خذلان فجرح فانكسار..
وأمل فإشراق فحياة..
ثم خذلان
فــ....
وهكذا حياتي أنا؛
دائرة أجوب بها منذ الأزل..
متى بَدَأَت؟
لا أعرف!
متى تنتهي؟
أيضاً لا أعرف!
معصوبة العينين..
مُكَبّلة اليدين..
مُجبرة على طأطأة رأسي ومِن ثَم الاعتذار..
على ذنب لم ارتكبه أنا..
هل يا تُرى سيحين إثبات براءتي يوماً؟
أم أنني سأظل إلى الأبد البريئة الآثمة؟!
**********
"وأنا الحاجة سوسن، خالة مريم، وأم ساري!"
لا تعلم كم من الوقت ظلت محدقة بالمرأة التي أدركت _هي_الآن رأيها بالأمر بأكمله دون مواربة، لكن ردها وصل أخيرا، متحرجاً خافتاً:
_أهلا بك!
جلست فوق المقعد المقابل لها وهي تبحث عن فرصة للهرب وأدتها المرأة بمهدها وهي تباشرها بسؤال صريح:
_ماذا تريدين من ابني؟
فتحت فمها وأغلقته عدة مرات تبحث عن إجابة فلم تجد، أظافرها تنهش كفيها وهي بالفعل لا تشعر بأي ألم.. جسدي؛
لكن المرأة لم تكن لتترك لها فرصة أطول للإجابة فأردفت:
_أخبرني ساري بظروفك كلها، وأريد إجابة سؤال لن أقبل بعدم حصولي عليها.
رفعت أنظارها إليها في ترقب، وبكل برود سألتها المرأة:
_أين هو أبوكِ؟ هل لا يعلم بوجودك؟
لترد رهف بلهجة رتيبة قد دَرَّبَت نفسها عليها مراراً عند تلقيها ذلك السؤال:
_ يعلم بوجودي ولا يعترف بي، تبرأ مني منذ سنوات وليس لدي ما يثبت أبوته لي.
ظهر الغضب على محيا سوسن وهمت بسؤالٍ آخر فسبقتها رهف:
_كان متزوجاً من أمي زواجاً عرفياً، إن كان سيشكل هذا فارقاً معك، لكن للأسف أمي قد فقدت العقد منذ سنوات ففقدت أنا معه الفرصة لحصولي على اسمي ونسبي وكل حقوقي.
تراجعت السيدة سوسن في مقعدها كما بدأ غضبها يتراجع دونما ملاحظة منها ليحل محله شيء لم تدرك كنهه بعد، بينما تابعت رهف بنبرة_رغم وجود الحرج بها_لم تخل من التهكم:
_ولو سألتني عن رأيي الشخصي فلا أجد فرقاً بين الزواج العرفي والخطيئة، كلاهما في الظلام وفي الخفاء، يعتمدان على الغش والخيانة، لا يرضى بهم رب ولا عبد، ويضيعون بهم حقوق غيرهم.
عقد الرد لسانها ففضلت الصمت متأكدة أن الفتاة لديها أكثر، فأردفت رهف بلهجة ساخرة أكثر.. حزينة أكثر:
_وإن سألتني السؤال المعهود في موقفنا هذا: "إن كنتِ مكاني ماذا ستفعلين؟ إن أخبرك ابنك أنه يريد الزواج من لقيطة عديمة النسب تحيط بها الشبهات من كل الجوانب وهو حفظه الله ذو مركز ومكانة وبار بأهله" سأجيبك بدون تردد بــــ"لا" ، لن أقبل أبداً، لأن مستقبله سيصبح مكللاً بالعار، وربما أولاده سيتحملون نصيبهم أيضاً، لذا فإجابتي القاطعة هي لا.
حدقت بها المرأة بدهشة، ورغماً عنها تسلل بعض الإشفاق عليها إلى قلبها بينما بدت رهف كمن وجدت فرصتها أخيراً للتعبير عن الظلم الواقع عليها ولن تفلتها:
_لديكِ إبنة، كيف تتقبلين وجود من هي مثلي معها بمكان واحد وببيت واحد؟ كيف تتقبلين أن تكون أم أحفادك لقيطة؟!
والكلمة الأخيرة خرجت دامعة متكسرة لكنها لم تأبه وهي تتابع:
_وهذا لا يعني أنني أعترف بخطأ لم أرتكبه مطلقاً، ولا أنني أحكم على من هي مثلي بنفس الحكم الذي يوقعه الجميع عليّ، لكن _وببساطة شديدة_ أنا لا أتحمل كوني أتسبب في الأذى للآخرين، خاصة إن كنت أهتم لأمرهم كثيراً.
ثم مسحت دمعاتها بسرعة مبتسمة بألم وأضافت:
_نعود إلى البداية، سألتني ماذا أريد من ساري؟ سأخبرك صراحة، لكن تذكري أن أمي ماتت وأنا طفلة وربما لم أتلقَّى التعليم الكافي للرد في موقف كهذا، فاعذريني إن كانت إجابتي وقحة قليلاً.
تعلقت نظراتهما ببعضهما وهي تتابع بدون ابداء أي رغبة في إخفاء دمعاتها:
_أحبه! بكل بساطة أنا أحب ساري، لم أجرب ذلك الشعور من قبل ولم أتمناه مطلقاً، أعلم أنه شيء يصعب تصديقه خاصةً أننا تقابلنا مرات قليلة جداً، لكن هذا ما حدث.
صمتت تتنفس بعمق، ثم بخفوت أضافت:
_ابنك كان أول إنسان أثق به منذ سنوات، أول إنسان أتكشف أمامه بحقيقتي فلا أخجل، أتدركين لِمَ؟
وبهمس باكِ أردفت:
_لأنه لم يشعرني بخزي أو نبذ، لم يشعرني برغبة في التخفي والهرب، لم يحاسبني على ما لم أرتكب، ولم ينظر لي بأية شفقة، نظراته كلها شفافة واضحة، يحبني أعلم ذلك بالرغم من الذعر الذي لمحته بعينيه بالمرة الأخيرة على الأخص.
صمت أطول حل بينهما، تنازعها مشاعر فقدان وشيكة ورغبة بالتشبث..
قلبها يصرخ بها: تمسكي؛
عقلها ينهاها بحزم: ابتعدي ولا تضريه، أجزاء ما منحك من شعور سامِ عاراً تلصقيه به طوال عمره؟
_هو أيضاً يحبك بالفعل!
أجفلت وهي تنظر للمرأة منتظرة توضيحا فأكملت عابسة:
_ساري، لم يحب أبداً، عِشنا حياة أصعب مم تتصورين وظروف لا يحب أحدنا تذكرها، كان يعمل منذ طفولته كي يساعد زوجي رحمه الله، ثم تحمل مسئوليتنا كاملةً بعد وفاته منذ الصغر، لم يهدأ يوماً، كان يدور هنا وهناك كي لا نشعر بالحاجة، نسى نفسه تماما..
ازدرت المرأة لعابها وتسارعت أنفاسها بتأثر شاركتها به رهف مع إضافة الفخر بنفس الشخص لكليهما، إلى أن تابعت الأولى بابتسامة حزينة:
_لطالما ألححت عليه بالزواج لكنه كان يرفض رفضاً قاطعاً مُتمسكاً بحجج واهية، حتى أنني توقفت منذ بضعة سنوات عن ذلك الإلحاح مؤمنة_بحسرة_ أنه لن يفعل إلا حينما يكتشف أن عمره ضاع وحيداً، وحينها سيتهور ويهرع إلى أول فرصة حتى وإن كانت غير مناسبة.
أعطتها رهف نظرة متوجسة صامتة فتابعت والدته:
_لكنه لم يطلب بحياته كلها سواكِ، لم يتمنَ شيئاً ولا شخصاً غيرك، حتى أنني متأكدة وبدون أن يعلنها صراحةً أنني إذا أصررت على رفضي فإنه لن يستبدلك بأخرى مطلقاً، ولهذا أجد نفسي مضطرة إلى التغاضي عن نشأتك وأوافق.
تهللت ملامحها كمحكوم عليه بالإعدام منحوه عفواً باللحظة الأخيرة بينما تابعت المرأة بحزم:
_لكن احذري!، إن تضرر ابني يوماً بسببك للحد الذي يكدر صفو حياته ويجعله يندم على ارتباطه بك لن أسمح له بالاستمرار معك.
تجاوزت الإهانة الواضحة وهي ترد بوعد صادق:
_صدقيني حاجة سوسن، إن أنا شعرت يوماً أنني سأتسبب بأبسط ضرر لساري سأرحل فوراً ولن يراني ثانية.
نظرت لها المرأة شزرا ثم زفرت بضيق ووقفت لتنصرف بدون تحية.
**********
_أنت إذن ذلك "الأخ!"
ضيق حمزة عينيه بحذر وهو يلاحظ الغيظ المتخفي وراء الملامح الباردة، وقف ساري ببطء مصافحاً إياه بلهجة رسمية بادله إياها وهو يجلس مُرَحِّبَاً، ثم تولى حمزة بداية الحديث مباشرة:
_أخبرتني رهف برغبتك في الزواج بها.
أزاح الغيظ البرود جانباً وساري يجابهه بقوة هاتفا:
_أنا أرى أن رهف تخبرك بأدق خصوصياتها بالرغم من أن الصلة بينك وبين ابنة خالها قد انقطعت!
لم يهتم حمزة لنظرة التحذير بعينيه وهو يخاطبه مُشدداً:
_رهف بمثابة أخت لي ولا تأثير لزواجي السابق على ذلك، وهي أيضاً تعتبرني أخاها وأحد الشخصين اللذين تثق بهما، أنت تعلم ظروف رهف كلها، تعلم أنها ليس لديها أب، وتركها خالها ترحل، لكن ما لا تعلمه أن لديها أخ حقيقي ليس بهين، يريدها ولن يتركها، يريد حمايتها ولن يسمح لأيٍ كان بأذيتها.
ضيق ساري عينيه وهو يميل بوجهه باتجاه حمزة قائلاً بسخرية:
_أخ آخر؟! عظيم عظيم!، أين كان ذلك الأخ إذن منذ البداية؟ كيف تركها تعاني الذل لسنوات حتى اضطرت للإقامة وحدها، لِمَ نبتت له فجأة مشاعر أخوية حانية؟
ليرد حمزة ببرود:
_لم يكن يعلم بوجودها إلا منذ بضعة أشهر، والآن يكافح حتى يكتسب ثقتها ويستعيدها.
تحولت النظرة الساخرة على وجه ساري إلى ابتسامة مماثلة ثم قال:
_انصحه بالصبر إذن! لا أعتقد أن أمنية ثقتها به ممكن تحقيقها بهذه السرعة.
_ماذا تريد من رهف؟
والسؤال خرج من حمزة قاطعاً آمراً، حتى أن ساري توقف قليلاً ونظر له بقوة مجيباً:
_بما أنك هنا بناءاً على إخبارها لك عني فأنت تعلم أنني أريد الزواج بها.
وبنبرة شك رد حمزة:
_مهندس محترم، صاحب نصيب بشركة كبيرة، مكانة مرموقة وسُمعة رائعة، يشيد به الجميع ويفخرون بأخلاقه ونزاهته، ألا تجد الأمر غريب بعض الشيء عندما تترك كل الفتيات ذوات الظروف المناسبة والخلفية الاجتماعية المشرّفة لتقترن برهف بكل ما يحيط بها؟
استرخى ساري بمقعده وهو يبتسم باستفزاز مُعلقاً:
_أرى أنك صدقت كونك أخيها وولي أمرها بالفعل وقمت بإجراء تحرياتك عني.
ثم مال مرة أخرى يقترب منه بنظرة منذرة ونبرة محذرة:
_لكن ألا ترى أن كلماتك تحوي إهانة لرهف؟ إهانة يلقيها بها الجميع؟ حتى أنت ترى أنها أقلّ من الارتباط بشخص مناسب؟ حتى أنت يا"أخ"؟!
عم الصمت لتدور بينهما حرب النظرات
نظرات مغتاظة؛
وأخرى قلقة؛
نظرات محذرة؛
وأخرى مشككة؛
نظرات مصممة؛
وأخرى أخيراً استسلمت!
ليقف حمزة ببطء مردداً بهدوء:
_جئت أخبرك مهندس ساري أن رهف ليست بمفردها، وأخبرك أيضاً بشيء آخر ربما خفي عنك.
حدق ساري بعينيه بترقب والآخر يتابع بلهجة مشددة:
_إن عانت رهف تقلّبك أو إن أكسبتها شعورا بالتفضّل عليها يوماً لن أقف متفرجاً، ولا أظن أن أخاها أيضاً سيفعل!
تشبع ساري بالمعنى المخفي لكلمات حمزة فزفر بابتسامة قائلاً:
_إذن لا يوجد ما يدعو للقلق.
مد حمزة يده مصافحاً إياه فبادله ساري المصافحة بكل سلام..
سلام انتزعه إعصاراً هائجاً اقتحم غرفة المكتب فجأة، فضغط أسنانه بغيظ بينما انتفض حمزة قافزاً رغماً عنه هاتفاً:
_بسم الله الرحمن الرحيم!
"أنت يجب أن تحل مشكلة ذلك المصعد يا ساري، لقد كُسرت نظاراتي الفخمة بسبب ذلك العُطل!"
وألقت الحافظة على سطح المكتب، بعدستين مفككتين وهيكل تم طحنُه!
_كم مرة سأعلمك طرق الباب ونحن بالشركة سارة؟! لقد أرعبتِ الرجل!
خرج هتاف ساري غاضباً فطأطأت سارة رأسها بحرج وهي تلمح وجود رفقة بصحبة أخيها، أما حمزة فقد انعقد حاجباه بحنق مدافعاً:
_أنا لم أرتعب، إنه رد فعل بشري تلقائي.
لم تهتم سارة بالرد على أخيها أو بالاعتذار من ضيفه، بينما كل ما كان يشغل عقلها حذاء أسود ضخم !
وبخفوت رددت وهي تدقق النظر به أكثر:
_إنه أنت! أنت من كسرت نظاراتي!
ثم رفعت عينيها إلى وجهه متابعة بغيظ واضح:
_أنت كسرت نظاراتي الفخمة باهظة الثمن، لقد كانت أحدث إصدار!
"آسف؟!"
وَرَدُّه خرج في هيئة سؤال أكثر منه اعتذار حقيقي عن اقتناع، بينما ينظر لساري يسأله بعينيه عن كيفية التصرف مع تلك المخلوقة الغريبة فيمط ساري شفتيه في إشارة إلى أن الأمر طبيعي تماماً!
والغيظ تحول إلى حنق في صوتها وهي تهتف:
_وبِمَ سيفيدني أسفك وقد أصبحت نظاراتي أشلاء بفضل قدميك الغريبتين؟
وبتلقائية وفضول أطال ساري عنقه مدققاً بقدمي حمزة ليشعر الأخير بالحرج وببعض الذنب!
_أنا حقاً لم أجد الوقت الكافي لإنقاذ نظاراتك الفخمة، أعتذر!
نزع ساري عينيه انتزاعاً عن قدمي حمزة وهو يسأل بنفاد صبر:
_ما الذي حدث سارة؟
وكطفلة غاضبة يتطاير الشرر من عينيها أشارت إلى حمزة شاكية:
_هذا الرجل دعس نظاراتي بحذائه حتى تحطمت تماماً، إنها النظارات التي أهديتني إياها مؤخراً يا ساري!
دار ساري حول مكتبه حتى توقف بجانبها وأحاط إحدى كتفيها بذراعه وهو يربت عليها قائلاً:
_لا تحزني، فداكِ كل النظارات، سأبتاع لكِ غيرها.
انتفضت للخلف رامقة أخيها بغضب وقالت:
_أنت السبب في الأصل، لو لم يكن مصعد شركتك معطل لما اضطررت إلى صعود الدرجات، ولم تكن نظاراتي لتتحطم تحت حذائه غريب الشكل.
وهتف بها الإثنان سويا:
_أنا السبب؟!
_حذائي ليس غريب الشكل!
هنا نظر ساري إلى حمزة بنبرة اعتذر متحرجة:
_لا عليك! هي فقط مندفعة قليلا ولم تتعمد مضايقتك.
وبذقنها أشارت إلى حمزة تسأل أخيها:
_من هذا؟
من بين أسنانه وبنبرة محذرة رد:
_إنه دكتور حمزة، بمثابة أخ لرهف.
ثم نظر إلى حمزة بابتسامة متكلفة معتذراً:
_إنها أختي سارة، وقد سقطت مراراً على رأسها أثناء طفولتها، لذا لا تؤاخذها.
اتسعت عينا حمزة بتوجس وهو يرى انقلاب ملامحها إلى النقيض تماماً إلى الابتسامة المنشرحة التي جعلت ملامحها أكثر جاذبية رغم طفوليتها، حتى أنه الآن فقط لاحظ لون عينيها الأخضر!
بينما اقتربت هي منه ببشاشة وترحيب هاتفة:
_أخ رهف؟!! أهلا أهلا، أرجو ألا تنزعج مني، كيف هي رهف؟ كيف حالها الآن؟
ظل حمزة محدقاً بها بدهشة، ثم التفت إلى أخيها عاجزاً عن الكلام فمط ساري شفتيه مرة أخرى ثم أشار على رأسه بحركة مُبطنة، فالتفت حمزة إليها مجيباً بكلمات بطيئة:
_هي بخير، وتبلغك سلامها.
اتسعت ابتسامتها وهي تلتفت إلى شقيقها هاتفة بفرحة:
_حقاً؟ أحدثتها عني يا ساري؟
هز أخوها رأسه نفيا بدهشة بينما تحدث حمزة بارتباك:
_لا! هي لم تبلغك سلامها بالفعل، إنه مجرد رد تلقائي.
مطت سارة شفتيها بحزن طفولي ثم انفرجت ملامحها مرة أخرى وهي ترد:
_لا عليك، قريبا سأتعرف عليها بنفسي وسنصبح صديقتين، بل أختين!
نظر حمزة له بتساؤل فتظاهر ساري بالتحديق إلى الجدار مُخفياً حَرَجُه، لكن سارة لم تكن لتقف عند هذا الحد وهي تسأل حمزة بتهور شديد:
_هل هي مثل الصور جمـ.....
ليقاطعها صياح أخيها الغاضب باسمها محذراً فابتلعت بقية كلماتها وهي تستدرك مبتسمة:
_حسناً، بالتأكيد سأعرف بنفسي.
ثم التفتت إلى شقيقها ولثمت وجنته قائلة:
_بالتأكيد أيضاً ستعوضني عن النظارات التي كسرها لي أخ خطيبتك.
خطيبتك؟!
والكلمة تسللت إلى قلبه لترسم ابتسامة على شفتيه وتقيم الأفراح بين دقاته.
حمحم حمزة بخشونة وهو يلاحظ شرود ساري قائلاً:
_سأنصرف الآن مهندس ساري، أستأذنك آنسة سارة.
وعندما هم بالإنصراف التفت إلى ساري مرة أخرى وفتح هاتفه قائلاً:
_سأعطيك رقم خال رهف، الأستاذ صلاح.
وبدون كلمة استمع ساري إلى الرقم وهو يومىء رأسه بشُكر، فانطلق حمزة هارباً من تلك المجنونة التي تنظر لهما بحماس زائد وتركها لتتلقى تعنيف أخيها بصمت تام!
**********
أنهت المكالمة الهاتفية مع أمها وهي تزفر بتعب، لقد سئِمت تلك المكالمات بينها وبين أمها وخالتها التي لا تنتهي، كيف يطلبان منها إقناع عَمَّار بالعودة الى الفيلا وهي نفسها لا تقتنع بذلك؟! كيف يعتقدان أنها قد تفرط في عَمَّار الجديد الذي يفاجئها يوماً بعد يوم؟
ليس ابن خالتها الكئيب؛
ليس صديقها الشارد؛
ولا هو بزوجها الناقم على الجميع المتقبل أي شيء في صمت.
إنما عَمَّار آخر.. مهتم، متفائل، حازم، ماكر، ومهووس باللون الأزرق!
ومن جهة أخرى هي تعلم تماماً أن هدفهما من ذلك الإلحاح أن يغير عَمَّار رأيه بشأن أخته، وهو ما أصبحت هي متأكدة من أنه لن يسمح به أبداً.
"ليتكِ ظهرتِ منذ زمن رهف، لقد أعدتِ إليّ عَمَّار الذي أحببته وبالصورة التي طالما رسمتها بخيالي!"
زفرت بحالمية لتجده فجأة يجلس بجوارها يكاد يلتصق بها فابتعدت قليلاً، لكنه اقترب بتصميم ومد ذراعه ليضعها على ظهر الأريكة خلفها فحاولت التظاهر باللامبالاة بالرغم من تأثرها الواضح على وجهها.
_فيم أنتِ شاردة؟
قالها باهتمام فأجابته بارتباك قائلة:
_لقد.. لقد كانت أمي تحدثني للتو.
وبنبرة قلقة سألها:
_أهي بخير؟
_نعم، كانت.. تطلب مني إقناعك بأن نعود إلى الفيلا، وأن تتصالح مع أبيك، يبدو أن لديه بعض المشاكل الخطيرة بالعمل حتى أنه يتعرض لبعض التهديدات أيضاً.
أطلق عَمَّار ابتسامة ساخرة دون مبالاة.. وهل توقفت تلك التهديدات أبداً؟!
منذ سنوات كان يقلق بسببها بالفعل، حتى أنه كان يصمم على عدم خروج تغريد من المنزل بمفردها وقام بالحرص على تحركاتها إلى درجة الاختناق أحياناً!
لكنه الآن بدأ يشك أن أباه يجذب الانتباه إليه بعدما بدأ مصنعه في التدهور بسرعة غريبة بالفترة الأخيرة.
طرد خيال أبيه من عقله ونظر لها بتدقيق متسائلاً:
_وبِمَ أجبتها؟
هزت كتفيها قائلة:
_وعدتها أنني سأتحدث معك.
عَمَّ الصمت للحظات وهو يحدق بعينيها ثم سألها بخفوت:
_وأنتِ ماذا تريدين؟
انعقد حاجباها بدهشة وهي ترد:
_ماذا تقصد؟
أعاد سؤاله بطريقة أوضح قائلاً:
_أقصد هل أنتِ تريدين العودة إلى ذلك المكان؟ أم تفضلين البقاء هنا؟ في بيتنا وحدنا؟
اتسعت عيناها هاتفة برقة:
_هل تطلب رأيي؟
ليبتسم لعينيها مؤكداً:
_ألستِ زوجتي وأم ابني؟ هذا القرار لا يخصني وحدي مَوَدَّة، أنتِ شريكة حياتي ومن حقك أن توافقي أو ترفضي.
وبنبرة أكثر خفوتاً أضاف:
_ألم أقل لكِ أنكِ روحي مَوَدَّة؟
تسارع تنفسها وتسابقت ضربات قلبها..
ما الذي يفعله بها؟
ما الذي يريده منها؟
إن كان ضميره قد استيقظ أخيرا ويشعر بالذنب فيكفي أن يعيدها صديقته فقط، لا تريد التعلق بأمل واه، لا تريد التطلع لأماني زائفة.
هَبَّت واقفة مبتعدة عنه لأقصى ركن بالغرفة فزفر بحنق متجهاً إليها:
_ماذا بكِ مَوَدَّة؟ لِمَ ابتعدتِ؟
التفتت إليه هاتفة بألم:
_ماذا تريد مني عَمَّار؟ إلى ماذا تهدف بمعاملتك الجديدة معي؟
صاح بها غاضباً:
_أريد العفو مَوَدَّة، أريد سماحِك، أريد فرصة أخرى، أعلم أنني كنت....
قاطعته بصراخ دامع:
_لا عَمَّار! أنت لا تعلم أي شيء، لا تشعر بجرح كرامتي وجرح قلبي، لن تدرك أبدأً الحرقة التي تنتابني منذ سنوات بسبب وجودك أمامي لكنك لست معي، أرى بعينيك صورة امرأة أخرى لم تحب غيرها، وأرى صورتي كخاطفة رجل ليس من حقها، أنا أكره حبي لك الذي لم ينقص ذرة واحدة منذ احتل قلبي عَمَّار، أكره قلبي الذي يتوسلك كي تسمع أنينه.
صمتت محاولة السيطرة على أنفاسها المتسارعة بينما حَدَّق هو بها بألم شديد ممتزجاً بنقمته على نفسه، حينما تابعت هي بصوت أكثر هدوءاً:
_أتعلم؟! بالرغم من أنك لم تخني بالفعل، لكن يجب أن نضع حد لتلك العلاقة المرهقة، أنت لا ترضى لي أن أتعذب بتلك الطريقة.
هنا تمسك بذراعيها هاتفاً بغضب لم تره إلا يوم واجه أبيه منذ سنوات:
_اسمعيني جيدا مَوَدَّة، لقد سبق واهتممت بفتاة لم يشأ الله إتمام علاقتي بها وانتهت تماما منذ سنوات قبل زواجي بك، لا تحاسبينني على فترة كنت فيها ضائعاً وأنتِ خير من يعرف معاناتي التي لم تنتهي حتى الآن ولن تنتهي إلا عندما أجتمع بأختي.
ثم خَفَّت قبضته على ذاعيها كما رَقَّ صوته وهو يتابع بِصِدق جلي وعشق واضح للأعمى:
_لكن.. لكن أنتِ مختلفة مَوَدَّة، أعلم أنني كنت عديم الإحساس لوقت أطول مما ينبغي في الواقع، لكنني ندمت، وأدركت الآن قيمتك لدي، أتعتقدين أنني أرى بكِ مجرد بداية لحياتي الجديدة؟
التزمت الصمت مكتفية بالانتظار فتابع يهُز رأسه نفياً:
_أستطيع البحث عن أخرى لم تشهد كل أخطائي وخضوعي وسلبيتي، أستطيع أن أتمسك بصورة عَمَّار الجديد التي لا يعرف أحد الماضى المخزي منها، لكن.. لكنني أريدك أنتِ مَوَدَّة، ليس لأنكِ زوجتي، ولا لأنكِ أم ابني، ولا لأنكِ تساعدينني على استعادة أختي، بل لأنكِ أنتِ مَوَدَّة، لأنكِ.. حبيبتي!
فغرت فاهها بذهول وهي تتطلع إليه، بينما يبدو أن الكلمة التي نطق بها فاجأته هو شخصياً قبلها، حيث رمقها بدهشة ثم ظهرت ابتسامة أخذت تتسع بالتدريج على وجهه وهو يردد بخفوت:
_حبيبتي!
ليكرر بلهجة متهللة:
_حبيبتي!
ويعيد صائحاً باكتشافه بفرحة عارمة:
_حبيبتي أنتِ! مَوَدَّة، روحي أنتِ وحبيبتي!
ظلا لبعض الوقت يحدق كلا منهما بالآخر ولا يريد أحدهما كسر سحر اللحظة، حتى تراجعت هي للخلف فترك ذراعيها مترقباً، بينما أعلنت الصدمة عن نفسها على وجهها بوضوح، ثم ما لبثت أن تهربت من عينيه المُصرتين على شيء لم ترغب_أو لم تتحمل_ تصديقه.
وبعد قليل تحدثت بخفوت:
_عَمَّار أنا.. أنا لازلت....
وبلهفة اقترب منها متوسلاً:
_أريد فرصة مَوَدَّة، فرصة واحدة أثبت لكِ بها صدقي، أثبت لكِ بها حبي فلا تَرُدّينني خائباً!
هزت رأسها بلا تعبير ممزقة بين خبرتها الطويلة معه وعدم ثقتها به وبين أمل بعينيه مشرق يَعِدُها بسعادة مقبلة ثم ما لبثت أن انصرفت مُسرعة ليبقى هو مكانه مبتسماً بدهشة غارقاً في اكتشافه الجديد والذي يشعر وكأنه أصح ما حدث له مؤخراً.
**********
"لقد قابلت تلك الفتاة التي تريد الزواج منها اليوم."
ألقت سوسن تلك العبارة بهدوء على مائدة الطعام فحدق بها كلا من ساري وسارة بدهشة للحظات، ثم بادرت سارة بحذر:
_أين قابلتها يا أمي؟
باقتضاب ردت سوسن:
_ذهبت إليها في عملها.
"يا إلهي! أهو أحد الأفلام العربية القديمة؟!"
همست بها سارة بصدمة بينما_وبصوت متحشرج_ سألها ساري شاحب الوجه:
_بم تحدثتِ معها يا أمي؟ هل.. هل سألتِها عن والدها؟
رمقته أمه بنظرة حانقة وهي تهتف:
_لا تخف على حبيبة القلب يا ساري! لم أعذبها، لقد تحدثت معها كي أفهم منها قصتها.
شحب وجهه تماماً وهو يسألها باقتضاب:
_وماذا قالت؟
ثم أردف بِغضب قبل أن تجيبه:
_لقد أخبرتك بنفسي عن قصتها يا أمي، لِمَ أمعنتِ في إحراجها؟
هَبَّت سوسن واقفة وهي تهتف بغيظ:
_كان يجب أن أراها، أن أتحدث معها، أن أعلم هل هي تستحق تضحيتك أم لا؟
ليقف أمامها ثائراً كما لم تره منذ سنوات عدة:
_أي تضحية يا أمي؟ عن أي تضحية تتحدثين؟ أما يكفي نظرة الناس لها حتى تزيدي أنتِ في إيلامها؟ أنتِ تعلمين تماماً أنني لم أكن لأتزوجها بدون موافقتك، لِمَ إذن أهنتِها؟
والألم على وجه ابنها مزقها..
ألهذه الدرجة يا ساري أحببتها؟!
ألهذه الدرجة تتعذب خوفا من فقدانها؟! ورغماً عنها تسللت إليها بعض الغيرة.
لترد بعد قليل بخفوت:
_تزوجها يا ساري، أنا لا أرفض.
فانطلقت زغرودة حادة طويلة من أخته وهو لا يزال يستوعب ما قالته أمه، ليضع إحدى كفيه على فمها يخرسها وهو يطالع أمه ببلاهة متسائلاً ببطء:
_هل أنتِ جادة أمي؟!
هزت أمه رأسها إيجاباً وعدم الرضى يعلو ملامحها بوضوح، وبدلاً من أن ترى الفرحة بعينيه كما توقعت..وجدت وجوم!
بينما أزاحت سارة كفه وأطلقت زغرودة أخرى أعلى وأشد فلم يمنعها.
وبعد قليل بغرفته التقط هاتفه ثم عبث بأرقامه وانتظر عدة لحظات:
_مرحباً أستاذ صلاح، معك مهندس ساري، وأرغب بالتحدث معك بموضوع شخصي.
**********
"لقد اشتقنا إليكِ آنسة رهف."
ابتسمت بضعف للطفلة الجميلة التي قلدت زملائها في وصف اشتياقهم إليها بعد غياب بضعة أيام هرباً، لكن ها هو سبب تهربها يجلس على مسافة قريبة ويبتسم لها ببراءة شديدة، لتتهرب هي بعينيها منه وتبدأ بإلقاء درسها على الأطفال حتى تناست بعضاً من همومها على وجوههم وبين ضحكاتهم.
وأثناء استراحة الفصل اقترب منها إياد فنظرت له بتوجس وهو يسألها بطريقته الفضولية المحببة:
_لِمَ كنت غائبة طوال تلك الأيام آنسة رهف؟
شردت بملامحه تحاول البحث عن أخرى قاسية، لكنها للأسف لم تجد إلا عينين كانت تحدق بمثيلتيهما بمنتهى الخوف منذ بضعة أيام حينما كانا يحملان نفس النظرة المشتاقة، لم تجد إلا ابتسامة ذكرتها بأخرى ارتسمت من أجلها حانية..
ما المشكلة إذن؟
أيعقل أنها تخاف من طفل؟! إنه طفل! ليس له ذنب في نسبه.. تماماً مثلها!
_آنسة رهف؟!
هزت رأسها محاولة إخفاء القلق المضحك على ملامحها وهي تجيبه:
_نعم؟
_لقد سألتك لِمَ لم تحضري تلك الأيام الفائتة؟
ردت بنبرة مرتبكة:
_كنت متعبة بعض الشيء.
ليرد الطفل بحزن بريء على ملامحه:
_شفاكِ الله وعافاكِ، عندما أمرض تقوم أمي بتقبيل مكان الوجع فيشفى فوراً، اجعلي أمك تفعل المثل معك.
ابتلعت غصة مسننة تسد حلقها وهي تومىء برأسها إيجاباً، فابتسم الطفل أكثر ثم ابتعد.
حدقت في إثره تحاول تحليل مشاعرها تجاهه..
إنه طفل!، مجرد طفل!..
لكنه ليس كأي طفل؛
هو ابن أخـ....
أغمضت عينيها طاردة الكلمة كلها بما تعنيه من عقلها، ثم أجبرت نفسها على لملمة شتات نفسها ومواصلة عملها.
**********
أنهى مقابلته مع أحد العملاء بخارج الشركة ثم تناول هاتفه ليهاتف والدته قبل عودته إلى المنزل، وحينها جاءه صوتها مهموماً:
_ما بكِ أمي؟
_لا شيء حبيبي، كيف حالك أنت؟
تملك القلق منه وهو يعيد سؤالها:
_أمي ما بال صوتك؟ هل أنتِ مريضة؟ هل أنتِ وحدك؟
ردت بلهجة حنونة:
_لا تخف عليّ بني، أنا فقط في انتظار مشكلة ما ستحدث اليوم ولا أعرف كيفية التصرف.
سألها عاصم بإلحاح متوتراً:
_أمي لقد بدأت أفزع بالفعل، أخبريني ماذا حدث؟
وصلته زفرة أمه الحانقة بوضوح وهي تجيب:
_تلك المرأة لن تهدأ إلا عندما تسبب فضيحة، وأنا أعلم أن سما تتعامل معها بهدوء فقط من أجلي، لكنني لن أستطيع السيطرة عليها للأبد.
وبدهشة رد عاصم:
_أية امرأة؟! وأية فضائح؟! أنا لا أفهم شيئاً أمي!
وبعد عدة دقائق كان ببيت أمه التي جلست بجوار سما وبرفقتهم ثلاثة أشخاص من ذوات الدم البارد ربما..!
التزم الصمت مفضلاً تحليل الموقف كاملاً قبل التدخل في شيء لا يعنيه على الإطلاق، وعلى بُعد بضعة أمتار شعر أنه إن دقق النظر سيستطيع رؤية دخان متصاعد من رأسها، أو ستتناثر أسنانها أرضا من فرط ضغطها عليهم، أو ستنتفض فجأة مُشهرة سلاحاً في وجه ذلك الشاب الذي يقفز العبث من عينيه بفخر غريب!
"هل نستطيع التحدث بمفردنا سما؟"
ألقى الشاب سؤاله بِأمل واضح، وبمنتهى البرود صدحت إجابتها حاسمة:
_لا!
نظرت السيدة دلال لها بغيظ ثم خاطبتها بِعِتاب:
_لا يصح ما تفعلينه يا سما، يجب أن تمنحي شريف فرصة، لا ينتهي كل شجار بين الرجل وخطيبته بالانفصال.
ابتسمت ابتسامة رغم برودها إلا أنها كانت لائقة بها أكثر من عبوسها الدائم قائلة:
_ليس خطيبي، ابنك لم يعد خطيبي منذ أشهر، لذا ما أفعله يصح تماماً.
هنا تدخل الأب تحت تأثير نظرة آمرة من زوجته قائلا بِمهادنة:
_يا سما، هو أخطأ ويعترف بذلك، ما رأيك إن تعارفتما من البداية، وكأنما لا خبرة سابقة جمعت بينكما؟
نظرت له سما باستهجان وكذلك فعل عاصم، لكنها سارعت بالإجابة بهدوء:
_أعرفه تماماً ، ابنك يعتقد أنه ذكي بشدة، يستطيع التلاعب بالفتيات وبنفس الوقت يحتفظ بي، آسفة عمي، أنا لا أقبل بذلك أبدا.
وبابتسامة أيقن عاصم تماماً أن صاحبها ليس بالواقع كما يحاول التظاهر بالكياسة والرزانة تحدث شريف:
_كانت زلة سما، ولن تتكرر أعدك، كما أن جميع الشباب في مثل سني لهم علاقات متعددة، إنه أمر طبيعي، أؤكد لكِ ذلك!
هنا التفتت سما فجأة إليه هاتفة:
_عاصم!
المرة الأولى!
إنها المرة الأولى التي تناديه باسمه!
لا يعرف لِمَ لفت شيء مثل هذا انتباهه لكنه رد مسرعاً:
_نعم سما؟!
لتفاجئه ثانية وهي تسأله باهتمام شديد:
_هل لك علاقات بأكثر من فتاة بوقت واحد؟
وبرغم دهشته فإنه بسرعة مماثلة هز رأسه نفياً هاتفاً:
_أنا ليس لي علاقات بأية فتيات سوى بمريم أختي وسارة ابنة خالتي.
ثم تمتم هامسا لنفسه:
_على اعتبار أن الأخيرة فتاة!
لكن سما التفتت مرة أخرى إلى خطيبها السابق هاتفة بابتسامة مستفزة:
_أرأيت؟! هذا شاب بمثل سنك ومهندس محترم، لا يتعرف على الفتيات بدون داعِ ولا يخدعهن.
ثم هبت واقفة مخاطبة الجميع بصوت قوي:
_عذراً شريف، أنا لا أقبل بك شريكاً لحياتي تحت أي ظرف، أرجو أن تكون تلك هي المرة الأخيرة لِذِكر هذا الأمر.
وقفت الأم تنظر لها بغيظ واتجهت إلى الباب ليتبعها الأب فورا، لكن شريف تقهقر وهو ينظر لسما بتوسل قائلاً:
_سما، أنتِ تعلمين أن مكانتك لدي مختلفة، أنتِ لست مثل الأخريات، أنتِ.....
حسناً! لقد تمسك بالصمت منذ نصف الساعة لكن ذلك اللحوح أثار أعصابه إلى الحد الأقصى ليجد نفسه يهتف به بحنق مقاطعاً:
_هل لديك صعوبة في الفهم يا هذا؟
نظر له شريف بتحفز:
_عفوا؟! ماذا تقصد؟
ليجيبه عاصم بابتسامة مفتعلة يخفي بها الغيظ الذي بدأ بالتملك منه:
_أقصد أنها أوضحت انعدام رغبتها بك أكثر من مرة، لكنكَ_ولا أقصد حسداً_ مثابر ولحوح إلى أقصى درجة.
نقل شريف نظراته بين عاصم وسما المبتسمة باستمتاع شديد ثم سأله حانقاً:
_ما صفتك أصلاً؟ لِمَ تتدخل بالأساس بيني وبينها؟ وكيف تتحدث معي بهذا الشكل؟!
وضع عاصم يده على رأسه بأسف مفتعل وهو يرد:
_ألم أعرفك بنفسي؟! يا لذاكرتي الضعيفة!
ثم رسم ابتسامة واسعة وهو يمد كفه تجاهه مصافحاً فوضع شريف يده بها بتلقائية مندهشاً، ليبدأ عاصم بنبرة مهذبة:
_معك المهندس_قليل الذوق، عديم الإتيكيت_، عاصم عبد الرحمن شخصياً!
وبلحظة محا ابتسامته ليضع محلها نظرة صارمة مخيفة مشدداً على كل كلمة بشراسة:
_والآنسة سما في حمايتي!
ارتسم الغضب على وجه شريف وهو يتجاوزه بنظره إلى سما الواقفة خلفه والتي تتضح عليها مظاهر السعادة الفائقة، فعاد إليه بعينيه وهو ينزع كفه منه متسائلاً بحنق:
_هل أنت خطيبها؟
عقد عاصم حاجبيه دهشة ثم التفت إلى سما التي جعلتها الكلمة ترمق شريف ببلاهة مستنكرة، حدق بها للحظات متأملاً ثم التفت مرة أخرى إلى شريف...
وببساطة رد مبتسماً:
_بالطبع أنا خطيبها!
**********
كانت تقف بأحد أركان باحة المركز تراقب الأطفال أثناء مغادرتهم باهتمام؛
لا تعلم لِمَ تفعل ذلك؛
لا تعلم هل هو الفضول الذي يجعلها تنتظر منذ نصف ساعة مترقبة انصراف الأطفال أم ماذا؛
هل سيأتي هو ليصطحب ابنه؟ أم زوجته؟
تُرى ما شكل زوجته؟
وكيف تقابلا؟
تُرى كيف كان زفافهما؟
وكيف كان يوم ميلاد ابنهما؟
ترى هل له أشقاء آخرين؟ وبالتالي يكونون إخوة لها؟!
أسئلة تتصارع بعقلها ينبهها كل واحد منهم إلى ما فاتها..كأخته!
وانطلق إياد إلى خارج المبنى مهرولاً لتتبعه عيناها بإصرار حتى توقف أمام إحدى الشابات ثم ارتمى بأحضانها، ضيقت عينيها قليلا محدقة بها بدهشة..
لقد رأتها من قبل! هي أيضاً رأتها من قبل! وبلا إرادة منها اتجهت إليهما حتى شعرت الأخرى بها فرفعت رأسها مجتذبة ابتسامة متوترة قائلة:
_مرحباً رهف!
فجاءها الرد المتشكك فوراً:
_لقد رأيتك من قبل! هل كنتِ معه وهو يراقبني؟!
هزت مَوَدَّة رأسها بسرعة وهي تجيبها والصدق واضح بعينيها:
_لا! لقد.. لقد تحدثنا سوية من قبل، أنتِ من أخبرتني عن الدورات هنا.
ثم أشارت إلى ابنها متابعة:
_كنت أسأل من أجل إياد.
نظرت رهف إلى الطفل المبتسم بفرحة شديدة لأن معلمته تقف معه وتتحدث مع والدته هو على الأخص، لكن معلمته كانت بوادٍ آخر وهي تعود بنظراتها لأمه متسائلة بتهكم لم يخف عليها:
_صدفة غريبة، أليس كذلك؟!
لقد كانت مَوَدَّة طوال عمرها فاشلة في الكذب، فاشلة في الاصطناع، فاشلة في التمثيل، ولذا فقد تهربت عيناها منها فورا فأردفت رهف:
_هل كان يجعلك تراقبينني؟
وبسرعة نفت مَوَدَّة:
_لا! لم يكن له شأن بذلك، عَمَّار لم يطلب مني أبداً مراقبتك.
كتفت رهف ذراعيها وهي ترمقها ببرود ثم سألتها:
_ماذا تريدون مني؟
وبلهفة اقتربت منها مَوَدَّة هاتفة:
_عَمَّار مظلوم رهف، هو ليس مثل والده على الإطلاق، عَمَّار يريدك معه، يريدك إلى جواره، أنتِ أخته مثل تغريد تماماً، لا تدرين كم يتعذب هو بسبب كراهيتك له ونفورك منه.
وبالرغم من الألم الذي ازداد بقلبها صَامَّاً أذنيها عن أي شعور آخر يرغب بالتصديق، فإن كلمة واحدة اجتذبت انتباهها، وبالأحرى..اسم!
والسؤال غير المتوقع انطلق بلا تفكير:
_من هي تغريد؟
والإجابة التلقائية خرجت بحماس:
_أختك، تغريد أصغر منكِ بستة سنوات، هي أيضاً متشوقة جداً لرؤيتك، مثل عَمَّار.
تراجعت رهف إلى الخلف خطوة وهي تهز رأسها
رفضاً..
رفضاً لأخ ظهر مؤخراً؛
رفضاً لأخت علمت بوجودها للتو؛
رفضاً لزوجة أخ يبدو التوسل بعينيها صادقاً؛
رفضاً لابن أخ ينظر إليها بانبهار حالاً؛
رفضا لهدم اعتقادات احتلت عقلها لسنوات كثيرة بعدم رغبة أحد بها!
كاذبون..
كلهم كاذبون..
هم ليسوا بملائكة!
وهي أيضاً ليست إلى تلك الدرجة متسامحة!
لترد بنبرة قوية ظاهرياً مرتجفة باطناً:
_أخبري زوجك وأخته أن يبتعدا عني، أنا لا أريد أياً منكم بحياتي، لقد اعتدت على عدم وجودكم، والآن لن أتقبلكم مطلقاً!
ثم استدارت راحلة قبل أن تضعف أمامها وأمام الطفل الذي_رغماً عنها_ شعرت برابط طبيعي يجذبها إليه..
بينما حدقت مَوَدَّة في إثرها بألم..
الفتاة تعاني بقسوة؛
تأمرها بالابتعاد عنها وتتوسلها عيناها بالوقت ذاته بالاقتراب وعدم التخلّي!
**********
"يا إلهي! توقفا عن الشجار للحظة!"
هتفت بها صفاء بالاثنين الذين حولا غرفة استقبالها إلى ساحة حرب، يتبادلان النظر لبعضهما بِغِل واضح بصوتيهما، ليبادر هو:
_اصرخي بها هي أمي، بدلاً من أن تشكرني لأنني أنقذتها من ذلك الــــ"كازا نوفا" ها هي تتشاجر معي وتتهمني بالتدخل فيما لا يعنيني.
لتهتف الأخرى بسخرية متظاهرة بالانبهار:
_يا الله! المهندس عاصم شخصياً تنازل وأعلن أنه قد خطبني لينقذني من ذئب آخر، كيف لم أرقص أنا طرباً وفرحاً حتى الآن؟!
فيرد ببرود:
_لا أعلم حقاً، فأنا لم أمنعك!
لتصرخ حانقة:
_أم عاصم، اجعلي ابنك يتوقف عن إثارة غيظي وإلا صدقيني سأتجاوز فرق السن وسأجعله يدرك ماذا باستطاعتي أن أفعل.
فيسألها باهتمام مستفز:
_وماذا عن فرق الطول؟!
أشهرت قبضتيها أمام وجهه في وضع لَكْم متحفز، لكن صوت صفاء هو ما جعلها تسكن مكانها:
_يا سما، عاصم لم يتعمد ما فعل، هو أراد أن يخلصك من إلحاح شريف فتحدث بتلقائية.
تدخل هو بنزق:
_ها قد قُلتِها! أخبريها يا أمي، أخبريها أنه لولا تدخلي لكان ذلك الـــ"كازانوفا" عاد غداً وبعد غد وبعده، ثم لا تستبعدي أن يقم باختطافك وإلقاء مياة النار على وجهك لإجبارك على الزواج به، فهو يبدو_وحقاً لا أفهم السبب_ مدله تماماً في عشقك.
اتسعت عيناها بصدمة بسبب وقاحته حتى شعر هو بأنه ربما تجاوز حدوده قليلاً، لكن مجدداً أمه تحدثت بهدوء:
_يا عاصم نعلم أنك نجحت في تخليصها من مشكلة، لكنك ورطتها بأخرى.
انتظر عاصم توضيحاً ما فلم تتأخر أمه وتحدثت بضيق:
_أنت أعلنت خطبتكما وهذا غير صحيح، ودلال تدخل بيوت الجميع في الحي، وهي ليست أمينة تماماً وسترغب في الانتقام، لذا من الغد سيعلم الجميع بأنك تتردد على البيت منذ فترة في وجود أمك الضريرة فقط وعندما ضغط شريف عليك تذرعت بِخطبة وهمية.
هنا قفزت سما تربت على كتفيها بحنان هاتفة:
_لا تتحدثي بتلك الطريقة أم عاصم، إن شئت يمكننا أن ننتقل من الغد إلى مكان آخر.
"أو نستمر في ادعائنا الخطبة!"
ما باله اليوم ينفصل لسانه عن عقله تماماً؟! وما بال لسانه المتهور يتمسك بكلمة"الخطبة" وكأنه لا يعرف من اللغة بأكملها إلاها؟!
نظرت له سما وكأنه مجنون في حين هتفت أمه بها بالفعل:
_هل جُننت يا عاصم؟ أهناك مزاح في أمر مثل هذا؟
رد بصبر لا يعلم من أين اكتسبه تلك اللحظة:
_أنا لا أمزح أمي، وقبل أن تصرخا بي فكرا معي، الحي بأكمله يعلم تلك اللحظة أنني تحججت بكوني خطيبها بفضل موهبة تلك السيدة، فلِمَ لا نتظاهر بحقيقة الموضوع؟ نستطيع التمثيل أننا مرتبطان بالفعل ثم بعد فترة نعلن انفصالنا، وبهذا الوقت أكون أنا قد رتبت أمور انتقالك معي أمي.
هَبَّت صارخة:
_مجددا؟! ذلك الانتقال مجددا؟!
وقبل أن يبادلها صراخها سبقته أمه بِحزم:
_أنا لا أريد الانتقال عاصم، ولن أترك سما إلى الأبد.
وعبوسها تبدّل فوراً لابتسامة مغيظة منتصرة ما إن أبدت أمه تمسكاً بها؛
وتخصرت وهي تواجهه بتحدي؛
أيستطيع حرمانها تلك الفرحة بعناده؟
أيستطيع حرمان"أمه بالطبع" من ذلك الإشراق؟
_حسناً خطيبتي، انتصرتِ تلك الجولة!
همسها ببرود ظاهري لتتقدم منه مثلما فعلت من قبل والتحدي يتراقص بعينيها، فينظر إليها مدركاً أنها حقاً جذابة!
_كما سأنتصر في كل الجولات القادمة، أعدك!
هتفت بها بتوعد وهي ترفع رأسها إلى أعلى محدقة به، فقال بخفوت:
_انتصري إذن! لو كنتِ ستبتسمين أخيراً بتلك البشاشة، انتصري كما يحلو لكِ!
وتوترت عيناها أخيراً وانعقد حاجباها بدهشة، وبلحظات ابتعدت إلى الخلف متظاهرة بترتيب المكان تواري اضطراباً غير اعتيادياً، فلم يشأ أن يسمح لها بالهرب.
_كم عمرك خطيبتي؟
التفتت إليه عاقدة حاجبيها ثم هتفت:
_عفوا؟!
هز كتفيه بلا تعبير ثم رد:
_ألستِ خطيبتي؟! من واجبي أن أعلم بعض المعلومات الأساسية عنكِ، في حال أراد شخص ما اختبارنا.
من بين أسنانها ردت:
_أربع وعشرون.
تظاهر بالصدمة هاتفا:
_يا إلهي! لقد اعتقدتك في الخامسة عشرة.
وقبل أن تثأر منه عاجلها بسؤال آخر:
_ماذا تعملين؟
رسمت ابتسامة باردة على شفتيها:
_موظفة خدمة عملاء بإحدى شركات الاتصالات.
وحينما هَمَّ بإلقاء سؤال آخر عاجلته بنزق:
_لا أحب الرسم، لا أحب القراءة، لا أحب إلقاء الشِعر، ولا أحب السباحة، لكنني بارعة جدا في الكاراتيه!
ابتسم لها باحترام وهو يحك ذقنه:
_لم أنس ذلك أبداً.
تعلَّقت عيناها به للحظات دون سبب واضح وكذلك فعل هو، لكنها على الفور تغلبت على حالتها الغريبة هاتفة بِسأم:
_هل من أسئلة أخرى؟ أو هل ستسمح لي أخيراً بالخلود إلى النوم بعد ذلك اليوم الخانق؟
أشار لها بإحدى يديه صارفاً إياها بعجرفة:
_لا! اذهبي الآن.
وبمجرد أن أنهى أمره حتى دخلت غرفتها صافعة بابها بقوة لتتعالى ضحكات أمه التي يبدو عليها الفضول والرضى.
وعندما ساعدها على الوصول إلى فراشها وهم بالخروج أولته ظهرها هاتفة:
_لا تنس نسخ رقم خطيبتك عاصم!
أما هي فلم تستطع النوم كما ادعت، حالة من التوتر الممتزج بالدهشة والترقب تجتاحها وتسيطر عليها خاطفة من عينيها راحة وهي تستعيد تلك اللحظة التي أعلن فيها أنه خطيبها بكل سلاسة، لكنها نهرت نفسها بضعة مرات ثم أجبرتها على النوم وهي تطرده بصعوبة خارج تفكيرها.
**********
"سأُصاب بالجلطة أمي، أذلك الوسيم الغني يريد الزواج من تلك اللقيطة وأنا تزوجت من حمزة لمدة ثلاثة سنوات؟"
هتفت بها دينا وهي تكاد تبكي قهراً فانطلق صوت أبيها مُغيظاً من خلفها:
_لقد اشترى حمزة سيارة جديدة، ما شاء الله!
التفتت تنظر إلى أبيها المبتسم بحنق فعاجلها:
_أين العصير؟ توقفا عن الثرثرة الحاقدة واخرجا للضيوف.
التفت ليخرج ثم عاد فجأة هاتفاً بخفوت:
_وإن سمعت كلمة "لقيطة" تلك مرة أخرى لن تخرجي من هذا المنزل دينا!
وعندما خرج بالفعل تلك المرة مصمصت شروق شفتيها بحسرة:
_تلك اللعينة كلما أعتقد أنها خرجت من حياتنا تعود ثانية لتحرق دمائنا!
وفي الخارج:
توجه صلاح بالحديث إليه بصرامة هادئة:
_اسمعني جيداً بني أنت تعلم عن ظروف رهف كلها، وكل ما سأطلبه منك ألا تظلمها وألا تجرحها، ألا تعاقبها يوما على جرم لم يكن لها يد به، هي قد استسلمت منذ زمن لمصيبتها فلا حاجة لها بأخرى تتضمن كسر قلبها.
لم يبادله ساري النظر وهو يرد بخفوت مقتضب:
_لا تقلق!
حدق به صلاح بقلق هاتفاً:
_أقلق بني! أقلق كثيراً، رهف لن تتحمل منك أنت أي ألم، أستطيع أن أرى بعينيها مدى ثقتها بك، فلا تخذلها!
اتجه ساري بنظراته إليها فتقابلت الأعين سوياً، أكدت هي على توسل خالها فابتسم رغماً عنه متردداً ووعدها..
غامزاً!
ثم أومأ إيجاباً بابتسامة متوترة مخاطباً خالها:
_هل لنا أن نحدد موعد عقد القران والزفاف الآن؟
نظر له خالها بدهشة هاتفاً:
_عن أي عقد قران وزفاف تتحدث بني؟ يجب الالتزام بفترة خطبة أولا، حتى تتعارفا جيداً وحتى أستطيع شراء ما يلزمها.
هنا تدخلت شروق بوقاحة هاتفة:
_من الذي سيشتري ما يلزمها؟ راتبها لن يكفي، لذا فسنبتاع القليل.
توردت وجنتا رهف بحرج بالغ وطأطأت رأسها حتى لا تبكي أمامهم، بينما نظرت لها كلا من سوسن وسارة بدهشة حينما مالت الأخيرة على أذن أمها هامسة:
_هل رأيتِ أمي إحدى تلك الصور المُركبة المتداولة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يظهر جسد حية رقطاء برأس بومة ناعقة وذيل عقرب مسموم؟ الآن فقط رأيت أحدهم على الحقيقة، فسبحان الله وأعوذ بالله!
لتزيد دينا من الشعر بيتا متحدثة ببرود:
_سيجب أن تنتظري رهف ربما أكثر من عام قبل الزواج حتى تستطيعي ابتياع كل ما ستحتاجين، وأنتِ بالطبع لم تكوني تتوقعين أن تفعلينها يوماً فلم تهتمي بمعرفة ما يلزم عن ذلك الحِمل الثقيل.
لازالت مطأطأة رأسها شاعرة بالحرج الشديد من الموقف الذي وُضِعت به أمام ساري وأهله، وفاتتها النظرة القاتلة المتوعدة التي رماهما هو بها، لكن ما جعلها ترفع رأسها بذهول هو رد"حماتها" التي انطلق صوتها ضاحكاً:
_أتعتقدين حبيبتي أن ساري سيتحمل الانتظار عاماً كاملاً؟ بالكاد أقنعناه بعدم إحضار المأذون معنا اليوم!
وتوردت وجنتاها بينما ضحكت أخته بشقاوة واضحة، لتنظر هي لأمه بامتنان فبادلتها بِشبه ابتسامة متكلفة.
حتى انطلق صوته الذي شعرته متلاعباً مثل أول مرة حدثته هاتفياً وهو يشدد ببطء:
_أنا لا أريد سوى رهف، حتى حقيبة ملابسها لا أريدها، لتصبح زوجتي فقط وحينها لا أهتم بأي شيء آخر.
وأصاب الهدف مرماه ببراعة، فنظرت شروق وابنتها لبعضهما بذهول شابه الغيظ، حينما أطلقت سارة زغرودة ظهرت وكأنها احتفالاً بإحراجهما أكثر من الارتباط المرتقب!
ثم تابع ساري متوجهاً بحديثه إلى صلاح:
_ عمي، أنا لا أريد فترة خطبة، أريد الزواج برهف في أقرب فرصة.
ازداد تورد وجنتيها وهي تتمنى لو قبّلت رأسه امتناناً على ما يفعله معها وبها، لم يرفع أحد قدرها مثله، لم يُشعرها أحداً بأن لها قيمة مثله، كيف يمكنها أن تفيه حقه؟ كيف يمكنها أن تسعده؟
وبنظرة من خالها إليها أدرك أنها غرقت في حب ذلك الرجل حتى نخاعها، أيعقل أن يحرمها أملا واضحاً على محياها وبعينيها؟ أيعقل أن يتعنت في المطلب الوحيد الذي تمنته بكل قلبها؟
عندئذٍ عاد بنظره إلى ساري ليجده يُخرج من حقيبة بجواره صندوق مخملي أحمر، وعندما وقف متجهاً إلى عروسه ليفتحه أمام عينيها شهِقت زوجته وابنته بينما سمع سارة تردد المعوذتين بصوت واضح!
وبأصابع مرتجفة التقطت حلقتها الذهبية وارتدتها قبل أن يفعلها هو، فقام بالمثل وارتدى حلقته الفضية بنفسه حينما أدرك_بسبب ارتجافة أصابعها_ أنها لن تستطيع فعلها!
الناس حولها، خالها وزوجته وابنته، أمه وأخته..
وهو!
تحاول التهرب من نظراته..
فلا تستطع!
تحاول السيطرة على ابتسامتها البلهاء..
فلا تستطع!
تحاول إيقاف ارتجاف أصابعها..
طبعا لا تستطع!
أهذا الوسيم أصبح رسمياً خطيبها؟!
أبعد بضعة أيام كما "أجبر" بشدة إلحاحُه خالها سيصبح زوجها؟!
أستكون لها عائلة تنتمي إليها؟
أغمضت عينيها بسعادة وهي تشعر أنها لو ماتت الآن ستكون راضية!
ليزورها خاطر جعلها تطلق ضحكة خافتة:
"أكان يجب عليها شُكر ذلك اللص لما تسبب لها في سعادة لم تطمح يوما إليها؟!"
وبعد قليل وجدته يزيح أخته الملتصقة بها جانباً وهو يهمس بسعادة:
_مُبارك يا مشعثة!
فكان ردها للمرة الأولى بدون اعتراض:
_بارك الله بك وفيك يا حُلم المشعثة!
ازدرد لعابه وتعلَّقت عيناها به قبل أن يسألها برجاء واضح:
_رهف، هل باستطاعتنا الهرب الآن؟
ارتفع حاجباها دهشة بينما حافظت على فرحة ابتسامتها وسألته:
_مم نهرب؟
لم يتردد وهو يجيبها بنبرة حاسمة:
_من الجميع، من الماضي، ومن المستقبل.
هَزَّت رأسها مُعَقِّبَة باستغراب:
_لكنني لا أريد الهرب، ذلك المستقبل أنا أتمناه وبشدة، بالإضافة إلى أنني قد صرت خطيبتك حقاً، وخلال أيام سأصير..
توقفت والتورد يحتل وجهها فهمس على الفور راجياً:
_تابعي رهف! انطقي بها، قولي سأصير زوجتك يا ساري.
عَضَّت على شفتيها بحرج وطأطأت رأسها فأضاف:
_هيا رهف، خالك سيقتلني، وهاتين العقربتين نظراتهما بدأت تثير قلقي حقاً!
رَفَعَت رأسها لترمقه بتردد شاعرة أن هناك خطب ما؛
أو على الأوقع.. عيناه بهما خطب ما؛
نفس الرجاء الغريب، والذعر بات أكثر صراحةً!
عندئذٍ حَسَمَت أمرها قائلة بوعد صريح:
_سأصير زوجتك يا ساري!
وبدلاً من الراحة التي انتظرتها على ملامحه؛
كان الخوف هو سيدها، قبل أن يغمض عينيه متمتماً بألم لم يخف عليها:
_ليتكِ لم تنطقي بها يا رهف!
**********
وفي آخر الليلة أرسل رسالة إلى عاصم كاتباً:
"بارك لي! لقد خطبت!"
ثم أرفق رسالته بوجه يحمل قلوباً بدلاً من العينين.
ليأتيه الرد أسرع مم توقع:
"بارك لي بالمثل! فقد خطبت أنا أيضاً!"
مُرفق بوجه يلطم خديه!!
**********
قبل الزفاف بيومين:
"ستتزوج؟!"
هتف بها عَمَّار بصدمة فصاح به حمزة:
_اهدأ عَمَّار! هي لن تهاجر، زواجها ليس له علاقة باستعادتك لها، ربما يستطيع زوجها إقناعها بإعطائك فرصة.
وبمنتهى الألم رد عَمَّار:
_أنت لا تفهم حمزة، زواجها في ذلك الوقت بالذات يعني أنني قد حُرمت من أداء أحد أهم واجباتي كأخ إلى الأبد، تسليمها لزوجها بيدي كان سيُشعرني بأنها قريبة مني، بأنها تعتبرني أخاها، بأنني استعدت أخيراً جزءاً مفقوداً من حياتي معها..
زَفَر حمزة بضيق بينما تابع عَمَّار بحسرة:
_أنت لا تفهم، أنا ألازم تغريد بكل خطواتها، بكل قراراتها، ومنذ الصغر، لكن.. لكن رهف التي لم أكتشف وجودها إلا مؤخراً يبدو وكأنها قد ضاعت مني إلى الأبد!
عم صمت مكبّل بالألم أنحاء المكان فلم يستطع حمزة التفوه بكلمة، لقد هاتفه عَمَّار غاضباً يسأله عن صحة خبر زواج رهف والذي علمه من خالها، ليأمره بالحضور إلى بيته فوراً، وعندما وصل وجده ثائراً هائجاً، وسرعان ما تحولت تلك الثورة إلى حسرة متمثلة في ملامحه المتعذبة.
أيلوم رهف؟
بالطبع لا!
لقد نشأ معها بنفس الحي وشهِد بنفسه القليل من الإهانات التي تعرضت لها ، وعندما تزوج من ابنة خالها هاله كم الألم الذي تتحمله راضية معتقدة أنها تدفع ثمن إيواء خالها لها ببيته.
ولهذا لن يلومها أبداً..
وعَمَّار أيضاً لا ذنب له، لكن يجب عليه الصبر أكثر، عسى أن يكن الأمل في ذلك الساري الذي يبدو أنها أخيراً وجدت به ملاذها الآمن.
أجفل وهو يتطلع إلى عَمَّار الذي هب واقفاً فجأة وعلى وجهه ينتشر تصميم مُقلق، تمسك بإحدى ذراعيه هاتفاً:
_إلى أين أنت ذاهب؟
وكان الرد المختصر بنظرة عازمة:
_إليها!
**********
منذ عدة أسابيع جمعت نفس الأغراض ووضعتها داخل نفس الحقائب لتترك بيت خالها الذي نشأت به وتقطن تلك الغرفة، الآن ستتركها..
أخيراً ستتركها..
ستذهب إلى بيت حبيبها؛
أكثر من تثق به تلك اللحظة؛
ولوهلة شعرت بالإشفاق عليه، فمنذ زيارته الوحيدة في بيت خالها اقتصر الأمر بينهما على رسائل نصية يطمئن فيها عليها باقتضاب على عكس ما اعتادت منه من مرح دائم؛
بعكس أخته التي تهاتفها طوال الوقت وتقسم لها أنه يسابق الزمن كي يستطيع تجهيز الشقة بموعد الزفاف الذي صمم عليه وكأن حياته تتوقف على ذلك اليوم بالتحديد!
تشتت خاطرها بصوت رنين جرس الباب، ربما زوجة صاحب البيت التي هنأتها عشرات المرات خلال يومين فقط، حيث تبدّلت كل معاملتها المزدرية إلى ترحيب عجيب ما إن علمت بقرب زواجها، ربما لأنها ككل من يعرف أنها تقطن الآن وحدها يراها في صورة الفتاة المخطئة، هزت كتفيها بلا اهتمام حقيقي، بِمَ يهمها رأي أي شخص الآن مادام ساري بحياتها؟!
وأمام الباب تسمرت، ارتفع صدرها في تنفس عنيف ماثله تنفس ذلك الواقف أمامها، لترى في عينيه
نفس الحنان؛
نفس الاشتياق؛
نفس التوسل؛
مع إضافة عاتبة!
لتجد نفسها تهتف به بألم:
_لِم جئت ثانية؟
فأسرع عَمَّار بالإجابة:
_من أجلك رهف جئت، من أجلك فقط.
وجاء ردَّها صارخاً:
_لا أريدك، لا أريدك ألا تفهم؟! أنا لا أريد أي منكم وقد أخبرت زوجتك بالفعل بذلك، ابتعدوا عني، أتستكثرون علي السعادة؟ أتستكثرون عليّ الأمل؟ هل أنا إلى تلك الدرجة وضيعة؟ ألا تستحق من هي مثلي نهاية سعيدة؟!
لم تشعر حتى ببكائها، كما لم يشعر هو بدموعه التي تندفع من عينيه متألما..
ألا يحق له أن يربت عليها؟
ألا يحق له احتضانها؟
ألا يحق له اخبارها كم هو نادم على جهله بوجودها؟
ومن بين دمعاته الضعيفة توسلها هاتفاً:
_رهف! اسمحي لي أن أحضر زفافك، اسمحي لي أن أكون بجانبك، اسمحي لي أن أكون لكِ السند والأمان، اسمحي لي أن يكون بيتي ملجأً لكِ، لا تبعديني رهف، لا تحرميني أخوتك!
كلماته تعذبها؛
تنخر بعظامها؛
تقتلها؛
تُشعرها بيُتمِها وذلها؛
تنبهها إلى ما حاولت تجاهله طوال سنوات..
الفقدان، الحرمان، الاحتياج؛
الأخ والسند!
ونداء خافت منه باسمها متوسلاً أخرج صرخاتها:
_أين كنت أنت؟ لقد انتظرت لسنوات، انتظرت ظهورك أنت بالتحديد لسنوات، انتظرت أن تأتي وتأخذني إلى أبيك، لم أرغب منه هو سوى بالاسم، لكنني أردتك أنت بكليتك، أردت حنانك، احتوائك، أردت حبك، أردت الشعور بالاحتماء بك عَمَّار!
واسمه الذي استمع إليه للتو منها للمرة الأولى نبهه أيضا إلى ما فقد!
يا إلهي!
ما هذا العذاب الذي يتقافز بينهما؟
ما هذا القهر الذي يتقاسمانه بكل لهفة؟
وبأقوى دفعة ضعيفة منها أصبح خارج غرفتها، وحياتها!
وبأقصى قدر من الجمود أمرته:
_اذهب عَمَّار! اذهب ولا تعُد، نحن لم نكن يوماً إخوة، ومطلقاً لن نكون!
وأغلقت الباب بكل قوتها لتنهار أخيراً باكية، وعندما استطاع هو التحرك أخيراً وصل إلى سيارته ببطء وارتمى على المقعد الجانبي، ليسأله مرافقه بقلق:
_ماذا حدث؟!
وبالنبرة الأكثر هزيمة أجابه:
_إنها النهاية حمزة، لقد خسرتها!
**********
"أيعني هذا أنني سأرى الآنسة رهف كثيراً؟"
هتفت بها مريم بفرحة شديدة وهي تساعد سارة في ترتيب بعض الأغراض بشقة ساري العلوية فردت عليها الأخيرة:
_نعم، إن سمح لنا ساري الذي يبدو هذه الأيام شارداً أكثر مما يجب، ماذا سيفعل إذن عندما يتزوج؟
"هل بدأنا تلك الحركات منذ الآن؟!"
ضحكت الفتاتان وهما تلتفتان إلى ساري الذي يبدو بالرغم من افتعاله المرح فهناك شيئ ما يشغله؛
شيئ ما يُخيفه!
لترد مريم بسعادة:
_ألا يجب عليك أن تشكرني ساري؟
مط شفتيه وهو يسألها باستغراب:
_ولِم أشكرك؟
ردت بغرور مصطنع:
_لأنه لولاي لما كنت قابلت الآنسة رهف وتزوجتها.
فابتسم لها ببرود مردداً:
_شكراً جزيلاً مريم، أتحبين أن أحضر لكِ هدية؟
لتبتسم الفتاة مجيبة:
_لا! يكفي أنني لن أترك الآنسة رهف ما أن تعيش هنا، سأظل ملاصقة لها تماماً.
فهمست سارة بمشاغبة:
_هذا إن رأينا وجه أحداً منهما.
ليصفعها ببطء على مؤخرة عنقها هامساً:
_تأدبي سارة!
ثم اتجه إلى الباب تاركاً كلتاهما منهمكتين في الترتيب، وعندما كاد أن يختفي بالخارج هتفت مريم:
_أوتعلم ساري؟! ربما أنا من يجب عليّ شُكرك، ففي الأصل أنت من أصررت علي كي ألتحق بذلك المركز بالتحديد!
وبينما مريم مبتسمة بسعادة نظرت له سارة باستغراب حينما أعطاهما هو ابتسامة مرتجفة وانصرف!
*********
يوم الزفاف:
"اهدئي سما، لا يجب أن يعلم الجميع أننا لا نتحمل بعضنا!"
هتف بها عاصم بخفوت حانق فردت عليه مسرعة:
_إذن لِمَ جلبتني معك؟ نحن"نتظاهر" بالخطبة، فلا يجب أن يكون دورك متقناً إلى ذلك الحد.
نظر إلى الأعلى بنفاد صبر متوسلاً:
_ساعدني يا إلهي!
لكنها تابعت بتبرم:
_كان من الأفضل أن أظل أنا مع أمي بدلا من حضور زفاف شخصين لا أعرفهما، لحظة! أنا لا أعرف أي شخص هنا بالأصل!
وجاء رده حانقاً:
_أنتِ تعرفين سارة!
تخصرت بعناد قائلة:
_إنه زفاف شقيقها، لن تكون متفرغة!
ليبتسم لها ببرود آمراً:
_إذن أنتِ مضطرة للتعامل معي أنا وحدي، تحملي!
وبالرغم من أن نظرتها التي ترسمها بعينيها حانقة، إلا أنها كانت تخفي شعوراً غريباً بالاطمئنان، والترقب، والثقة!
فقد اعتادت على تلصص خطيبها السابق بالنظرات على الفتيات طوال الوقت، أما الآن وقد قررت مراقبة"خطيبها" الحالي فإنه بالفعل لم ينظر لأخريات حتى من حاولن لَفت انتباهه، هل هو مخلص ومحترم أم أنه بمنتهى البساطة لا يهتم؟!
وما يُقلقها حقا هو اهتمامها الشديد بذلك الأمر، فقد وجدت نفسها رغما عنها تتابعه لتعترف لنفسها ببساطة أنه مهذب، لَبِق، محبوب بين معارفه، وجنحت بتفكيرها إلى أنها لو كانت قابلته في ظروف مختلفة لربما قَلَّت حدة رغبتها باستفزازه قليلاً!
**********
تطلعت إلى صورتها بفستان الزفاف بالمرآة وهي تحاول تهدئة ملامحها التي تتصارع ما بين..حنين لأخ..وفرحة بحبيب!
حتى انتزعتها أخته رغماً عنها من شرودها مطلقة زغرودة أكثر حدة جعلتها تبتسم، وعندما التفتت لتخرج من باب الغرفة التي تجهزت بها بالفندق بمساعدة سارة ومريم وجدتها أمامها..
زوجة أخيها!
الآن فقط تستطيع رسم ابتسامة كاملة!
قابلتها مرتين والصلة بينهما معدومة لكنها لا تستطيع إلا الشعور بالامتنان لوجودها.
شخص آخر بخلاف خالها وحمزة حضر عقد قرانها..
عقد قرانها؟!
_هل تم عقد القران؟
والإجابة أتت من خالها الذي دخل بصحبة المأذون يطلب توقيعها، وبأصابع مرتجفة ودمعات كتبت اسمها ولأول مرة تدرك كم هو جميلا بالفعل حينما جاور اسمه هو!
لثم خالها جبهتها مباركاً، لثمتها سارة مهنئة، واقتربت منها زوجة"أخيها" وأمامها توقفت حائرة..
ثم ألقت حيرتها جانباً وهي تحتضنها بحنان غريب لم تشعر به رهف يوماً على الإطلاق، وهكذا شددت هي أيضا من احضانها.
**********
وبالسيارة خارج الفندق:
بعدما عاد حمزة من القاعة سأله عَمَّار:
_أتعرف أي شيء عن ذلك العريس؟
وبلهجة مطمئنة أجابه حمزة:
_مهندس محترم صاحب نصيب بشركة جيدة، يشيد الجميع بأخلاقه ويبدو أنه يعشق رهف.
وبسؤال اعتيادي خاطبه عَمَّار:
_ما اسمه؟
_ساري صبري رشوان.
تسمر عَمَّار لحظة محدقاً أمامه ببلاهة ثم انتفض!
**********
أخذت تحدق في الوجوه المحيطة من أصحاب الشركات التي يتعامل معها وهي لا تستطيع تصديق ما حدث..
لقد أصبحت زوجته!
هي بخلاف الجميع أصبحت زوجة ذلك الرجل الرائع!
بعد أن أيقنت منذ زمن أنها أبدا لن تكون زوجة أو أم، لن يكون لها مستقبل يشاركها به آخر في بيت يسوده الود والدفء..
شردت ببصرها بعيدا بابتسامة آملة تتخيل طفلا صغيرا يلهو ثم تنهره برقة لتحتضنه بعدها بحنو؛
لا! بل طفلين! وربما ثلاثة أو أربعة!
سوف تحبهم وترعاهم، سوف تمدهم بكل الحب والدعم والحنان الذين حُرمت منهم.
زفرت بسعادة وهي تعود بنظراتها إليه، إلى الرجل الذي أعاد إليها معنى الحلم والأمل، إلى من منحها الحب والسعادة، من تحمل وسيتحمل_لا مفر_ العديد من الهمزات واللمزات التي نفر منها الأقربون بسببها، لكن هي ستعوضه، ستجعله يعلم إلى أي مدى تعشقه، لن تتركه للندم يوما على اختياره لها وتمسكه بها وحدها.
توقفت عند عينيه المبتسمتين دوماً، لكن لدهشتها للمرة الأولى لم تكونا كذلك! كان هو من يحدق بها بطريقة مريبة..
لا حب، لا مكر، لا رجاء.. حتى الخوف وَلَّى!
دقات قلبها تباطأت وهي تشعر وكأنه آخر، هل ندم بالفعل؟! هل أدرك الآن فقط أنه قد تَسَرَّع؟!
لكنها أعطته الخيار أكثر من مرة وهو من لاحقها بمنتهى الإصرار، ربما هي من تهذي، ربما عدم تصديقها لوضعها الآن هو من تسبب في ذلك الارتباك، ابتسمت له بارتجاف تبحث عن طمأنة لطالما وجدتها لديه وحده ليشيح بوجهه عنها بإصرار!
ازدردت لعابها وهمت بالإشارة إليه كي تتحدث معه لكنه عَلَّق نظره بمدخل القاعة لتتسع ابتسامة تراها على ملامحه للمرة الأولى..
ليست راجية، ليست خائفة؛
إنما..مُخيفة!
ثم هب واقفا ببطء وهو يغلق أزرار سترته السوداء..
بصعوبة أشاحت بنظرها عنه وهي تنظر في نفس الاتجاه الذي اجتذبه تماما لتتوقف أنفاسها في حلقها وتغمض عينيها وتفتحهما عدة مرات ببطء بينما تدعو ربها أن تكتشف أنها تعيش أحد كوابيسها ليس أكثر!
فتحت عينيها وهي تحدق في ذلك الرجل الذي دلف لتوه إلى القاعة ويقف مع صديق زوجها ، هزت رأسها برفض هزات ضعيفة لم يلحظها أحد، انتزعت بصرها عنه وهي تبحث عن مصدر أمانها الوحيد لتجده الآن واقفا على القاعدة الخشبية العريضة بمنتصف القاعة ممسكاً بمكبر الصوت!
_من فضلكم أرغب بدقيقة واحدة من انتباهكم!
خفتت الأصوات وتوقفت الكلمات وحدق به الجميع بفضول، إلا من بعض الهمهمات التي انطلقت في أنحاء القاعة:
"سيحكي قصة تعارفهما!"
"سيعترف لها كم يحبها!"
"سيجثو على إحدى ركبتيه طالباً منها أن تظل حبيبته طوال العمر!"
"يا إلهي كم أنه رومانسي! ليتني أجد مثله!"
"أعديمة الأصل تلك تحصل على ذلك الوسيم الذي يعشقها؟!"
"بالتأكيد هذه نتيجة شعوذة ما! لقد سحرته تماما! لاحظي كيف ينظر إليها؟!"
والنظرة أرعبتها وجمدت الدماء في أوردتها حتى أنها أنستها تلك المصيبة التي حلت عليها الآن في زفافها، وعندما هدأت الأصوات تماما ونضبت تخميناتهن ابتسم هو بحقد_مستجد_ مستأنفا:
_أشكركم، وأعدكم أن أكون سريعا، في الواقع لقد رغبت في تقديم زوجتي وعائلتها إلى الجميع!
شحب وجهها وتوقف الزمن بينهما وهو يحيد بنظراته عنها كأنها غير موجودة، كأنه للتو لم يقتلها، لكنه كان بكليته مع آخر، مع قاتلها الآخر ليتابع بنفس الابتسامة:
_وها هو أبوها الهارب، إنه هنا معنا جاء كي يطمئن على ابنته ويحرص على رؤيتها في هيئة العروس، كما تعلمون جميعا، حنان الأب لا يعادله شيء.
تعالت الأصوات الخافتة والوجوه تتنقل بين العروسين بفضول، أخرج البعض هواتفهم مختلسا مقطعا تصويريا لفضيحة الموسم بينما تابع هو بنبرة قاسية:
_رحبوا معي بشديد بك الناجي والد زوجتي والذي لا يريد الاعتراف بها.
انتقلت النظرات وكاميرات الهواتف إلى ذلك الرجل الذي يعرفه العديد هنا، لقد كان حتى فترة قصيرة من أشهر رجال الأعمال، وزوجته ناشطة اجتماعية معروفة، ابنه أيضا طبيب له اسمه، كيف تورط في فضيحة مماثلة؟!
اِسْوَدَّ وجه الرجل وهو يبادله النظر بحقد مشوب بالصدمة، فاتجه ساري إليه ببطء حتى وقف بمواجهته تماما، ثم أخفض مكبر الصوت للأسفل ومال على أذنه هامسا:
_أنت لا تتذكرني، أليس كذلك يا بك؟!، لكن أنا متأكد أن الليلة ستنتعش ذاكرتك تماما.
نظر له شديد بذعر حاول إخفاؤه ففشل، بينما رفع ساري مكبر الصوت أمام شفتيه مرة أخرى وهو ينظر له بحقد قاتل متابعا:
_لكن اعذرني شديد بك، أنا لا أستطيع تحمل نتائج أفعالك أنت.
نظرة هَلِعَة هي كل ما رد به شديد والآخر يبتسم له بازدراء ثم أولاه ظهره ليرمق ضحيته الأولى و الأخيرة..
وحينها..فقط حينها..!
اهتز قناع السخرية والبرود للحظة؛
لحظة واحدة ظهر بها صراخ مقهور داخل عينيه؛
صراخ باعتذار وأسف وندم ورغبة بالتراجع والهرب؛
ذلك الهرب الذي توسلها إياه ما إن صارت خطيبته!
كان محقاً في توسله إذن!
ظلام، قيود، قهر، واضطرار!
مرسومين بداخل عينيه واضحين تمام الوضوح..
وهي تنتظر..
تدرك الآن أنه لم ينتهِ؛
توقن أن مازال في جعبته بقية؛
تقسم أنه لن يتوقف عند هذا الحد!
وقد كان على قدر ثقتها، حيث اتخذ قراره وواجهها بنظرته التي تحولت إلى البرودة الشديدة متفوهاً بكلمتين فقط:
_أنتِ طالق!
*****نهاية الفصل السابع*****
في انتظار آرائكم وتصويتكم 😍😍😍
أنت تقرأ
سَكَن رُوحِي (مُكتملة)
Romanceفتاة يتيمة تضطر للاستقلال بالمعيشة عن خالها لتفاجأ بشخص يتتبعها ويراقبها بكل مكان... ماتنسوش الڤوت والتعليقات لو سمحتم😍😍😍