثير أعصابها في البدء، ولكن...
موقفه بعد فعلة صديقه وإحساسه بالذنب واستماعها صدفة لحديثه مع أمه عن معاناة أسرة ساري ومساعدته له تسببوا في تغيير شعورها تجاهه.
هو لم يتعمد المشاركة في ظلم الفتاة؛
لكنه لم يُبدِ تقاعساً في مساعدة صديقه الذي ظُلِم؛
وبالرغم من غضبها الواضح من ساري والذي تُظهره بصراحة فور سماع اسمه من سارة، إلا أن رؤيتها لعاصم نفسه تغيرت تماماً؛
لقد اكتشفت أنه حنون جداً ومهتم جداً بكل من حوله، حتى أنه أحضر أخته الصغيرة معه مرة ورأت كيف يرضخ لطلباتها ويُدللها، كما أنه يخاف على أمه بشدة ويعتني بها، وقد حرِص على اصطحابها لإجراء فحص طبي شامل منذ شهرين، لكن..
لكنها لم تتحدث معه منذ أشهر أكثر من بضعة تحيات عادية، لم يُصادف حضوره لزيارة أمه وجودها إلا مرات تُعَد على أصابع اليد الواحدة، وكأنه.. وكأنه يتعمد الحضور أثناء دوامها بالعمل!
يزعجها هذا الخاطر وترفضه بشدة ولا تعرف السبب ولا تريد أن تعرف مطلقاً!
لكن.. أمن الوارد أنه لا يُحبذ رفقتها؟
وهل يبحث عن فرصة للتخلص منها؟
"لماذا عبستِ؟"
نظرت إلى سارة باستغراب ثم نقلت انظارها إلى عاصم الذي يتفحصها بتدقيق، فهتفت على الفور دون تفكير:
_أريد التحدث معك عاصم!
توترت ملامحه لوهلة ثم انفرجت أساريره فجأة بترحيب ملحوظ وهو يستقيم واقفاً قائلاً ببشاشة:
_انتظريني نصف ساعة فقط مع تلك المُزعجة حتى أُنهي أعمالي ونتحدث كما تشائين.
أومأت برأسها إيجاباً فخرج هو من مكتب سارة التي بادرتها بتدقيق:
_وضعكما غريب ولا يعجبني!
تظاهرت سما بعدم الفهم وهي ترد:
_ماذا تقصدين؟
اندفعت سارة هاتفة:
_أقصد أنكما اضُطررتما إلى التظاهر بالخطبة، لكنها مازالت مستمرة، ليست حقيقية ولا تنتهي، ما هذا العبث؟!
استولى عليها الضيق وظهر قوياً على وجهها وهي تشرد للحظات ثم عَقَّبَت:
_أنتِ مُحقة سارة، إنه مجرد عبث!
**********
أنهى صلاح صلاة الظهر وخرج من المسجد ليبدأ سكان الحي بتهنئته بحرارة، فاليوم زفاف ابنته، وبالرغم من أنها وأمها لا تستطيعان إخفاء فرحتهما، وبالرغم من أن خاطب ابنته يبدو دمث الأخلاق وكلا من وضعيه المادي والاجتماعي ممتازين فإنه يشعر بقلق شديد من أن تفتعل دينا المشكلات معه مثلما فعلت من قبل مع حمزة.
وها هو عندما يفكر به يجده أمامه، اقترب منه ببشاشته المعهودة مصافحاً إياه:
_كيف حالك عمي؟ مُبارك زفاف ابنتك.
سارا جنباً إلى جنب وبنبرة متحسرة لم يستطع إخفائها رد صلاح:
_بارك الله بك يا ولدي، العقبى لك!
عبست ملامح حمزة فوراً وهم بالرد عندما أدرك أنه إن فعل سيتفوه بما لا يليق، فلا يصِح أن يقل له:
"كيف وابنتك جعلتني أكره صنف النساء كله؟"
أو..
"لست مجنوناً كي أكررها فيقع حظي فيمن تماثل ابنتك!"
أو..
"أنا لازلت أستعيد سلامتي النفسية منذ الطلاق ولا أنوي الوقوع في ورطة أخرى!"
لذا فقد آثر الصمت والاكتفاء بابتسامة مجاملة، أتبعها بسؤال عابر:
_كيف حال رهف؟
انمحت نظرة صلاح المتحسرة على الفور لترتسم بدلاً منها أخرى سعيدة فخورة:
_لقد أصبحت تُدير مكتب الترجمة الذي يملكه أخوها، حينما زرتها آخر مرة شعرت أنها تخطت ما حدث تماماً، لقد رأيتها سعيدة ومرتاحة كما لم تكن من قبل على الإطلاق، يبدو أن أخاها وزوجته يعاملانها جيداً.
هز حمزة رأسه موافقاً ثم عقّب:
_لقد عَلِمت ذلك وقد زرت عَمَّار ببيته فعلاً، هو ليس مثل أبيه أبداً.
وعندما وصلا سوياً إلى بناية صلاح حياه مودعاً فرماه صلاح بنظرة متحسرة أخيرة ثم انصرف.
ارتفع رنين هاتف حمزة ليجد اسم زميله فرد مسرعاً:
_أحمد لقد انصرفت لتوي من المشفى، ولم أصل إلى المنزل بعد، ماذا تريد مني؟
وجاؤه صوت صديقه مازحاً:
_اهدأ يا رجل، لن أطلب منك العودة، لكن هناك فتاة كانت هنا الآن وسألت عنك، وأعتقد أنني قد رأيتها معك من قبل.
عقد حمزة حاجبيه بدهشة متسائلاً:
_أية فتاة؟
أجابه صديقة بعد لحظات حاول فيها تذكر اسمها:
_سارة..سارة صبري رشوان!
**********
توتر متبادل وارتباك جليّ، فكرت رهف في افتتاحية للحوار بينهما فلم تجد سوى:
_كيف حالك؟
وتوتر الأخرى زاد أكثر وهي تُشبِّك أصابعها ثم ابتسمت مُجيبة:
_الحمد لله، كيف حالك أنتِ؟
هَزَّت رهف رأسها بابتسامة كانت مفتاحاً للصمت مرة أخرى..
لكن وصول عَمَّار كان نهاية لذلك الوضع، حيث هَبَّت كلتاهما إليه فاحتضنهما مُهللاً:
_ما هذا اليوم الجميل؟! حبيبتاي هنا معي وببيتي؟!
وكزته تغريد في إحدى كتفيه وهي تصيح به حانقة بافتعال:
_أنا أصلا لم آتِ من أجلك وأخاصِمك، لم أعد أرك عَمَّار، لم نتقابل الأسبوع الماضي كله، لذا فأنا لا أتحدث معك.
شعرت رهف بالذنب وهي تُدرك أنها قد قامت بالاستيلاء على حنان عَمَّار وحدها بينما شقيقته الصغرى تفتقده، إلا أنه سرعان ما أولى تغريد اهتمامه كاملاً وهو يعتذر:
_آسف حبيبتي، لقد انشغلت تماماً في افتتاح العيادة خاصتي فلم أستطع رؤيتك طوال الأسبوع، ثم وصل خالد ابن عم مَوَدَّة من السفر فانشغلت باستقباله والتأكد من استقراره، لكنني سأعوضك بنزهة بدلاً من ذلك، هيا اختاري إلى أين تريدين الذهاب؟
قفزت تغريد بلهفة هاتفة:
_مدينة الألعاب!
صرخ إياد مؤيداً عمته:
_نعم أبي، نريد الذهاب إلى مدينة الألعاب!
صاح عَمَّار بأعلى صوته:
_مَوَدَّتي! ما رأيك؟
وصله صياحها المماثل من الداخل:
_موافقة حبيبي!
هنا التفت إلى رهف التي تنقل نظراتها بين ثلاثتهم بابتسامة مندهشة:
_ما رأيك رهف؟
هزت كتفيها بتوتر مُجيبة إياه:
_أنا لا أعلم.. أقصد..
قاطعتها تغريد بضحكة:
_لا تقولي أنكِ تخافين ركوب الألعاب!
عضت رهف على شفتيها بحرج وهَمَّت بالرد حينما خرجت مَوَدَّة من الداخل قائلة برجاء مُفتَعَل:
_هذا هو نوع الخوف الوحيد المسموح لكِ به رهف، أجيبي بنعم كي أجد من تشاركني الاهتمام بالحقائب!
ترك عَمَّار أختيه واتجه إليها مُقبلا وجنتيها بحب هامساً:
_اشتقتُ إليكِ!
وكان ردها الهامس بعينين مبتسمتين:
_وأنا أيضاً!
لكنه التفت على صياح إياد المعترض:
_أهذا يعني أننا لن نذهب إلى مدينة الألعاب؟
وبدلاً من أن يجيب ابنه نظر إلى رهف متسائلاً:
_أتخافين ركوب الألعاب حقاً يا رهف؟
اختلست رهف نظرات مُحرجة إلى إياد وتغريد اللذين ينظران إليها بفضول ثم ردت بصوت خافت:
_أنا لم أقل أنني أخاف، لكنني لا أعرف ذلك الشعور، لم أجرب ركوب واحدة من قبل.
انقض الألم على ملامح عَمَّار فوراً وهو يدرك وجهاً آخر من الحرمان الذي عانته صغيرته بطفولتها؛
كل يوم يكتشف أنها ربما لم تعِش تلك المرحلة يوماً، وحتى عندما كبرت لم تعِش حياة طبيعية، ليس لديها أصدقاء، ليس لديها ذكريات جميلة..
ولم تذهب إلى مدينة الألعاب!
افتعلت مَوَدَّة لهجة تحذيرية ممتعضة وهي تهتف بها:
_استعدي إذن للكثير من الهلع والصراخ وتقطع الأنفاس، وسألتزم أنا صاغرة بالحقائب.
حاولت رهف بِجِدِّيَّة لملمة ابتسامتها المتشوقة فلم تستطع، الحماس يبدو جليّاً على وجهها ربما أكثر من تغريد وإياد نفسهما، إلا أنها ردت بالكلمتين اللتين اعتادتهما ورددتهما مراراً مؤخراً:
_شكرا عَمَّار!
وابتسامته الحنونة ثم قبلته على جبهتها دائماً ما كانا الرد، ثم جذب زوجته هامساً بخبث:
_عن أي حقائب تتحدثين حبيبتي؟ وأنا سأجهز لكِ جولة ببيت الرعب!
شهقت مَوَدَّة وهي ترمقه شزراً لكنه شدَّها مبتعداً إلى الداخل قائلاً:
_ولنبدأ بالتدريب بدءاً من الآن!
لم تنتبه إليهما أختاه، بينما قامت تغريد بالجلوس إلى جوار رهف لِتُرتبا معاً إجراءات النزهة المُقبلة بكل حماس، وجدت الأخيرة نفسها تبادلها إياه بالتدريج.
**********
سارت سما إلى جواره محاولة ترتيب حديثها القادم بذهنها قبل التفوه به، ولأول مرة ينتابها القلق والخوف عِوضاً عن شجاعتها المعتادة، لكنها الآن حينما تختلس النظر إليه تشعر أيضاً بارتباك غريب...
"ما رأيك بالأسماك؟"
نظرت له سما بدهشة حينما ألقى سؤاله وهو يقف أمام سيارته، انتظرت استئنافاً للاستفهام الغريب، فلما لم تجد أجابته بِحَذَر:
_كائنات لطيفة؟!
ضيق عينيه للحظات ثم انفجر ضاحكاً، وعلى الرغم من أن ضحكاته لطالما استفزتها إلا أنها في تلك اللحظة تجدها..مُمتعة!
وعندما انتهى أخيراً نظر لها ببشاشة قائلاً:
_أنا أسألك عن تناول الأسماك على الغداء، ما رأيك؟
نفضت رأسها تنهر شرودها الذي يتزايد في حضوره بدون مبرر ثم ردت:
_لا! شكراً أنا سأتناول الطعام مع أمي.
نظر إليها مدققاً مستغرباً، متسائلاً..
ألا يجب عليه الشعور بالغيرة من مناداتها لأمه هو بذلك اللقب؟!
ألا ينزعج مطلقاً؟!
لا! لا يُفكر بتلك الطريقة..
متأكد هو من حبها الشديد لأمه واهتمامها بها.
كما هو متأكد أيضاً من أنه لو لم تكن سما هي من تقيم مع أمه لم يكن ليتركها بعيدة عنه أبداً، فكلما قرر الضغط على أمه كي تعيش معه وجد نفسه تلقائياً يفكر في سما..
أيتركها وحدها؟
أيأخذ منها أمه.. وأمها؟
لتأتيه الإجابة طواعية بـ.. لا!
_لقد علمت أن أمي ستتناول الغداء مع جارتها، لذا ليس لديكِ حُجة!
قالها ببساطة فنظرت له بارتباك ثم قالت:
_أنا لا أتحجج، أنا فقط لم أعتد تناول الطعام دونها.
حدّق بعينيها متحدثاً بنبرة هادئة:
_اعتادي إذن، ثم إنها المرة الأولى حيث أقوم بدعوتك إلى الطعام، حتى لا تتهمينني بالبُخل.
ابتسمت برقة وهي تجيبه:
_ولكنني لم أتهمك بالبُخل مطلقاً.
اتسعت عيناه بدهشة فسألته متوجسة:
_ماذا حدث؟
لتأتيها إجابته وهو يتفحصها أكثر:
_أتعلمين أنك ابتسمتِ اليوم مرتين؟!
ولما لم تفهم استدرك:
_أنتِ لا تبتسمين مطلقاً سما!
عبست فوراً هاتفة باعتراض:
_وهل هناك إنسان لا يبتسم؟ ربما أنت من كنت تغيظني وتستفزني طوال الوقت فلا أجد فرصة للابتسام.
اقترب مرة أخرى، ومُحدقاً مرة أخرى، وقائلاً بنبرة خافتة:
_وهل اشتقتِ إلى استفزازي أم ماذا؟
توردت وجنتاها وهي تتهرب من عينيه بدون رد فتابع بابتسامة واسعة:
_أوتخجلين أيضاً؟!
هنا رمقته بنزق معترضة:
_ماذا تعني؟! أولست فتاة ومن الطبيعي أن أشعر بالخجل؟!
ليجد نفسه يرد بتلقائية:
_بل أجمل فتاة شهدتها عيناي يوماً!
تعالت نبضات قلبها بطريقة أنذرتها بالخطر، وعندما ازداد توترها وهربت منها الكلمات سألته بحنق:
_هل سنظل هنا؟ أريد أن أعود إلى البيت.
اتسعت ابتسامته وهو يفتح الباب الجانبي لسيارته:
_تفضلي سما، سنتناول طعام الغداء سوياً أولا، وستخبريني بما أردتِ ثم سأعود معِك لأرى أمي.
..........
وبعد أن أنهيا طعامهما جلس منتظراً إياها البدء بالحديث، لكن وجهها الذي ظهر عليه التوتر الشديد أثار انتباهه فبادرها متسائلاً باهتمام:
_ماذا بكِ سما؟ لِمَاذا يبدو عليكِ القلق بهذا الشكل؟
فهتفت به مرة واحدة وكأنها تريد التخلص من عبء ثقيل، أو كأنها تنتظر نتيجة ما بمنتهى التوتر:
_أريد أن أعرف ما هي نهاية وضعنا يا عاصم!
نظر لها بدهشة شديدة ثم سألها:
_أي وضع؟ هل تقصدين أمي؟! أنا اعتقدت أنكِ لا تريدين لها الانتقال معي، لكن إن أردتِ أن...
قاطعته بغضب:
_أمي لن تتركني عاصم، يجب أن تدرك ذلك جيداً!
ظلت دهشته قائمة مختلطة بسعادة غريبة، لكنها لم تلاحظ ذلك وهي تتابع بــــ:
توتر أشد؛
وجنتين متوردتين؛
وخوف واضح!
_كنت أعني.. وضعنا أنا وأنت.. أقصد..
فقاطعها بهدوء:
_تقصدين خطبتنا؟
أومأت برأسها بسرعة إيجاباً وعيناها متعلقتان به فتابع بعد برهة:
_أعلم أن تلك الخطبة طالت، أتريديننا أن ننهيها؟
وذعرها فاجأها، كما فاجأه امتقاع وجهها، وكما فاجأه أيضاً رفضه هو نفسه للعبارة بمجرد أن ألقاها..
لقد فكر كثيراً في إنهاء ذلك الارتباط الصوري بعد أن حقق هدفه بتأكد الجميع منه، لكنه في كل مرة يقرر إنهائه يتراجع؛
كل مرة يحاول التحدث معها لمعرفة رأيها يتخاذل؛
حتى أنه أصبح يتعمد الذهاب إلى أمه أثناء وجودها بالعمل كي لا يضطر لمناقشة ذلك الأمر معها.
والآن هو ينظر إليها وينتظر ردها بقلق شديد، وبعدم رغبة في التفكير باحتمالية انفصالهما..
وهذا ما يثير جنونه!
إنها سما! الفتاة التي منذ أن قابلها تشاجر معها كلما سنحت له الفرصة؛
وهي سما! الفتاة التي تعتني بأمه بمنتهى التفاني والحب والإخلاص؛
هي سما! الفتاة التي هددته بسكين وأظهرت له بكل وضوح أنها لا تطيقه وأنها لن تترك له أمها..أمه!
وهي أيضاً سما! الفتاة التي جعلته يواجه نفسه وصحة موقفه مم فعل صديقه بحبيبته؛
وأخيراً هي سما! الفتاة التي لولاها لما كان الآن ينعم بوجود أمه بحياته في الأصل!
زفر بضيق شديد وهو يدرك الآن أنها لو أجابت بــ نعم، لو طلبت منه الانفصال، لو طلبت منه إنهاء تلك العلاقة الزائفة سيشعر بعدم رضى..
فقط؟!
سيحزن..
فقط؟!
سيشتاق..
فقط؟!
بل سيرفض!!!
"ما رأيك سما؟"
والسؤال خرج منه عصبياً نَزِقَاً، وقبل أن تجيبه أتبعه بسؤال ثانِ لا يعلم لِمَ نَبَتَ بعقله الآن:
_هل كنتِ تحبينه؟
واستطاع بسؤاله اختطافها من حالة التوتر ليجعلها تنظر له بدهشة مُعقِّبة:
_عفوا؟!
ليكرر بنفاد صبر واضح:
_خطيبك السابق، ذلك الــ"كازانوفا"، أكنتِ تحبينه؟
وإجابتها الأولى كانت نظرة مندهشة، وتوتر، فَعُقدة حاجبين، ثم أخيراً نطقت:
_لم أحبه، لم أكرهه، اعتقدت أنه مناسباً ليس أكثر.
والإجابة جعلته رغماً عنه يزفر براحة، ثم يسألها متوجساً:
_ألم تشعري بالاشتياق إليه؟
هزت رأسها رفضاً مُجيبة بهدوء:
_إطلاقاً، حتى عندما اكتشفت تلاعبه بالفتيات تضايقت من أجلهن، لكنني ثُرت من أجل كرامتي فقط.
مال عاصم على الطاولة بينهما متسائلاً بخفوت:
_أتعنين أنه لم يصل إلى قلبك مُطلقاً؟
هزت رأسها نفياً على الفور فَعَلَّق متأملاً إياها:
_كان سيء الحظ إذن!
وتورُّد وجنتيها زاد، وتهرُّب عينيها واضح..
أحقاً تخجلين يا سما؟!
واتسعت ابتسامته وهو يلقي عليها العبارة الأغرب:
_أتعلمين أننا لا نرتدي حلقات حتى الآن؟!
نظرت له باستهجان ثم ردت:
_لقد لاحظت ذلك بالفعل!
ليدقق أكثر بعينيها قائلاً:
_إذن ما رأيك؟
عقدت حاجبيها بدهشة متسائلة:
_في أي شيء؟
بمنتهى البساطة رد:
_نبتاع شبكة تليق بكِ، ونبحث لكِ عن فستان أنيق وحذاء ذي كعب يرتفع لعشرين سنتيمتراً على الأقل، وبِزَّة رسمية تُظهر وسامتي، ثم يعلم الجميع بارتباطنا رسمياً.
نظرت له باستهجان ثم صاحت:
_يا رجل أنا أريد حلا حاسماً لميوعة تلك الخطبة، فتقترح أنت أن تجعلها رسمية؟
نظر إليها بغيظ شديد ثم زفر مستغفراً وَرَدّ:
_يا سما افهمي ما أعني، إذا ارتدينا الحلقات سنكون مخطوبان بالفعل.
هتفت به بحنق:
_لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد فاجأتني حقاً، بِمَ سيفيدنا ذلك إذا كان الوضع بأكمله مُزيف؟
اتسعت عيناه وهو يستشعر مدى غبائها بينما تابعت هي بنفس الحنق:
_إذا نفذنا فكرتك العبقرية سنضطر لإطالة مدة تلك الخطبة الــ......
ليقاطعها صائحاً بغضب:
_أتتزوجينني سما؟!
**********
بكل غضبه وغيظه وشراسته دخل شديد إلى الفيلا صائحاً بأعلى صوته:
"نهال!"
هبطت زوجته الدرجات مسرعة تهتف بقلق:
_ماذا بك يا شديد؟ لِمَ تصرخ بهذا الشكل؟
وقف أمامها والغضب يتقافز على وجهه متابعاً صياحه:
_أين هي ابنتك يا نهال؟ أتعلمين بمكانها الآن؟
نظرت له بقلق ثم أجابته متوترة:
_لقد أخبرتني أنها ستذهب لزيارة عَمَّار.
اتسعت عيناه بصدمة ثم صرخ:
_هذا يعني أن ما أخبرني به الحارس الخاص حقيقي، لقد تركتِ ابنتك تذهب إلى اللقيطة التي يأويها ابنك الغبي في بيته!
حدقت نهال به بغيظ ثم أجابته بتحدي:
_تغريد ذهبت إلى شقيقها يا شديد، وأنا لن أستطيع منعها عن ذلك، أما عن تلك اللقيطة فهي خطأك أنت في الأساس عندما قمت بخيانتي وتزوجت عرفياً لتنتج عنه تلك الثمرة التي خَرَّب ظهورها حياتنا وجعل ابني ينفصل عنا.
احتدت عيناه فتابعت بامتعاض:
_أنت حتى لم تتخلص منها واكتفيت بتهديد خالها فقط، بالضبط كما تركت ذلك الحقير الآخر بالرغم من أنه كان طفلاً ومن السهل التخلص منه حينها!
وها هي قد ضغطت على أكثر ما يثير غضبه منذ أشهر.. وبالتحديد منذ ذلك الزفاف اللعين!
ما إن خرج من تلك القاعة حتى هَمَّ بتدبير حادث لذلك الذي تجاسر على فضحه، لكن نصيحة مساعده له بالتريث هي من جعلته يؤجل عَزْمه؛
ثم قام بالبحث بدوره؛
ليكتشف أن ذلك الطفل الذي دعس وجهه بحذائه وجَلَدُه بِسَوْطه يوماً لم يعد من السهل الإضرار به!
فهو الآن مهندس معروف في مجاله، وما قام به أيضاً بالحفل معروف للجميع...
لِذا فأي مصيبة يتعرض لها ستتجه أصابع الاتهام على الفور إليه شخصياً، حتى وإن كان بريئاً منها!
ويا للسخرية! الآن يتمنى ألا يحدث له مكروه كي لا يُدان هو!
_كان بإمكانك محو تلك الأخطاء جميعها بعدة طرق لكنك لم تفعل، والآن نحن من تم فضحنا بين الناس بسبب خطئين تركتهما ينموان طوال سنوات بدون اقتلاعهما من جذورهما مرة واحدة.
والتقريع الذي صدح به صوت زوجته لاقى صداه بداخله، فهذا هو ما يندم عليه حتى الآن، لو كان انتظر قليلاً بعدما حرره من القبو ثم دَبَّر له أي حادث لِما حدث له كل ذلك، ولِما التهى منذ أشهر في محاولة ترميم فداحات خساراته المتتالية بعد ذلك الحفل!
نظر لها بغيظ مماثل هاتفاً:
_أتعتقدين أنني لم أفكر بتلك الحلول مع كليهما؟ أخبريني إذن ماذا كنتِ ستفعلين إن تخلصت منهما كل في وقته؟ ماذا كنتِ ستفعلين إن تم اكتشاف الأمر؟ هل كان خالها سيصمت؟ هل كانت أمه ستصمت؟ أنا من اكتفيت بتحذيرهما كي لا تهتز تلك المكانة الاجتماعية التي تتنعمين بها، والمظهر العام الذي تلهثين خلفه، بينما ابنك الساذج يعاند مثل الثور ويتمسك بالفتاة وابنتك يبدو أنها ستلحقه، بينما نحن وحدنا من نتعرض للخطر.
توترت ملامح نهال ثم سألته:
_ماذا تقصد؟
صاح شديد بغضب:
_أقصد أنه ومنذ ذلك الزفاف اللعين مصانعي في انهيار، أكثر من تاجر فض اتفاقاته معي، أكثر من معرض أثاث أرسلوا لي اعتذاراتهم على التعامل مع مصانعي، وأخشى أن يأتي اليوم الذي سنشعل فيه النيران بالأخشاب كي نحصل على بعض التدفئة!
اتسعت عيناها بذعر واضح بينما تابع هو بغضب أشد:
_كل ما تعبت به وعملت من أجله طوال سنوات سينهار في شهور قليلة بسبب ابنك الغبي وتلك اللقيطة وذلك الذي عاد إليّ من الماضي على هيئة كارثة محققة!
ثم تابع ساخطاً:
_وبالمناسبة! أخبري ابنك أن يكف عن البحث خلف شهود عقد الزواج العرفي، لأنه لن يجدهم، وهو لم يكف منذ وقعت تلك الفضيحة عن إجراء تحرياته عنهم، فليتوقف عن النبش خلف تلك القصة حتى لا أؤذيه حقاً!
بصوت متحشرج عَقَّبَت :
_إذن ماذا سنفعل يا شديد؟
وإجابته على سؤالها كانت نظرة صامتة حائرة أرعبتها شخصياً!
**********
"أتتزوجينني سما؟!"
نظرت له ببلاهة للحظات فتابع مسرعاً:
_وأقصد بالزواج أن يكون حقيقياً وفعلياً.
ارتفعت دقات قلبها بسرعة ملحوظة بينما ظل هو محدقاً بها..
بتوتر وبارتباك وبقلق؛
بأمنية أخذت تنمو بداخله شيئا فشيئا؛
أن توافق؛
أن تمنحه رضاها؛
أما هي فقد ظلت متسمرة لا تستطيع الإتيان بأية ردة فعل على الإطلاق!
أهناك احتمال أن ما بدأت تشعر به تجاهه يوجد له صدى لديه هو؟!
أيعقل أنه أيضا يفكر بها طوال الوقت مثلما تفعل هي؟!
أيعقل أنه ينظر إليها الآن بعينين تتوسلان الموافقة على طلبه الصادم؟!
وانطلق سؤالها برغبة في معرفة إجابة حقيقية بدون سيطرة منها على لسانها:
_لماذا؟
نظر لها بلا فهم ثم سألها باستغراب:
_لماذا ماذا؟!
فأعادت سؤالها مُوضحاً:
_لماذا تريد الزواج مني أنا يا عاصم؟
اعتلى التوتر ملامحه وهو يدور بعينيه في جميع الأنحاء باحثا عن إجابة غير التي بدأت تظهر على استحياء بداخله، ثم عادت نظراته إليها مبتسماً برسمية قائلا:
_لأنني أريد الاستقرار وأستطيع تولي مسئولية بيت وأسرة.
ثم صمت فظلت صامتة بترقب، ولما لم يتابع حثته بأمل:
_ثم؟
توتر أكثر وهو يشعر وكأنه عاد إلى لجان الامتحانات بإجابات ناقصة، فارتجل سريعاً كي لا تهرب منه الدرجات:
_ثم إنكِ يا سما، فتاة مهذبة وبالرغم من سلاطة لسانك وعنفك معي فأنتِ طيبة، وأصيلة و...
هراء..
هراء...
هراء....
نظرت له بملل وهي تشعر أنها تقرأ أحد الإعلانات الصحفية حول الباحثين عن شريك حياة، فلا ينقصه سوى عبارتين:
"لأنكِ يا سما تُقدسين الحياة الزوجية، ولأنكِ يا سما تشاركين في الأثاث!"
ثم صمت فظلت صامتة بإحباط واضح، ولما لم يتابع حثته بخيبة أمل:
_ثم؟
لم تعد الدرجات العالية مطمحه، يكفيه فقط القبول، فما الذي يستطيع قوله ليمحي تلك النظرة الحزينة على وجهها؟!
وما عثر عليه لسانه _للأسف_ كان الأغبى على الإطلاق:
_إذا تزوجنا يا سما هكذا ستبقين مع أمي إلى الأبد!!
وانمحى الأمل مع خيبته، لتحل مكانه نظرة..
مستسلمة، ساخرة، متحسرة؛
وبتلك الحسرة وقفت ببطء قائلة:
_أشكرك عاصم على نُبل أخلاقك، لكن ليس بمخططاتي أن أتزوج من أجل الاستقرار مع أمي فقط، أو من أجل تحقيق أمنية أخرى فقط، وإذا قررت الزواج سوف أفعلها لأنني أريد الارتباط إلى الأبد بشخص معين يريدني أنا (سما محسن) بنفس القوة.
ثم مالت عليه محدقة بعينيه بألم لم تحاول مداراته متابعة:
_يريد سما سليطة اللسان ضئيلة القامة من أجله ومن أجلها، وليس لأنه وجدها بطريقه صدفة حينما شعر بوجوب استقراره.
ثم رفعت حقيبتها على إحدى كتفيها وهَمَّت بالانصراف فهب واقفا يهتف باضطراب:
_انتظري سما! إلى أين تذهبين؟!
وأولته ظهرها كي لا يرى التماع دموع الخيبة بعينيها وهي تجيب بخفوت:
_إذا أردت أن تذهب إلى أمي فافعل عاصم، أريد التمشية وحدي لبعض الوقت.
ولم تنتظر منه تعليقا، أو رفضا، أو رغبة بالمشاركة؛
فانصرفت وهو مكانه واقفا في إثرها محدقا..
بنفس الاستسلام؛
بنفس الخيبة؛
مع إضافة ندم هائل وشعور قوي بالحيرة والخسارة!!
**********
جلس حول إحدى الطاولات بقاعة الزفاف الفخمة مبتسماً يتظاهر بالفرحة وهو ينقل أنظاره بين زوجته التي لم تتوقف عن إطلاق الزغاريد لدقيقتين متواصلتين وابنته التي تتشبث بعريسها كأنه الهدية الأثمن على الإطلاق!
شرد بعقله في صور زفافها البسيط على حمزة منذ أكثر من ثلاثة سنوات ونصف والحسرة تتمكن منه ولا يستطيع التخلص منها أبدا.
يعلم جيداً أن كل شيء نصيب، لكن حمزة لم يكن له مجرد زوج ابنة، كان الابن الذي حرم نفسه منه بغباء لخوفه من تربية زوجته، صحيح أن علاقته بحمزة لم تنقطع بعد الطلاق ويشوبها الود والاحترام، لكنه لا يستطيع أن يتحدث معه على راحته عن كل ما يؤرقه من زوجته وابنته.
استغفر ربه زافراً بيأس وهو ينتقل بذاكرته إلى ذلك اليوم منذ أربعة أشهر عندما وضعه عَمَّار بقسوة أمام الصورة الحقيقية للمرأتين اللتين تعيشان معه والمفترض أنهما أقرب الناس إليه..
حقودتين؛
غادرتين؛
قاسيتين؛
كيف استطاعتا خيانته طوال تلك السنوات؟، كيف احتفظتا بدليل كان من الممكن أن يحُد من تأثير العار الملاحق لأخته وله ولابنتها من بعدها؟
ولماذا تمكن منهما الشر إلى تلك الدرجة؟
لشهور أخذ يبحث في ذاكرته عن مبرر قوي لفعلتهما الشنعاء فلم يجد..
هل دلل أخته؟
لا لم يفعل!
هل دلل ابنتها؟
لا لم يفعل!
هل أنصف رهف يوما على دينا؟
سخر من نفسه، لم تكن زوجته لتسمح بذلك أبداً..
بالطبع لا لم يفعل!
بل العكس ما كان يحدث طوال الوقت...
لقد كان يعلم بكم المسئوليات المُجحِفة التي تلقيها شروق على عاتق رهف وسكت؛
كان يعلم بأنها تضربها وتحبسها أحيانا وسكت؛
كان يعلم أن المصروف الشخصي لها حينما كانت طفلة بالمدرسة لم تحصل عليه فعلا إلا عدة مرات..
وأيضا سكت؛
ربما هنا يكمن الخطأ!!
لقد ظنِّ أن عن طريق سكوته على ظلمهما لرهف سوف يشعران بالملل أو حتى ببعض الشفقة ففضل عدم التدخل كي لا يزداد حقدهما عليها، لكن ذلك لم يحدث...
والنتيجة؟!
النتيجة أن اليتيمة التي نبذها أبيها ثم أمها اضطرت لتحمُّل طفولة قاسية داخل بيته ثم معاناة خارجه مع كل كل من يعلم بقصتها.
النتيجة أن الفتاة المستسلمة دوماً وثِقَت بإنسان واحد ورغِبت به وهو لم يقم بدوره بطريقة صحيحة ويسأل عنه قبل أن يتخلَّى عنها.
النتيجة أنها طُعنت غدراً من الجميع باستثناء أخيها الذي أرسله الله لها في صورة رحمة إلهية كي تتذوق القليل مما حُرِمت منه طوال حياتها.
الندم يُمزقه والحنين يقتات عليه، لو بيده إعادة الزمن لدافع عنها بكل ما أوتي من قوة ضد الجميع، وأولهم أمها وأبيها.
..........
ودَّت دينا لو وجدت أي طريقة تدعوها بها إلى حفل زفافها، تراها الآن بفستان أنيق بفندق فخم تجلس بجوار عريسها؛
وسيم كما ممثلي الأفلام؛
غني كما تجار الذهب؛
ذو هيبة كما أصحاب النفوذ؛
والحظ أخيراً ابتسم لها!
وسيتم زفافها في أبهى صورة مقارنة بما حدث في زفاف تلك اللقيطة.. وطلاقها!
اقتربت منها أمها تحتضنها وتُقبِّلها وهي تهمس في أذنها:
_أخيراً يا دينا! أخيراً ستعيشين الحياة التي تستحقينها! ستتنعمين في الثراء يا ابنتي، يبدو أن جميع أفراد عائلته من ذوي المراكز العالية، هنيئاً لقد اخترتِ بذكاء تلك المرة!
ابتسمت دينا بسعادة طاغية وهي تخاطبها:
_أكاد أطير من فرط سعادتي أمي، لا أصدق أنني وجدت من أحلم به وأكثر.
نظرت لها أمها بتحذير ثم همست:
_أخفضي صوتك وتدللي قليلاً كي لا يعاملك بغرور.
أومأت دينا بعينيها إيجاباً وهي تتابع تلقي التهاني من المدعوين الذين ينظرون لها على الأغلب بتعالي واستغراب..
العروس جميلة.. العريس وسيم؛
العروس لطيفة.. العريس لبِق؛
العروس ابنة موظف حكومي بسيط.. بينما العريس ابن صاحب عدة معارض سيارات!
نظرات دهِشة، مصمصة شفاه، ثرثرات هامسة، مقارنات بين الجديدة والاثنتين اللتين سبقتاها..
فالعروس سبق لها الزواج مرة.. بينما العريس سبق له الزواج مرتين!
**********
بمجرد خروجه من المشفى وجدها أمام البوابة الحديدية، فتصنع عدم رؤيتها وهم بالانصراف لكنها هتفت به بصوت عال:
_دكتور حمزة!
زفر متأففا وبقى مكانه دون الالتفات إليها، فاتجهت إليه حتى وقفت أمامه، ابتسمت بحرج وهي تلاحظ ضيقه الشديد، لكنها أجبرت نفسها على التحمل مُرحِّبة:
_كيف حالك دكتور حمزة؟
وبمنتهى الضيق أجابها:
_بخير، ماذا تريدين مني؟ لِمَ تلاحقينني؟!
بالرغم من توقعها لاستقبال مماثل فإنها نظرت له بدهشة ثم تساءلت:
_ألاحقك؟! أنا ألاحقك؟!
أومأ برأسه وهو يجيبها بلهجة ممتعضة:
_نعم، لقد أتيتِ بالأمس واليوم، ماذا تريدين ؟
تلجلجت بارتباك شديد ثم أجابته بخفوت:
_أنا.. أنا أردت الاطمئنان على رهف، فقد ذهبت إلى مركز الدورات الذي كانت ابنة خالتي تلتحق به وعلمت أنها لم تعد تعمل هناك، لذا جئت أسألك عنها.
مال برأسه تجاهها مُعَقِّبَاً بتشديد:
_بل طُرِدَت منه، طُرِدَت من عملها فوراً بعد فِعلة أخوكِ.
اتسعت عيناها بصدمة وتألم قلبها بشدة وهي تتساءل بداخلها: ترى بِمَ تسببت لحبيبتك أيضا يا ساري؟!
لكن حمزة لم يترك لها المجال للتفكير وهو يتابع ببسمة قصدها مُغيظة:
_لكن الحمد لله، لقد أكرمها الله بأخ حافظ عليها وعوضها عم أفسده بها أخوكِ، فإن كنتِ تعتقدين أنها منهارة تعاني الاكتئاب وتعتزل الجميع فأنتِ مخطئة، رهف الآن تدير مكتبا مرموقاً للترجمة، وقصتها مع أخيكِ قد نسيتها تماما.
ولاستغرابه وجدها تبتسم بفرحة شديدة هاتفة:
_أتعني أنها أفضل حالا الآن؟ أتعني أنني أستطيع التواصل معها؟
حدق بها وهو لا يفهم نيتها تجاه رهف، أليست أخت الرجل الذي دمرها؟!
ألا تريد الانتقام فيها مثله؟!
جذب انتباهه التوسل الواضح بعينيها وهي تسأله:
_أرجوك اخبرني عن مكان عملها الحالي، أو مكان إقامتها، لا أستطيع التحدث معها هاتفيا فهي لن تقبل بمحادثتي، أريد رؤيتها فقط لو سمحت.
هنا وجد نفسه يصيح بها بنزق:
_لماذا هذا الإصرار الشديد على رؤيتها؟ ماذا تريدين أكثر؟ ابتعدي عنها أنتِ وأخوكِ ودعوها تنسى معاناتها معه!
وقبل أن تفيق من صدمتها وترد وجدت من يقترب منهما، ضيقت عينيها تحاول تذكره حتى نجحت..
إنه زميله الذي سألته عنه بالأمس.
أمسك أحمد بذراع حمزة بدهشة متسائلاً:
_ماذا بك يا حمزة؟ لماذا تصيح بذلك الشكل؟
ثم التفت إلى سارة مبتسما بترحيب:
_مرحبا آنسة سارة، أرى أنكِ أخيراً استطعتِ مقابلته.
ابتسمت بمجاملة وهمَّت بالرد حينما صاح حمزة فجأة وهو ينظر لصديقه:
_أحمد!، بأي وقت تطلب الآنسة مقابلتي أخبرها بأنني غير موجود، معرفتي بها في الأصل كانت سطحية وانتهت تماماً.
نظر له صديقه بدهشة ثم نقل نظراته إليها وإلى الصدمة التي تعتلي ملامحها فشعر بالحرج من أجلها، حمحم بخشونة ثم استأذنهما بخفوت، فالتفت حمزة كي يتابع تعنيفه لها لكنها بادرته صارخة:
_اسمع يا هذا! أنا لا ألاحقك، لم أرغب منك سوى بمعرفة مكان رهف كي أقابلها هي، ولا أريد بها أي سوء، وما فعله ساري فاجئني وفاجأ أمي وعاصم وكلنا غاضبون منه حتى الآن بالرغم من عذابه الحالي، لكن رهف...
دمعت عيناها فجأة وهي تستأنف:
_رهف أنا أحببتها بشدة، وانتظرت بشوق كي تعيش معنا، رهف _بصرف النظر عن أنها كانت خطيبة أخي _ إلا أنها أيضاً كانت بالنسبة لي تعويضا عن "سلمى"، تعويضا عن الأخت التي فقدُتها قبل أن أراها، فلا يحق لك تخمين نواياي تجاهها.
ثم أردفت بصراخ أشد:
_ولا يحق لك مطلقاً إهانتي بهذا الشكل!
ثم مسحت وجهها وقالت بهدوء ظاهري:
_أنا آسفة بسبب"ملاحقتي" إياك دكتور حمزة، وأعدك أنها لن تتكرر مجدداً.
وبدون كلمة أخرى أولته ظهرها وانصرفت، أما هو فقد تسمر مكانه محدقاً بها، يستعيد كلماتها ودمعاتها ويشعر بذنب وندم هائلين..
عيناها كانتا صادقتين تماما؛
حُزنها كان صادقاً تماماً؛
والآن يشعر فجأة أنه كان قاسيا!
**********
"هل أنتِ بخير سارة؟"
ألقت سوسن سؤالها على ابنتها التي تنعزل بغرفتها منذ عودتها من الخارج على غير عادتها، فمسحت سارة دمعاتها بسرعة وهي تجيب أمها:
_نعم أمي، أنا بخير تماماً.
اقتربت سوسن منها تتفحص ملامحها فحاولت التهرب منها، لكن أمها فوراً علمت أن هناك خطباً ما، فسألتها بهدوء:
_ماذا تخفين عني سارة؟ ماذا حدث اليوم؟ هل ضايقك ساري بالعمل ثانية؟
لم ترد سارة فتابعت أمها بنبرة مُشفِقة:
_اعذريه ابنتي، لقد تبدّل تماماً وغضبه أصبح يجتاح الأخضر واليابس، عسى الله أن يهديه قريباً.
انفجرت سارة باكية بين أحضان أمها، فأخذت تربت عليها بحنان وهي تُرتِّل بعض الآيات القرآنية، حتى هدأت بعد عدة دقائق، ثم تحدثت تلقائيا بصوت باكِ:
_أنا لست حزينة بسبب ساري، أعلم أنه يحاول مداراة ألمه وحسرته واشتياقه عن طريق الغضب والعصبية، في الواقع_رغم ضيقي الشديد منه_ إلا أنني بدأت أشفق عليه، لقد علمت أنه يحبها منذ يوم الخطبة، لكنني لم أتصور أبداً أن يكون غارقاً فيها بذلك الشكل.
زفرت سوسن بتعب وهي تردد بخفوت:
_غرِق سارة، غرِق فيها وأغرقها معه ولا يستطيع العثور على سبيل نجاة!
عم الصمت للحظات حتى هتفت سارة بعصبية وهي تهب واقفة:
_لكن ذلك الغبي الآخر هو من أغضبني، كل ما طلبته أن أتواصل مع رهف، لِمَ يعتقد أنني سأؤذيها؟! هل أبدو كآكلة لحوم البشر؟!
سألتها سوسن بدهشة:
_أي غبي آخر؟!
ثم استدركت بعبوس:
_هل تشاجرتِ مع عاصم أيضاً؟
أشارت سارة بيدها بضيق ثم أجابتها:
_ليس ذلك أيضاً، بل قريب رهف، جارها الذي له صلة طيبة مع خالها.
ضاقت عينا سوسن بلا فهم فتابعت سارة بسأم:
_ الطبيب يا أمي الذي أخبرتك أنني ذهبت إليه بعد الزفاف كي أسأله عنها.
لحظات مرت وسوسن تحاول التذكر حتى انفرجت ملامحها أخيراً قائلة:
_نعم، لقد تذكرته، ماذا به؟ ماذا فعل؟
هتفت سارة بغيظ:
_لقد ذهبت إليه اسأله عنها بعد أن علمت أنها تركت المركز، والعبقري المتذاكي يعتقد أنني أريد الشماتة بها، يعتقد أنني سأفرح إن علمت بسوء حالها.
تمتمت سوسن بأسى:
_سامحك الله يا ساري!
ثم سألت ابنتها باهتمام:
_ألم يخبرك عن مكان إقامتها أو عملها الجديد؟
هزت سارة رأسها نفياً وهي تجلس على فراشها مرة أخرى باستسلام:
_لا أمي، لكن هي تعيش مع أخيها الآن، أو هو يعلم مكانها على أقل تقدير.
ثم ابتسمت بحماس:
_أتعلمين؟ لقد أخبرني أنها تدير مكتباً للترجمة، وأنا كنت مترددة في التواصل معها طوال الشهور الماضية اعتقاداً مني أنها في حالة اكتئاب وانعزال ولم أود التسبب في سوء حالتها إن رأتني.
بدا على سوسن التفكير الشديد فسألتها سارة:
_ما بك أمي؟ بم شردتِ؟
هزت سوسن رأسها بسرعة وهي تقف:
_لا شيء، ولكن لا تذهبي لذلك الطبيب ثانية طالما ضايقك، بالرغم من تأكدي من أنكِ لم تظلي صامتة مستسلمة بالطبع.
ضغطت سارة أسنانها بغيظ وهي ترد من بين شفتيها:
_لم أشفِ غليلي أمي، للأسف!
**********
للحظات وربما دقائق وقفت بجانب مَوَدَّة وتغريد تحدق في البوابة الخارجية لمدينة الألعاب بانبهار أعلى من انبهار إياد بجوارها، ثم انتفضت فجأة على صوت التقاط صورة على الكاميرا التي يُعَلِّقها عَمَّار حول عنقه، مطت شفتيها وهي تنظر له بعبوس ليضحك بصوت عال فهتفت به:
_لِمَ تقوم بالتقاط الصور لكل حركة أقوم بها؟ هل ستصنع لي فيلماً مُصَوَّرًاً؟! نحن لم ندخل من الباب بعد!
حدق بالصورة على شاشة الكاميرا بحنان شديد، ثم اتجه إليها وأحاط كتفيها بإحدى ذراعيه، بينما وجه الكاميرا إليهما سوياً والتقط صورة أخرى لم تجد الوقت للابتسام من أجلها وهو يخاطبها بِحُب:
_سوف ألتقط عشرات الصور لكِ بكل وقت وبكل فعل، أنا أريد تعويضاً ملموساً عن كل ما فاتنا سوياً كأخ وأخت.
ابتسمت له بحنان شديد فالتقط صورة لهذا التعبير أيضاً ثم قام بمناداة تغريد ومَوَدَّة وإياد لمشاركتهما.
.....بعد قليل:
كادت تسقط أرضاً من فرط الضحك وهي تراقب مَوَدَّة الغاضبة من عَمَّار بعدما أصر عليها أن يقوما بجولة في بيت الرعب، لينتهي الأمر بها تعاني دواراً، شاحبة الوجه تماماً، وباكية، وبينما هو يحاول مصالحتها أخذت تدفع صدره بِغيظ ليضحك فتغضب منه أكثر!
تسابقت هي وتغريد وإياد على ركوب الألعاب، الخطيرة منها والعادية وأيضاً الخاصة بالأطفال، ليضطر عَمَّار إلى مشاركة مَوَدَّة في الاعتناء بالحقائب وهو يشعر بسعادة طاغية لسماع صوت ضحكات أخته..
كانت تمزح مع تغريد وإياد وهي تحاول تعديل وضع حجابها بعد أن ساء مظهرها تماماً بسبب تنقلهم بين الألعاب..
"يوم لن يُنسى!"
هكذا فكّرت وهي تساعد تغريد في لملمة أغراضهم المتناثرة على المقعد الخشبي بينما عَمَّار يحاول إقناع مَوَدَّة بركوب لعبة أخيرة وهي لا تقبل مطلقاً!
ضحكت كما لم تضحك من قبل؛
لهثت كما لم تلهث من قبل؛
وأيضاً صرخت كما لم تصرخ من قبل؛
وكان أهم ما اكتشفته ذلك اليوم أنها..
لا تخاف ركوب الألعاب!
غافلة عن سيارة سوداء تسكُن بالقرب منها، يجلس صاحبها بها منذ وصولهم صباحاً..
في كل حركة تقوم بها مُدققاً؛
بكل خلجة منها مُحدقاً؛
و بكل ضحكة منها مستمتعاً؛
وبأشد شوق متمتماً:
_اشتقتُ إليكِ حد الموت يا مُشعثَة!
*****نهاية الفصل العاشر*****
ماتنسوش الڤوت وفي انتظار آرائكم 😍😍
أنت تقرأ
سَكَن رُوحِي (مُكتملة)
Romanceفتاة يتيمة تضطر للاستقلال بالمعيشة عن خالها لتفاجأ بشخص يتتبعها ويراقبها بكل مكان... ماتنسوش الڤوت والتعليقات لو سمحتم😍😍😍