الفصل السادس عشر ♡
-"مُقيَّد بسلاسِل عِشقك".صراخ أنثوي مُلتاع خرج متلويًا برعبٍ من حنجرتها التي جُرِحت من قوة صرختها المدوية، التي كتمتها تلك اليد القوية التي سارعت بتكميم فمها بشدة كادت أن تقضي على أنفاسها التي خفتت بشكلٍ ملحوظٍ مع مرور الثواني.. وكل ذلك قد حدث بسرعة البرق بطريقة جعلت عقلها في حالة شلل مؤقت، وقلبها يتلوى في جانبها الأيسر ارتعابًا من ذلك الموقف المهيب الذي لم تتعرض له من قبل!
تحرك بها الرجل نحو إحدى الغرف، يسيطر عليها بصعوبة بسبب تملمها المستميت بين يديه، قابلته إمرأة على باب الغرفة تمد له يدها بقطعة قماش بيضاء مملوءة بمُخدِّرٍ ما ليفقدها وعيها، تزامنًا مع قولها:
-«خد اكتم بوءها بيها بسرعة بدل ما تفضحنا!».
ثانية.. ثانية حميدة فرقت في حياتها وأعطتها فرصة عظيمة للتملُّص من نهاية مأساوية لحياتها التعيسة، حيث استغلت تلك اللحظة التي أفلت يدًا واحدة عنها، فسارعت بإمساك زجاجة خمر فارغة كانت موضوعة فوق حاوية الأحذية الملاصقة لباب الغرفة، ونزلت بها فوق خشب الحاوية لتنكسر، ثم ضربتها بغلٍ تلقائي وعشوائية في وجهه بعنفٍ لم تكن تتخيل أن يصدر منها يومًا، ولكن غريزة البقاء لديها هي من تجسدتها بتلك اللحظة وأنقذتها من مجهولٍ مخيف.
ابتعد عنها الرجل فورًا صارخًا بفزعٍ وألم لا مثيل له، فاستغلت الفرصة ودفعت المرأة التي اقتربت منها بشرٍ بقدمها لتتراجع للخلف ساقطة على ظهرها، وهي تنعتها بأفظع الشتائم، ولم تنتظر "شجن" لثانية واحدة، بل أطلقت العنان لقدميها التي لا تعلم كيف قادتها نحو الخارج بتلك السرعة، أو من أين آتت بالقوة المطلوبة لتلك اللحظة!!
خرجت من المنزل بسرعة أكبر والمرأة خلفها تلاحقها، فارتفع الأدرينالين لديها، ودقات قلبها تكاد تصم أذنيها، ورئتيها بالكاد تعمل بشكلٍ صحيح.. ولكن حاوطتها حماية ربها وأنقذتها من تلك البراثن المجهولة الهوية، حين اندفعت خارجة من المبنى واحتمت بوجود الناس في ذلك الحي المليء بالناس، فوقفت على عدة خطوات من ذلك المبنى الأكثر رعبًا من المنازل المسكونة، تلتقط أنفاسها المسلوبة بصعوبة، وأعينها المتسعة على آخرهما تنظر نحو تلك المرأة التي وقفت على باب الفناء تناظرها بعيون تتطاير منها شرارات الغضب، فعادت "شجن" بقدميها تلقائيًا للخلف قبل أن تجبر نفسها على كسر ذلك التواصل البصري المخيف بينهما، وتشير لإحدى وسائل المواصلات الشعبية "توك توك"، وتقفز بداخله وهي لا تصدق أنها نجت ونفذت بجلدها من مصيرٍ سيء جدًا لها، ولم تعرف حتى تلك اللحظة ما الذي كانوا سيفعلونه بها لو لم تنقذها رحمة ربها ورعايته......!!*************************
صف "حمزة" سيارته السوداء الكلاسيكية أمام الڤيلا، ولم يترجل منها بل ظل مكانه يحدق في ذلك المكان الذي احتوى طفولته ومراهقته وشبابه..
ذلك المكان الذي يُجبر على تركه الآن بكلَّ قسوة، وترك كل أحباؤه معه!
تنهيدة مثقلة بالهموم شقت طريقها للعلن، بعد أن طأطأ برأسهِ في اغتمامٍ، يشكو صامتًا من ظلمٍ يتعرض له للمرة الثانية؛ ولكنه يعلم يقينًا بأن "أرسلان" محقٌ تمامًا، فمَن الرجُل الطبيعي ذو النخوة الذي سيترك رجُل عاشق يحوم حول فتاةٍ من دمه؟
إن كان بمكانهِ لكان فعل تمامًا ما فعله، بل وأكثر.. أسوأ !
هائمٌ هو على وجههِ، متأرجحٌ بين خيارين كلٍّ منهما أصعب من الآخر.. وكلاهما يحملان نفس النتيجة.. إعدام روحه، ليصبح كجثة هامدة لم تدب الروح فيها من قبل!
تنهيدة أخرى مختلفة عما قبلها.. تنهيدة حاسمة خرجت منه، قبل أن يترجل من السيارة في جمودٍ، ويتجه نحو ذاك المنزل الذي أصبح غريبٌ سريعًا، ثم أدخل يده في جيبه يخرج مفاتيحه، وفتح الباب متوجهًا نحو غرفة المعيشة حيث سمع أصواتهم.
-«مساء الخير».
ردوا عليه المساء، بينما سألته والدته باهتمام، وهي تمسح على شعره في اشتياقٍ بالغ حيث لا تراه كثيرًا لانغماسه في العمل:
-«عامل ايه يا حبيبي؟ وحشتني أوي».
أمسك يدها التي صارت تسير على خده، وطبع قبلة خفيفة تحمل في طياتها التأثُّر، بينما حاول إخراج صوته طبيعيًا:
-«كله تمام يا حبيبتي الحمدللّٰه، وإنتِ كمان وحشتيني أوي».
أنزل يدها واحتواها بيده الأخرى، متشدقًا:
-«أنا آسف يا ماما، عارف إني كنت مشغول عنك الفترة اللي فاتت دي».
-«ربنا يعينك يا ابني ويخليك ليا».
رد والده هذه المرة، فابتسم له وظل صامتًا، وفجأة كل الحروف طارت من عقله فأصبح كطفلٍ صغيرٍ لم يتعلم الكلام بعد.. فالموقف صعب عليه وعلى قلبه تحديدًا..
بينما انتبهت "نجمة" لشروده، فسألته مستفسرة:
-«مالك يا حمزة؟ شكلك فيك حاجة!»
أطال النظر إلى وجهها الجميل الذي أبدع الله في خلقه، ثم سحب نفسًا عميقًا واستجمع شتات نفسه، ونبس بكل هدوءٍ:
-«أنا قررت إني هسيب البيت».
-«إيه!!».
صرختا "نجمة" و"رانيا" بجزعٍ؛ بينما سألته الثانية بلهفة يملؤها الفجع:
-«تمشي إزاي يعني، تمشي ليه؟؟ وهتروح فين!!؟».
ما زال الآخر مُتمسِكًا بهدوءه كقناعٍ يخفي ما يحدث في عقله من إنفعالاتٍ مؤلمة:
-«ماما، أنا خلاص داخل على التلاتين سنة، مفيش راجل شحط عنده 30 سنة لسه عايش مع أهله لحد دلوقتي، أنا مش عيل صغير! وبعدين أنا مقولتش هـهاجر، أنا هروح أقعد في شقتنا اللي في المعادي، وهاجي أزوركم عادي كل يوم تقريبًا، مش هتحسوا بغيابي أصلًا!».
-«مش هنحس بغيابك!».
استنكرت "رانيا" في استهجانٍ ساخر، ثم تابعت حديثها باحتدامٍ:
-«حمزة، إنت عايش معانا واحنا بالفعل مش حاسين بوجودك حوالينا..! وبتقول هتيجي تزورنا؟ هه، ده أنا بشوفك بالصدفة من كتر إنشغالك!».
وقبل أن يرد عليها، سألته "نجمة" باغتمامٍ، سؤالٌ ضربه في مقتل:
-«وهتقدر تسيبنا يا حمزة!؟».
تجاهل تلك الوغزة التي ضربت صدره بوحشة، ورد بحدة:
-«فيه إيه يا جماعة؟ هو أنا قولتلكم أنا مش عايز أعرفكم تاني وهطلع من حياتكم! أنا مقولتش حاجة غريبة على فكرة، كل اللي في سني ومش متجوزين بيبقوا عايشين لوحدهم!».
صمت قليلًا ثم تشدق بصوت أهدأ:
-«وصدقوني مفيش حاجة هتتغير في علاقتنا، أنا لسه ابنكم زي ما أنا، وبرضو هفضل أخوكِ وسندك وفي ضهرك طول الوقت يا نجمة».
خدع نفسه أولًا قبل أن يخدعهم بجملته الأخيرة، مُسببًا لنفسه آلامٍ تفوق قدرة الإنسان على تحملها.. بينما قابلت الأخرى حديثه بابتسامة ساخرة، ثم وقفت قائلة بهدوءٍ مُعذِّب يلي الحزن الشديد:
-«اللي يريحك يا حمزة، عن إذنكم يا جماعة أنا طالعة أنام عشان تعبانة، تصبحوا على خير».
حدق في أثرها بوجعٍ مضني طال روحه المشوهة، وتنهد بحسرة لعدم تحقق أمنيته، فقد كان يرغب باختلاس عناقٍ أخير منها يسقي به قلبه العطش لارتواء قطرة من محبوبه، قبل أن يصوم عنه للأبد، ولكن واضح أن حبيبته القاسية أمرت بقتله حيًّا حينما سارت مبتعدة عنه..
فنكس برأسهِ في اغتمامٍ شجيّ، قبل أن ينتشله صوت والدته الذي كان يملؤه عدم التصديق:
-«هو كده خلاص يعني! لأ أنا مش موافقة، مستحيل الكلام ده يحصل، أنا ابني ميبعدش عن حضني أبدًا».
وأخيرًا نطق "سالم" الذي كان يتخذ الصمت مُعينًا له، وكان يراقب الموقف ويُقيّمه في عقلهِ قبل أن يُبدي رأيه بحكمةٍ:
-«إهدي يا رانيا بعد إذنك.. حمزة، تعالالي مكتبي!».
جن جنون "رانيا" فاستشاطت غضبًا وهي تسأله باهتياجٍ:
-«ييجي مكتبك ليه يعني؟ هتكلمه في ايه ومش عايزني أسمع كلامكم يعني!!».
استخدم معها الحدة التي نادرًا ما يعاملها بها:
-«رانيا بعد إذنك! أنا سيبتك إنتِ وبنتك تتكلموا ومفتحتش بوءي، ودلوقتي أنا عايز أتكلم مع ابني.. لوحدنا! يلا يا حمزة».
أنهى حديثه ونهض من مكانه متوجهًا نحو مكتبه، فنهض "حمزة" بالتبعية، ولكن قبل أن يتوجه لأبيه، مال على رأس والدته يقبلها بأسفٍ أثناء قوله:
-«متزعليش مني يا أمي».
لم يُعطيها فرصة للرد، بل سار نحو مكتب والده حتى دخله، ثم أغلق الباب وجلس على الأريكة بجانب "سالم"، بادئًا الحديث بأدبٍ:
-«نعم يا بابا؟».
رد عليه مستفسرًا استفسار أثار استغراب "حمزة":
-«عايز تسيب البيت ليه يا حمزة؟».
-«ما أنا لسه قايل، عشان آآ..».
قاطعه "سالم" ببسمةٍ خفيفة:
-«سيبك من الكلام اللي إنت قولته برا ده عشان أنا مشترتهوش بربع جنيه، اللي ربى خير من اللي اشترى يا ابني، فممكن بقى تقولي ايه السبب الحقيقي ورا رغبتك في إنك تسيب البيت!؟».
أخفض "حمزة" رأسه لجزء من الثانية مُبتسمًا في حرجٍ طفيف، قائلًا:
-«قافشني إنت كده دايمًا يا حاج!».
ضربه "سالم" على مؤخرة عنقه بخفة، ممازحًا:
-«عيب عليك يالا، ده أنا قافشك من ساعة ما كنت بتستخبى في الجنينة من ورا ، عشان تشرب السجاير وإنت عندك 16 سنة!».
توسعت أعيُن "حمزة" على آخرهما من الصدمة، وتفوه بذهولٍ:
-«إنت كنت تعرف، ماما قالتلك!!؟».
ضحك "سالم" ملئ فاهه، ورد مقهقهًا:
-«لأ، أنا اللي قولت لأمك وخليتها هي تكلمك، وتهددك إنك لو عملتها تاني هتيجي تقولي، عشان يبقى عندك حاجة تهابها.. لكن لو كنت أنا اللي جيت قولتلك إني شوفتك كنت خلاص هتبجح، وهتكون رهبة إنك تتقفش مني راحت!».
-«أنا حاسس إني كنت مختوم على قفايا الفترة دي كلها!».
رد "حمزة" بطريقة مُغيَّبة وكان لا زال شعور الصدمة مُتملِّك منه تمامًا.. فتعالت ضحكات والده حتى هدأت تدريجيًا، وكرر سؤاله مُجددًا:
-«ها بقى، عايز تسيب البيت ليه يا سي حمزة!؟».
شعر الآخر بأنه لا مفر، فقرر أن يُخبره بالحقيقة المُجملة:
-«بصراحة يا بابا.. أنا عايز أسيب البيت بسبب نجمة!».
تكاثرت علامات الاستفهام فوق وجه "سالم"، فأجابها "حمزة" قبل أن ينطق الأول بها:
-«بص أولًا وقبل أي حاجة، إنت أكيد مُدرِك طبعًا وعارف قد إيه أنا بحبكم، وعارف انتوا عندي ايه، وإنكم من ساعة ما اتبنتوني وأنا عمري ما حسيت للحظة بإني مش ابنكم، ولا حتى بعد ما نجمة جات معاملتكم اتغيرت معايا.. بس برضو ده مينكرش حقيقة إن أنا مش ابنكم الحقيقي، ونجمة مش... أختي! ونجمة كبرت يا بابا، وأنا بصراحة بقيت مستحرم عيشتي معاها، وخصوصًا إنها بتتعامل معايا بأريحية تامة.. كأخوها طبعًا».
نكس "سالم" رأسه، مُدلِكًا إياها بإصبعيه، يحاول أن يستوعب الأمر من ذلك المنظور!
طوال عمره أثناء تربيته لهما وهو يراهما كأشقاء يربطهما الدم، لم يُفرق بينهما أبدًا، ولم يتذكر تلك الحقيقة يومًا بسبب شدة اعتناقه لكذبة أن "حمزة" ابنه من صلبهِ.. ولكن عندما أصاغها بتلك الطريقة، ضربته صاعقة الحقيقة، تاركة إياه في حيرة من أمرهِ.. قبل أن يلملم شتات نفسه قليلًا، ويرد:
-«بس أنا واثق فيك يا حمزة!».
أصاب الآخر خجلًا قاتلًا أشعره بالعار من نفسه، وأحتاج منه الأمر عدة ثوانٍ حتى يستطيع مجابهة تلك "الثقة" التي لا يستحقها، فتحدث قائلًا ببسمة مرتعشة:
-«أنا عارف يا حبيبي، بس أنا مش بتكلم في الثقة، أنا بتكلم في الحرمانية!».
-«طب احنا ممكن نقولها الحقيقة خلاص عشان تبقى تتعامل معاك على أساسها.. نجمة كبرت دلوقتي وهتتصرف بعقلانية ناحية الموضوع، احنا خبينا عليها وهي صغيرة عشان خوفنا إنها تعاملك بطريقة مش كويسة.. مش قصدي حاجة وحشة، بس إنت عارف تفكير الأطفال!».
أجفل "حمزة" وتوتر من اقتراحه الذي لم يتوقعه أبدًا، ورفض تلك الفكرة تمامًا:
-«لأ طبعًا ! دي نجمة ممكن تقاطعنا لو عرفت إن احنا خبينا عليها الحقيقة دي لعشرين سنة!!».
رد الآخر بعقلانية:
-«مش لدرجة تقاطعنا يا حمزة! هي آه هتتأثر وهتزعل فترة بس بعد كده هتهدى والمشكلة هتتحل!».
ارتعد "حمزة" من مجرد فكرة معرفتها بالأمر، فرفض رفضًا قاطعًا، وحاول أن يسيطر على التوتر الذي كاد أن يُهيمن على نبرة صوته:
-«لأ يا بابا أنا مش عايزها تعرف، أنا مرتاح للقرار اللي أنا خدته أكتر مع احترامي لحضرتك».
خلل أصابعه في خصلات شعره بحركة لا إرادية، وأكمل:
-«وكمان أنا فعلًا مكدبتش في اللي أنا قولته برا.. عشان ده بالفعل جزء من رغبتي في إني أسيب البيت».
ربت على كتفه في حنوٍ بالغ، قائلًا باستسلام:
-«خلاص يا ابني اللي يريحك!».
لم يشعر "حمزة" بنفسه سوى وهو يُلقي بنفسه في أحضان والده بتعبٍ مضني، يستمد منه القوة والأمان الذي أصبح يفتقر إليهما.. فمهما كبر الإنسان لا زال يحتاج إلى هذا العناق تحديدًا ليرمي بكل أفكاره المسمومة، وإنفعالاته المكتومة نحو ذلك الملجأ الآمن الرادع دومًا لكلِّ مخاوفنا..
مهما كبر الإنسان واشتد عوده يحتاج إلى.. والده!
أنت تقرأ
مُقيَّد بسلاسل عِشقك | ملك هشام شاهين
Romanceأنتِ نجمتي الوحيدة في سمائي المُلبدة بالغيوم؛ أنتِ بالنسبة لي كثمرة آدم المُحرمة.. فها أنتِ معي وبين يداي ولكنكِ بعيدة كل البُعدِ عني! نار يناشدها قلبي المُتهالِك بألم عشقك، فلا أنا معك وكذلك لا أستطيع إخراجك من قلبي المُتيم بكِ، لأظل كما أنا.. مُـ...