الفصل السابع عشر

1.1K 56 35
                                    

الفصل السابع عشر. ♡
-"مُقيَّد بسلاسِل عشقك".

من أصعب المشاعر التي تراود الإنسان.. أن يكون أقرب الناس إليك لا يفهمونك.. لا يستطيعون ترجمة مشاعرك وتقبُّلها.. بل يهزأون منها.. يصدرون الأحكام عليك دون أن يشعرون بك أو يضعون أنفسهم مكانك.. دون أن يعيشون ما عشته أنت..

وكان هذا بالضبط شعور "حياة" نحو والدتها.. تلك المرأة القاسية الصارمة.. التي لا تأبه بقلب ابنتها المنغمس في آلام العشق والفراق.. فتأمرها بذلك وذاك دون أن تعير روحها المتألمة أي أهمية..

كما حكمت الآن عليها بقرارها الأخير.. سيظلون بـ "مصر".. هكذا بتلك البساطة... تضعها في نفس السجن مع حبها الأول والأخير الغائب عنها بقسوة.. وتأمرها بتقبُّل الأمر بسعة صدر..
تفتقد أباها بشدّة.. هو الوحيد الذي كان يفهمها بحقّ.. كان يتفهم مشاعرها ويحترمها.. كان يساعدها على تخطي كل أزماتها.. كان يستمع لها ويعطيها نصيحته كصديقٍ وخبرته كأب..
كان وكان وكان.. ولكنه لم يعد...!

*************************

نهض "حمزة" مُتكاسِلًا يُجيب الطارق على الباب، وهو يراوده الاستغراب، فمَن الذي سيزوره هنا؟ لا يعلم أحد بوجوده سوى أهله وبالتأكيد لن يأتِ أحد هنا.. و"سليم" بالفعل قد آتى وزاره ورحل..
تنهد بعدم اكتراث وفتح الباب، ليُفاجئ بـ "أرسلان" في وجههِ.. فامتعضت ملامحه وتركه سائرًا نحو غرفة المعيشة وهو يهتف بتبرُّم:
-«إيه اللي جابك هنا؟ جاي تتأكد إني عملت اللي أمرتني بيه يا أرسلان باشا؟».
تنهد "أرسلان" بغضب، وأغلق الباب ثم سار وراءه هو الآخر، ليُجيبه بسخرية:
-«لأ جاي أشوف ابن أختي، وأملي عيني بطلته البهية!».
وقف "حمزة" ووضع يداه في جيوبه، يحادثه مستنكرًا:
-«بس متقولش ابن أختي بس! عشان إنت وضحت كويس أوي إن أنا مليش علاقة بيكم!».
نجح حديثه في استفزاز الآخر الذي ضرب قبضته في كتفه بخشونة، هادرًا بعصبية:
-«إنت عبيط يا حمزة ولا شكلك كده! هو ده اللي إنت فهمته من كلامي؟؟ أنا مجرد راجل عنده نخوة غيران على بنت من لحمه ودمه.. وعلى فكرة إنت من ساعة ما صارحتني بمشاعرك وأنا مكنتش ضدك، بالعكس.. أنا كنت مستنيك وبشجعك على إنك تاخد خطوة لقدام، وإنت اللي رفضت.. فمعلش بقى متآخذنيش إن حبيت أعمل التصرف السليم في وضع زي ده! إنت خدت قرارك بعدم المواجهة وهربت، وأنا خدت قرار إنك مينفعش تعيش معاها وإنت في قلبك المشاعر دي ليها.. واحدة بواحدة يا معلم! وعلى فكرة.. قرارك ده غبي وهتندم عليه وعلِّم على كلامي ده كويس يا حمزة وخليك فاكره كويس.. عشان لما نجمة تعرف الحقيقة.. وهتعرف على فكرة مفيش سر بيستخبى طول العمر.. ابقى قول أرسلان قال! بس ساعتها هي مش هتقبل تبص في وشك حتى!».
طالعه من رأسه لأخمض قدميه بخيبة أمل، وبصق بتلك الكلمة في وجهه:
-«إنت جبان يا حمزة!».
احتدت نظرات عيناه وازدادت قتامة تدُل على غضبه المستعر، فاقترب منه على حين غفلة، ورفع سبابته في وجهه، يصرخ أمام عينيه بانفعال:
-«إنت معشتش اللي أنا عشته من ساعة ما جيت على وش الدنيا دي، إنت معملتش مصيبة في حياتك تستاهل عليها القتـ.ـل.. زي إنك حبيت واحدة فاكراك أخوها.. فمتجيش تحكم عليا إني جبان وإنت عمرك ما اتحطيت مكاني في يوم!».
التفت بجسده معطيه ظهره، وهو يتابع حديثه بجنونٍ ارتكز في عينيه:
-«أنا مش فاهم إزاي كلكم بتطلبوا مني بكل برود إني أروح وأقولها..».
حمحم وغير نبرة صوته ليخرجها مائعة كنوع من أنواع السخرية:
-«هاي نجمة عاملة ايه، أنا مش أخوكِ وبحبِّك وعايز أتجوِّزك.. يلا نهارك سعيد!».
عاد لنبرته الهائجة مرة أخرى، صائحًا بانفعالٍ:
-«عادي كده.. وكأن الموضوع سهل! ولما معملش كده تيجي حضرتك تقولي.. إنت جبان، إنت مبتقدرش على المواجهة وبتهرب منها!».
تراجع "أرسلان" في هجومه عندما رأى انهياره، ونظر للموضوع من وجهة نظره، فشعر ببعض التعاطف نحوه، وهدأت نبرته وهو يشرح له حديثه:
-«أنا مقولتش كده يا حمزة، وأنا عارف إن الموضوع مش سهل.. وأنا مطلبتش منك إنك تروح تفاجأها كده خبط لزق بالموضوع! أنا قولت تمهدلها.. يعني تبدأ مثلًا بإنك تعرفها إنك مش أخوها!».
-«يا سيدي وأنا مش عايز! ومحدش ليه دعوة بأي حاجة أهببها في حياتي! بقولك إيه يا أرسلان.. أنا مش عملت اللي إنت طلبته مني وسيبت البيت؟ عايز مني إيه تاني؟ تحب أروح أقولهم أنا مش عايز أعرفكم تاني، ولا أنت أبويا ولا أنتِ أمي، وأسيب شغلي في الشركة كمان بالمرة وأطلع من حياتكم كلها.. هترتاح كده يعني!!».
صرخ في وجههِ بانهيار، وقد خرجت كل مشاعره السلبية المتراكمة عليه ككتلة غضب، وتوجهت بكلِّ قوتها نحو "أرسلان"، الذي احتدت ملامحه وقرر الإنسحاب من أمامه، فقال بصوتٍ جامد:
-«أنا مش هحاسبك على كلامك ده يا حمزة، عشان أنا مقدر كويس اللي إنت فيه.. بس لما تهدى وتعقل كده لينا كلام تاني! مع السلامة».
أنهى حديثه ورمقه بنظرة محتدمة أخيرة، ثم رحل وتركه وحيدًا، يصارع أفكاره ومشاعره التي تكاثرت عليه وهزمته شر هزيمة.. فأمسك بإحدى الزهريات الموجودة على الطاولة كزينة، وألقاها بعشوائية في غضبٍ يشتعل في صدره المحترق بلهيب الألم..
جلس على عاقبيه واستند بظهره على الحائط، مُمسِكًا برأسه التي يملؤها الضجيج الذي لا يهدأ.. يحاول أن يتخلَّص من تلك الأصوات المزعجة التي تنهش في عقله وتؤثر على روحه بالتبعية..
الشقاء يتبعه أينما يذهب.. ها هو قد هرب منها ومن قوة فرض سيطرة وجودها حوله.. ولكن قوة وجودها ما زالت تحاوطه.. تطارده لتعذبه وتسلب منه كل ذرة راحة من الممكن أن يحظى بها..
سحرها لا يتركه وشأنه.. طيفها وخيالها ما زالا يحومان حوله.. ترسل جنودها ذات القوى العظيمة لتهزمه.. وما هو بمحارب ليستطيع مقاتلتها..
لقد ترك المكان المتواجدة هي به.. ولكنها لم تترك قلبه الذي تسكن به.. "نجمة" ستظل موجودة بكيانه سواء شاء هو أو أبى.. فرأيه لا يُمثل شيئًا يعتد به.. فما هو سوى بضعيفٍ أمام سطوة عشقها الهائلة..
لا فرار منها.. لا فرار أبدًا..

مُقيَّد بسلاسل عِشقك | ملك هشام شاهينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن