شَوْق ...إِشْتِياقْ ...حَنِينْ ...لَهْفَة...تَوقْ...مَيْل ...نَزْعَة...هَوًى...وَلَه...تَلَهُّف...حروف وكلمات مختلفة ....تصنع بإلتحامها معنًى واحد...
******
خيوط الشمس الذهبية تختفي ببطئ ...تحرم الغابة من نورها الدافئ ... ويحل محلها الظلام البارد ...وهناك كان يقف هو بجسده المتصلب يحمل بيده سلاحا يوجهه نحو ذلك الرجل الذي يمسك رهينة بيده ويضع مسدسا على رأسها ...كانت نظراته لا جامدة ولا باردة ... لقد كانت نظرات لهفة وتوق وحنين لتلك الفتاة التي لم يرها منذ أشهر ... إنه ينظر إليها ببحره العطش لنظرة من رماديتاها اللامعتين كالنجوم ... لقد نسي تماما للحظات نفسه ومن يكون ولماذا يسعى وراء هذا الرجل وكل ماسيطر على عقله هي ... إنها تقف الآن أمامه لا يفصل بينهما سوى بضع خطوات ...لا مسافات طويلة ... ولا حواجز ...إنها أمامه الآن تنظر إليه كما ينظر إليها بنفس الحنين والشوق ... بنفس لهفة الحب ...هي أيضا نسيت نفسها في حضوره وتجاهلت برودة السلاح الموضوع على رأسها ...وتفرغت لتأمل ملامحه التي حرمت منها لأشهر ... شعره العسلي المبعثر ...عيناه الزرقاوتان الساحرتان ...فكه المرسوم بإتقان ... رموشه الكثيفة والطويلة ..لقد كانت تشكل لوحة فنية عظيمة مع عينيه ... لقد كانت ألوان البحر ممزوجة بهما ...
لكن مراسمهما المقدسة لم تستطع أن تدوم طويلا فذلك الرجل الذي كان يحتجزها كرهينة بدأ بالصراخ من جديد وهو يهدد لوكا بأنه سيطلق عليها إن لم يسمح له بالذهاب ...لذا لملم لوكا شتات روحه لوقت يكفيه لأخد ما يريده من هذا الرجل ..ثم سيعود بعدها ليكمل طقوسه مع مهجة قلبه ...
فبحركة دقيقة ومدروسة ضغط على زناد سلاحه وأطلق على يد ذلك الرجل فأفلتت أسيليا من قبضته بسرعة ...بينما هو سقط على الأرض نازفا يصرخ بألم ...
"إنتهت لعبة المطاردة هنا ياهذا .." نبس لوكا بحدة بينما بدأ يقترب نحوها ...وكذلك هي كانت تقطع المسافة بينهما ... ليقفا أمام بعضهما البعض بعد ثواني ولا يفصل الآن بينهما سوى إنشات قليلة ...
كل منهما يحدق بالآخر بنظرات عتاب صامة ...هي تعاتب نفسها لأنها سبب وصولهما إلى هذا الدمار ...وهو يعاتبها لأنها رحلت وتركته خلفها من دون أي وداع ولا لقاء رغم أنها تعرف جيدا أنه لم ولن يلومها على ماحدث أبدا ...لكن كل هذا لم يعد يهمه الآن ...المهم أنها قريبة منه مجددا ...وهو الآن متأكد من شيء واحد لن يسمح لها بالإبتعاد مرة أخرى أبدا مهما حدث ... فهي روحٌ لروحهِ ... ولا يمكن للروح أن تعيش بدون روحها ...لذا بعد لحظات الصمت ونظرات العتاب ... أحاط خصرها الصغير بيده ثم جذبها نحوه يغلق الفراغ الطفيف الذي كان بينهما مطبقا ثغره على ثغرها ...يخبرها بقبلته هذه مافعل به غيابها عنه وماخلفه
بعده من ألم ووحدة موحشتين وظلام بارد ... إنه يقبلها قبلة الحبيب المشتاق ...قبلة العاشق الولهان ...نبض قلبه الآن تجاوز حدود المجرات لو لم يكن هناك لحم وعظم يسدان طريقه لكان حلق بعيدا منذ اللحظة التي رآها فيها ... وهي الأخرى لم تكن مشاعرها أقل منه ...فقد بادلته فورا وهي تحيط عنقه بيديها الرقيقتين وتدمج شفافهها مع خاصته ...لقد كانت كطفلة صغيرة وحيدة وجدت الحنان ...كانت كأمواج البحر الهائجة التي هدأت أخيرا ...كنيران ملتهبة إنطفأت بعد دهر ...كحجر صلب لان بسبب لمسة رقيقة ... لقد أصبح هو دواء دائها ..وملجئ أمانها ...
وبعد لحظات فصلا قبلتهما أخيرا ...وقلباهما لايزالان ينبضان بجنون ... ويدي كلاهما ترتجفان بسبب لذة طعم اللقاء ...
إبتعدا عن بعضهما قليلا لكنها لم تفلت عنقه ولا هو أفلت خصرها ... لقد إبتعدا بالقدر الذي يسمح لهما برؤية ملامح بعضهما البعض لاغير ...
ليتمتم هو بصوت هادئ يحاول إخفاء الإرتجاف به :" إحتويني فقد تقت إليك ..."
فإبتسمت هي بهدوء ثم دفنت رأسها بداخل حضنه ...وشدت عناق يديها على عنقه ...ليبادلها هو بينما يلف يديه بإحكام على خصرها وهو لايزال ممسكا بسلاحه ...يمنعها من أن تسمح حتى للهواء بأن يمر بينهما ...فقد ذاق مر الشوق وإكتفى منه والآن عليه أن يستعيد طعم حلاوة قربها منه ...حتى ولو كان في مثل هذه الظروف الغريبة وهذا اللقاء الذي لم يخطط له ولم يكن متوقعا أبدا ...لكنه القدر ...لا يمكنهما الهرب منه ... هو نبضها وهي نبضه ... لا يمكن أن ينفصلا عن بعضهما البعض ...فرغم المسافات وطول الغياب إلا أن مشاعرهما لم تنقص مقدار ذرة بل زادت بمقدار الجبال ...
"ذابت الروح إشتياقا لك ..." همست له بهدوء بجانب أذنه بينما لايزالان بأحضان بعضهما البعض ...فظهرت إبتسامة عريضة على شفتيه بعد سماع كلامها فزاد من قوة إحتضانه لها ...ليهمس لها بدوره بنفس الهدوء ...
"ذابت الروح وإحترقت ...ماتت وبعثت ...غرقت وبُعْثِرَتْ ...بغيابك ياضياء أيامي ..."
في هذه اللحظة بينما هما متعانقان يستشعران دفئ بعضهما البعض ....يزيلان حسرة الشوق ...ويعاتبان البعد على مافعله بهما ...متناسيين ذلك الشخص خلفهما ...والذي لم يستسلم رغم إطلاق لوكا على يده ...فأستغل لحظة شتاتهما ...وحمل سلاحه ملطقا رصاصة نحوهما ...رصاصة إخترقت جسدها هي ...لكنه شعر وكأنها إخترقت جسده هو ...
لقد تملكه الخوف من فقدها وتملكه الغضب الجامح لأن ذلك اللقيط تجرأ على إيذائها ...فبينما هي تكتم صرخة الألم وهي لاتزال بحضنه جذبها هو نحوه أكثر يسند جسدها على جسده حتى لا تسقط وبيده التي لا تزال تمسك السلاح يرفعها ويوجهها نحو يطلق عليه كل الرصاصات المتبقية بداخل المسدس ويفرغ معها غضبه الذي بدأ يحرق روحه من جديد ...غير مبالي بحاجته لذلك الرجل حيا كي يأخذ منه معلومات عن مفتعل الإنفجار... بعد أن نفذت رصاصاته ورأى ذلك الرجل جثة هامدة خالية من الحياة .. رمى مسدسه بسرعة وأمسك بها يبعدها عنه قليلا كي يراها ...لقد كان وجهها شاحبا ... والألم ظاهر في عينيها ...أخفض نظره ليرى يدها التي تمسك الجرح مغطاة بالدماء ...وفي هذه اللحظة بالذات شعر وكأن قلبه يتمزق إلى أشلاء ... لايمكنه تحمل رؤيتها وهي حزينة فكيف سيتحمل رؤيتها مصابة وتتألم ...إنه متجمد في مكانه ينظر إليها بأعين قلقة وقد إنقطعت أنفاسه بينما هي تنظر إليه بهدوء تحاول إخفاء الألم الذي ينهش جسدها ...لترفع بعدها يديها الصغيرتين الباردتين تحيط وجهه بهما ... وتخاطبه بصوت مرتعش :"لوكا ... إهدئ وتنفس أنا بخي...."
قبل أن تكمل كلامهما بدأت تشعر بالدوار وأصبحت ترى المكان أمامها مظلما ليبدأ بعدها جسدها بالإنزلاق من حضنه ببطئ ...لكنه سرعان ما تدارك الأمر وقام بحملها بيديه المرتجفتين ... ثم بدأ يسير بسرعة نحو طريق الخروج من الغابة ....
****
تلك الدقائق التي كان يحمل بها جسدها المتعب الهش بين يديه المرتجفتين وهو يسير نحو سيارته ...كانت كالدهر بالنسبة له ...حتى أنه شعر بأنها أطول من مدة بعدهما عن بعضهما البعض ...لقد كان يحملها وهو يهمس لها بصوت مرتعش خائف ومحب :"إياك أن تفكري في الذهاب بعيدا مجددا إياك يا أسيليا ...لا يمكن للقمر أن يعيش من دون شمسه لذا إبقى معي رجاءا ..."
وماهي لحظات حتى وصل إلى سيارته وقد كان كارل وكذلك كلود وبقية حراسه ينتظرونه ...فبعد أن فقدوا ذلك الرجل تفرقوا للبحث عنه ...لكن كارل بدل ذلك الرجل وجد كلود في المنزل الذي كانت تبقى فيه أسيليا وأخبره بما يحدث ...لذا عادوا إلى مكان السيارات قبل ساعات بعد أن فقدوا الإتصال بكل منهما ... كارل ينتظر لوكا وكلود بإنتظار أسيليا فقد كان يتوقع بأنها حتما ستقابل لوكا وأنهما سيعودان معا ...لكن لم يتوقع أن يعودا بهذه الحالة ...
فقد كان لوكا الرجل البارد القوي المتجمد ... يبدوا محطما وخائفا هذه المرة بينما يحمل أسيليا التي غطت الدماء فستانها الأحمر وأصبح وجهها شاحبا وشفتاها زرقاوتان وكان جسدها يرتجف بقوة ... ركض كلود نحوهما بسرعة وهو يصرخ بغضب ..
"ماالذي حدث لها ...ماالذي حدث لأختي ...لقد كانت بخير قبل قليل لقد ذهبت لتستنشق الهواء وكانت ستعود ...ماهذا بحق الجحيم .."
فقد كلود أعصابه تماما لرؤيتها في هذه الحالة المزرية ...لقد كان يحاول أخذها من لوكا فهو خرج عن السيطرة تماما ولم يعد يعي ما يفعله لكن كارل تقدم منه وأبعده عنهما يحاول تهدئته ...
أما لوكا فتابع سيره نحو السيارة بصمت ....
*******
بعد ربع ساعة وصلوا إلى أقرب مشفى أخيرا ... وبسرعة نزل لوكا من السيارة وهو يحملها صارخا يطالب الأطباء بالحضور ....وهاهي الآن على السرير المتنقل بدأت تفتح عينيها ببطئ بينما الممرضات يأخذنها إلى غرفة العمليات ولوكا يمسك يدها بإحكام وينظر لها بأعينه الخائفة ...فإبتسمت له بتعب ثم أشارت له برأسها كي يقترب منها ...فإقترب بسرعة وهو يخاطبها بقلق .:" ستكونين بخير ياجميلتي لن يحدث لك شيء أنت قوية وستتخطين هذا أيضا ..."
لقد كانت لاتزال تبتسم له بتعب واضح ثم همست له بكل ماتبقى لها من قوة وبصوت متقطع ..:" أنا ....آسفة ...على ..كل ...شيء..."
لتختفي بعدها عن ناظريه بعد أن وصلوا إلى غرفة العمليات ...
لقد خارت قواه تماما بعد ذهابها فأستند على الحائط بينما يمسح وجهه بيديه بقوة ....وهو يدعو الرب بداخله بأن ينقذها ولا يحرمه منها أيضا ... فقد إكتفى من الخسارات ..إنه لا يستطيع حتى التفكير الآن في إحتمالية فقدانه لها أيضا ...إنه إحتمال غير وارد بالنسبة له ...أو أنه يحاول إقناع نفسه بذلك ...
كل مايشعر به الآن هو الإختناق وكأن أحدهم يلف يديه حول عنقه ويمنع الهواء من الوصول إلى رئته...
"هل أنت بخير؟ ..آسف على ماحدث قبل قليل لقد كنت منفعلا .."
خاطبه كلود بهدوء بينما يستند على الحائط بجواره ...
لم يجد لوكا الجواب على سؤاله رغم أنه حتما ليس بخير لكنه فضل الصمت ...لاحظ كلود عدم رغبته في الكلام ومدى خوفه وقلقه الشديد عليها فأراد طمأنته قليلا رغم أنه ليس أفضل منه حالا لكن معرفته الطويلة بأسيليا تجعله متفائلا قليلا ...لذا بنبرة هادئة خاطبه ..
"لا تقلق أسيليا ليست ضعيفة ...لن تستسلم بسهولة ...لديها وعود لم تفي بها بعد ...وبحسب معرفتي لها لن تذهب إلى أي مكان قبل أن تفي بها..."
إلتفت لوكا إليه وأومأ له برأسه بصمت ...وقد شعر بقليل من الإطمئنان بداخله بعد أن سمع كلام كلود ...فهو يدرك بأنه يعرفها أفضل منه بكثير ..
*********
وفي هذه الأثناء بينما كانت أسيليا تصارع من أجل حياتها ...وكان لوكا والآخرون يشعرون بثقل كل ثانية تمر عليهم وهم فإنتظار خبر سار عنها ..كان مفتعل هذه الكوارث يجلس بداخل منزله على ذلك الكرسي الملكي يضع قدما على قدم مرتديا بذلته السوداء المزينة بأزار ماسية وخيوط ذهبية... يحمل سيجارته بين أصابعه وهو ينفث دخانها بعيدا ... ويعدل خصلات شعره البنية بيده الأخرى ... بينما كانت أعينه الخضراء تحمل نظرة إسمتاع وشفتاه تبتسمان بمكر ...بعد أن سمع خبر إصابة عزيزة الزعيم لوكاس وبأنه خلصه من مهمة قتل ذلك الرجل الذي كاد يفضح أمره ...
"أشعر بسعادة عارمة حقا الخطة التي عملت عليها لسنوات تسير تماما كما أريد ..." تمتم لنفسه بنبرة جنونية ...بينما يضع سيجارته في فمه مجددا يستنشق دخانها ...
أنه داكس المجنون ...ينتمي لعائلة سوهان ...والتي كانت تحكم عالم المافيا لسنوات قبل أن تأتي لورين تايقر وأتباعها ويقوموا بإسقاطها ...لتتحول من عائلة هامة في العالم الأسود إلى مجرد عائلة عادية تعتبر من العصابات الصغيرة ...لذا فإن داكس بدأ بمحاولة تحطيم عائلة تايقر والزعماء الستة الآخرين بعد أن تولى قيادة عشيرته ...فهو كغيره من أفراد عائلة سوهان يحمل جينات الجنون والنرجسية بداخله ...
لأنهم ولسنوات طويلة لم يتقبلوا ما حدث وكانوا يحيكون المؤامرات ويخططون للإنقلابات في كل مرة لكنهم لم ينجحوا ...فإنسحبوا من الساحة لفترة طويلة ... وفي تلك الفترة كان هو يضع الخطط ويبني ويهدم ...من أجل أن ينفذ إنتقامه على أكمل وجه ويعد مجد عائلته الضائع ...أو الذي يعتبره مسروقا من طرف آل تايقر ...
أنت تقرأ
أَزْرَقُ مُنْتَصَفِ اللَّيلْ /Midnight Blue
Romanceتحت ضوء القمر ، عند منتصف الليل ، وسط الرياح الباردة ، في مدينتي موسكو و كازان ، بينما تستمع بطلتنا أسيليا بقطف الحروف مشكلة منها باقات من النصوص المجروجة ... يستمتع بطلنا لوكا بلعبة الدماء ... كلاهما هائمان في اللاشيء ! كل منهما يحمل في طياته صفحا...