الفصل الثالث عشر ♡

4.3K 125 54
                                    

الفصل الثالث عشر ♡
-"مُقيَّد بسلاسِل عِشقك".

-(إتصالٌ هاتفي جاءها أثناء نومها في غرفتها بعد أن أصر والدها على نومها في منزلهم بدلًا من المشفى كما كانت تريد هي، ففاقت فورًا بسبب عدم راحتها في النوم من الأساس، وأمسكت هاتفها فوجدت اسم والدها يُنير الشاشة، ليخفق قلبها ارتباكًا مما سيلقيه على مسامعها.. سواء كان خبر جيد أم...! فوالدها لم يهاتفها ولو مرة أثناء الصباح بفترة الحادث.. وكونه يتصل فهذا يعني أن هناك خبر جديد يخص "أرسلان"!
ضغطت على زر الإجابة بتوجُّس مُرعِب، ثم وضعت الهاتف على أذنها في خوفٍ اتضح على جسدها المُرتعش.. ولم تقدر حتى على إخراج صوتها لتسأله عما حدث ليتصل بها الساعة السادسة صباحًا!
ولكن آتاها صوت والدها مُبتهِجًا.. سعيدًا.. يضفي الراحة على قلبها بعد ثلاثة أسابيع قضتهم في عذابٍ نفسي:
-«أرسلان فـاق يا حـيـاة!».
كيف لجملة من أربعة كلمات أن تُبدِّل حالها مائة وثمانون درجة؟
كيف لجملة من أربعة كلمات أن تخلق لها جناحات منسوجة من خيوط السعادة الحريرية؟
هذا أول ما خطر ببالها ما إن ألقى عليها والدها أعذب كلمات قد استمعت لها يومًا في حياتها.. ولكن رُعبها المتحكم بها لم يجعلها تتمتع بتلك السعادة التي حلَّت عليها فجأة.. فسألته بشكٍ يرفض التعلُّق بحبال الأمل المُتهالِكة:
-«إنت بتتكلم بجد يا بابا..!!!؟».
اتسعت ابتسامة "محمد" وقال بعتابٍ بسيط:
-«هو أنا ههزر في حاجة زي دي؟».
عاد وتشدق بحماسٍ:
-«يلا قومي البسي وتعالي فورًا».
اتسعت ابتسامتها شيئًا في شيءٍ، حتى أجفلت والدها حين صرخت فجأة بسعادة عارمة، قبل أن تقول بلهفة عاشقة، وهي تحوم حول نفسها بعشوائية، وقد أثر السرور على عقلها فباتت تتحرك بلا هوادة لا تعلم ما الذي عليها فعله، ولكن هذا لم يمنعها من قول:
-«أنا في الطريق أهو!».
قهقه عليها والدها براحة بال، سعيدًا بفرحة ابنته الظاهرة في صوتها، وناغشها بقولهِ:
-«لحقتِ خلاص تبقي في الطريق!!؟».
صححت حديثها بسرعة وهي ترتدي إحدى الفساتين اختصارًا للوقت:
-«أقصد هلبس وجاية.. يلا سلام بقى متعطلنيش!».
هتفت جملتها الأخيرة بأعصابٍ مشدودة لشعورها بالضياع، فقهقه وأغلق الهاتف ثم دلف لغرفة "أرسلان" مرة أخرى للإطمئنان عليه..

