...
.
.
.
بينَ ثنايا اللِيل؛ هارِباً مِن نزيفِ قلبِه ُمحاولاً تلاشيه قبلمَا يُغرِقُه.
يكتبُ الجميعُ عن الحُب، عن هيمنةِ الجمالِ وإثارةِ الطريق،
أسكنُ في البعيدِ مُتعثِراً بِحروفِهم البالية،
وما وراءَ قضبانِ صدريَّ فجوةٌ عاريةُ الملامِحِ تبتلعُ الدمَ والمَشاعِر، تطرِقُ بالحديدِ راغبةً المزيد..
أعيشُ كُلَ يومٍ معركةً صامِتة، ثُمَ أعودُ إلى فراشي مُحملاً بِخساراتٍ لا تُعد،
أوراقٌ وحروف، وقطعةٌ أخرى مِن روحي..أستغيثُ بالنافِذة المفتوحة لِتحرير بؤسيَّ الأزلي،
كما تُحررُ ظلامَ هذِه الغرفة، أعقدُ حاجِبايَّ مُرغماً ويزدادُ فضوليَّ حولَ المنزلِ المجاور فورَ النظرِ إليهِ مِن هُنا،
وكأنهُ العدم بِحوافٍ مِن ظلام، جُزءٌ مجهول مِن مُحيطٍ ضخم، هالة كبيرة مِن مشاعرٍ باهِتة، وكأنهُ قلبي..
كائِنٌ غريب ما بِداخِله، يتغذى على خيوطِ الشمسِ التي تعبُر شقوقَ منزِلهِ المُتصدِع،
توقفَ ساعي البريد عن إيصال الجريدة اليومية إلى بابِه مُنذُ مدة طويلة،تنتشِرُ إشاعة في الحي عن الغريبِ في هذا المنزِل،
وتقولَ إحدى العجائِز بأنها شاهدَت ظِلهُ عبرَ النافِذة الأمامية لِبُرهة،
وكَ كُلِ ليلة تبدأ ذات الموسيقى بِالصدورِ مِن ذلكَ المنزِل، تلتَهِمُ أفكاريَّ بَغتةً،يعتريني شعورٌ غريب بالإنتماء، وتُقيدني رغبةٌ عارِمة بِعبورِ تِلكَ النافِذة،تَتدفَق في جوفيَّ كلماتٌ مجهولة تحاوِلُ جاهِدةً الوصولَ إلى مكانٍ ما،
أنظرُ إلى السماءِ مُثقلاً ومِن فرطِ التَعب تكادُ ملامِحي تسقُط..
يُزينُ هذا الغريب رُكامَ نفسيَّ المُحترِقة، يخدِشُ قوقعةَ وِحدتي بأنامِلٍ مِن ألحان، يُعيدُني إلى أيامٍ راحِلة،
إلى ذلكَ السؤالِ الأزلي..أينَ دفنتُ نفسيَّ؟
أسيرُ هذا المَساء بِشيءٍ مُتعب، بشيءٍ قديمٍ لم يُشفى بَعد، أسيرُ بالبعضِ مِني، وكأنَ ما بيني وبينَ الخطوةِ الأخرى أميالٌ وأميال، وما هيَ إلا إنشاتٌ قليلة،
يكتظُ شارِعُنا بالأطفال، بِصرخاتٍ مُفعمة بالحياة،
وبنبراتٍ ضجِرة يتنهدُ الجميع بعدَ أن ألقى أحدُهم بالكُرةِ داخِلَ سورِ الحديقة الأمامية لمنزِلِ الغريب،
والآن لن يجرؤ أحد على عبورِ هذا السور،تُحركُ نسماتُ الخريفِ خُصلَ شعري، ملابسي،
وذِكرى قديمة، عن طفلٍ يحبُ الحياة، يحبُ العائِلةَ والكعك، يحبُ المدرسةَ والموسيقى، وعن منزلِ مليءٍ بالأُمنيات...إنها إحدى الليالي الخافِتة، يُشارِكُني البؤسُ نِصفها وأعيشُ وحدتي بالنِصفِ الآخر،
يمتلأُ كأسي مرةً ويفرغُ مراتٍ كثيرة، أُراقِبُ التِلفازَ بأعيُنٍ مُغلفةٌ بالضجرِ،يبدوا بأني أُشبِهُ ذلكَ الرجل على التلفاز،
يدّعي بأنَّ الأشجارَ في حديقته تَتحرك كل يومٍ ثلاثة بوصات و يحاولُ إثبات ذلك،
نمتلكُ كِلانا فراغً عظيم يجعلُنا نُشارِك الأشجارَ مشاعِرها،أقفُ أمامَ النافذة بِصلابةٍ مُرهَقة،
غيرَ آبهٍ بما في داخِلي مِن إنهيارات،
تَتساقط أوراقُ الخريفِ لِتبدأ رِحلةً إلى البعيد،
أمدُ يدايَّ أُصافِحُ الرياحَ وتبدأُ موسيقى خافِتة بالإنتشارِ صادِرةً مِن ذلكَ المنزِل،
يبدوا المشهد كَمحاولةٍ لِلإنتحار،
كيفَ لِمكانٍ يفيضُ بالأُمنيات أن يتحولَ إلى كمٍ هائِل مِن الظلام؟أديرُ برأسيَّ ناحية النافِذة المفتوحة لأولِ مرة مُنذ أربع سنوات،
تسقطُ عينايَّ بِبطءٍ على فتىً بأوآخرِ العشرين،
بشعرٍ أسودَ كَريشِ غُرابٍ أنهكهُ السفَر وبِبشرةٍ باهتة،
هالاتُ مُرعِبة تُحاصِرُ عيناه وبجمودٍ لا تَتحركانِ مِن على وجهي،ثمَ يزدادُ الأمرُ غرابةً بعدَ إبتسامتِهِ الهادِئة،
أما عني..
كُنتُ أرددُ في أعماقي كلماتً تائِهة،
هذا هوَ غريبُ الأربع سنوات، والموسيقى اليومية،
مَن يسكنُ منزِل الغراب..________________________________النائِي_
447