بينما انتهت "حياة" من ارتداء ملابسها في سرعة رهيبة، ثم خرجت من غرفتها وارتادت السلالم تتقافز فوقهم بسرعة جنونية وكأنها تتسابق مع الزمن للوصول لحبيبها والاطمئنان عليه بقلبها قبل عينيها..
استقلت سيارتها وقادتها نحو المشفى على أقصى سرعة.. حتى وصلت في وقتٍ قياسي، فركضت نحو المصعد واستقلته صاعدة لغرفته.. رغم أن الغرفة ليست بطابق عالٍ ألا أنها رفضت إضاعة الوقت في سلالم كبيرة سخيفة.. فالثانية تفرق لها بهذه الحالة..
توقف المصعد عند الطابق المنشود، فأسرعت "حياة" بالخروج منه والركض نحو الغرفة التي يمكث بها "أرسلان".. حتى توقفت على بُعد إنشٍ واحدٍ من الباب المُغلق الحائل بينهما.. يرتجف قلبها في جانبها الأيسر مُحدثًا زلزالًا عصف بأرضها.. وعيناها تنغلق على ذاتها بقوة.. وكأنها تخشى اكتشاف حقيقة أنها في حُلمٍ وردي من صنع ذهنها المشغول به.. وستفتح الغرفة لتكتشف أنه ما زال غائبًا عن عالمها.. تارِكًا إياها تواجه وحشة أيامها بمفردها كريشة خفيفة في مهب الرياح العاتية.. فردت كفها على الباب الذي يفصل بينها وبين رؤياه.. واستندت بجبينها فوقه في وهنٍ لتتمالك نفسها وتستعيد رباطة جأشها.. قبل التأكُّد مما تعيشه.. هل هو حُلمٌ وهمي.. أم واقع مُبهج، مُريح ينتظرها؟
استقامت في وقفتها وحرَّكت كفها المُرتعش لتضعه فوق المقبض.. تُشدد عليه بضعفٍ تستجدي منه أن يمدها بعض القوة لتقابل حبيبها بشكلٍ مُلائم بعد تلك الغيبة..
سحبت المقبض للأسفل لينفتح أمامها.. ويظهر هو من خلفه.. مُستلقيًا على فراشٍ لعين تحيط به الأجهزة الطبية كالحصن المنيع.. رفعت عيناها ببطءٍ لتستقر فوق عينيه.. المفتوحتين!
عيناه مفتوحتان للمرة الأولى منذ ثلاثة أسابيع!
حـن قلبه عليها بعد ليالٍ عجاف وأشرق عليها بشمسها الكامنة في عينيه.. يعطيها دليلًا على مشاركته لها أرض الأحياء بعد أن ظل عالِقًا في المنتصف.. وهي معه بالتبعية وِفقًا لميثاق الحب الغليظ الرابط بين قلبيهما..
فامتلأت عيناها بدموعٍ لم تجف طوال تلك المُدة.. وانفلتت منها شهقة مؤلمة كتمتها بأناملها المُرتجفة تأثُّـرًا بلقاء الأعين بعد فترة من الحرمان..
أما عنه هو.. فقد شعر أن روحه التي سُلِبت منه على حين غفلة ردت إليه برؤياها التي أعادت لقلبه نبضاته الهاربة.. وشعر بكلِّ خلية في جسده تتشنَّج حُزنًا لعدم قدرته على النهوض والغوص في أحضانها كما تتوق روحه.. فعقد حاجبيه إنزعاجًا وقبض على ملاءة فراشه البيضاء في قهرٍ لعدم مقدرته على إزاحة دموعها التي تتسابق لتتقافز على وجهها ذو السمرة المحببة له ولقلبه المُتيَّم بها والهائم بتفاصيلها.. لم يستطع فردًا من المتواجدين على زعزعة تواصلهما البصريّ.. ولم ينتبها للعالم من حولهما أو بأصدقائه الذين شعروا بالإحراج فخرجوا واحدًا تلو الآخر..
أما والدها فاقترب منه ووقف بمحازاتها وجهه مقابلًا لوجهها، ثم مسد على ذراعها في حنوٍ بالغ وابتسامة بشوشة تُزيِّن محياه.. فبادلته هي النظر ببسمة مُرتجفة كانت تحمل عدم التصديق.. فربت على كتفها قبل أن يخرج هو الآخر تارِكًا لهما بعض المساحة..
اقتربت من فراشهِ وجلست بجانبه، وتحرَّك كفها يبحث عن كفهِ بلهفة.. حتى وجد ضالته.. فأمسكته بكلِّ قوتها وانهارت على كتفه بعد أن اجتاحتها نوبة بُكاء مريرة.. تشتكِ له في صمتٍ عما عاشته من عذابٍ في غيابه عنها.. رفع يده الحرة ببطءٍ وحركها على شعرها برقة منافية للقبضة القوية التي تعتصر قلبه بين ضلوعه على حالتها.. وتحرَّكت شفتاه تهمس اسمها في خفوتٍ:
-«حياة».
على عكس ما توقع ازداد انهيارها أكثر فوق صدره بعد أن استمعت لصوته الذي حُرِمت منه بمنتهى القسوة..  فابتسم بمرارة وقال:
-«مش هتوريني وشك يعني؟».
رفعت رأسها ببطءٍ تواجه عيناه الآسرتان عن قُرب، فرفعت يداها تحاوط وجهه المنحوت بمثالية، تفضي بقليلٍ مما تمتلئ به جُعبتها:
-«مش قادرة أصدق إنك فوقت.. كل ساعة، كل دقيقة، وكل ثانية كانوا بيعدوا عليا كنت بموت فيهم بالبطيء.. كنت خايفة ومرعوبة إني أخسرك.. مكنتش عارفة أنام أو آكل أو أشرب أو أعيش حياتي وإنت بعيد عني.. قلبي اتخطف مني في لحظة يا أرسلان.. ومرجعليش غير لما شوفت عيونك دلوقتي!».
أنهت حديثها واستندت بجبينها فوق جبينه المُجعد بحزنٍ اختلج قلبه لما عاشته حبيبته؛ بينما يديها يرفضان إطلاق سراح وجهه.. وكأنها تخشى أن يهوى من بين كفيها كالسراب.. وقد وصلت مخاوفها لـ "أرسلان" الذي رغب بطمئنتها فسحب رأسها مما أجبرها على ترك وجهه.. ثم دفنها في صدره برفق وبيده الأخرى حاوط ظهرها؛ كي يضمها أكثر إليه ليبث الأمان لقلبها الخائف.. وصوته الهادئ يهمس في أذنها في لُطفٍ جم هـوَّن على قلبها قسوة لياليه الماضية:
-«متخافيش يا حبيبتي، أنا معاكِ دلوقتي.. وهفضل معاكِ دايمًا.. ومش هسيبك أبدًا».
رفع رأسها قليلًا ليستطيع طبع قبلة حانية فوق جبينها، قبل أن يعيدها لمكانها الأصلي.. نحو قلبه، لتجيبه هي في ضعفٍ:
-«أنا هموت لو حصلك حاجة يا أرسلان!».
شـدد من احتضانها رغم ألم صدره بسبب الجرح، وتمتم بضيقٍ:
-«بعد الشر عليكِ يا حبيبتي، متجبيش سيـرة الموت تاني على لسانك!».
أراد أن يُبدد تلك الطاقة السلبية والأجواء الكئيبة التي تحيط بهما، فناكفها بوقاحة:
-«وبعدين احنا مش عايزين نموت دلوقتي، دا أنا معملتش حاجة لسه غير إني حضنتك بعد ما حضرتك اتكرمتِ عليا عشان أنا كنت بين الحياة والموت كمان! إحنا لسه عايزين نتجوز..».
غمز لها وأردف بنبرة ذات مغزى:
-«ونخلِّف، عشان نجيب لأبوكِ كومة عيال كده يلعب بيهم!».
ابتعدت عنه تداري خجلها بالغضب، حيث لكزته في كتفه أثناء قولها الحانق:
-«إوعى يا أرسلان وإنت قليل الأدب كده.. إنت في إيه ولا في إيه أساسًا؟!».
تأوه بمسكنة مُدعيًا إصابتها للجرح أثناء ضربه، فلكزته مرة أخرى بغيظٍ:
-«بطَّل تمثيل! أنا ضربتك ناحية اليمين والجرح بتاعك ناحية الشمال!».
برر لنفسه بطريقة طفولية تراه يتحدث بها للمرة الأولى:
-«ما هو الجرح مسمع في جسمي كله!».
اعتدلت في جلستها وتكتفت تقول بسخرية:
-«ويا ترى مسمع في وشك ولا لأ؟».
خبأ وجهه بيديه وكأنه يحميه من بطشها، ورد بسخرية مماثلة:
-«مش مستغرب، طول عمرك متغاظة من وشي وغيرانة إني أحلى منك!».
أنزل يداه من على وجهه، وربت على كتفها بخشونة، مُضيفًا بسماجة:
-«معلش بقى يا حبيبتي، مفيش مخدة بتشيل اتنين حلوين!».
-«روح نام تاني!».
صرخت "حياة" بغيظ وهي تكمم وجهه بالوسادة، فتعالت قهقهاته وشعر بالراحة تغزوه بعد أن شتت ذهنها أخيرًا عن الوجع الذي أغرقت نفسها بها بالفترة الماضية..

مُقيَّد بسلاسل عِشقك | ملك هشام شاهينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن