Pandora box

5 0 0
                                    


دقائق الغبار تتراقص في الأشعة المنسابة من نافذة العلية القديمة، لا صوت يُسمع سوى الصناديق التي تُجر على خشب الأرضية الذي يصدر صريراً مزعجاً، وأخيراً أصبحت الصناديق في مكانٍ واحد، بانتظار الفرز.
ثلاث صناديق بالمُجمل، ثلاثة جعلتها تعود لهذا البيت الكئيب، لم تأتي هنا منذ ان تركته قبل عشرين عاماً مضت، لو لم يكن أخاها قد اتصل بها لتأتي وتاخذ حاجياتها قبل ان يبيعه، لم تكن لتأتي على الإطلاق.
بأنفاس متلاحقة جلست على الكرسي المهترء، اعتادت جدتها ان تجلس عليه وهي تحكي حكاياتها الدافئة للأحفاد المجتمعين حولها، جلست تلتقط انفاسها وهي تحدق بالصناديق، تحاول ان تتذكر على ماذا تحتوي بعد ان تلاشت الكلمات التي تشي بذلك.

بقيت تفكر تحاول ان تقرر اذا كانت سترميها بدون ان تلقي نظرة على محتوياتها ام لا، بتنهيدة عميقة قررت ان تتحقق قبل ان تتخلص منها، لم يكن هناك الكثير لفعله باقي النهار بما ان اليوم كان عطلتها الأسبوعية.
اخذت الصندوق الذي يستريح بالأعلى وجلست على الأرض المُغبرة وفتحت الغطاء.

كان مملوء بدمى مختلفة، فيل بني اعتاد ان يكون زهري لطيف، دب محشو اصبح رمادياً بعد ان كان أبيضاً ناصعاً، بضع ألعاب لوحية اعتادت ان تلعبها مع صديقاتها و كم لعبة باربي مهترئة كثيراً. حدقت بالصندوق، مسدت فراء الفيل الذي اضحى خشناً بعد ان كان فائق النعومة، واحدى عينيه اُستبدلت بزر اسود، بدون مقدمات ذكرى ضائعة مرت أمام عينيها.

كانت بالكاد تبلغ الخامسة، متعلقة بطرف ثوب والدتها عندما رأته يستقر مع الألعاب الأخرى عبر واجهة المتجر الزجاجية، كبير وزغب يمتلك أذنان ضخمة، شدت ثوب امها لتحظى بانتباهها قبل ان يفوت الأوان، اقتربت والدتها من الزجاج وقرأت بطاقة السعر وأخبرتها انها لا تستطيع الحصول عليه الان، ربما لاحقاً.
بطبيعة الحال ثارت الطفلة بالبكاء والصراخ وسط الطريق، حاولت الأم والجدة تهدئتها، لم تهدأ الا عندما وعدتها جدتها بالحصول عليه من اجلها، وقبل ان يكتمل الأسبوع كان الفيل المحشو يستلقي بجانبها على السرير.
الان لا تزال اللعبة هنا الا ان جدتها ليست كذلك، دمعة ساخنة سقطت من عينها لتستقر فوق الدمية كما اعتادت ان تفعل عندما كانت اصغر سناً، احتضنت اللعبة بقوة وتركت المجال لبعض قطرات اخرى لتسقط بحرية. لم تصدق عينيها عندما رأتها أمامها تزاحم الألعاب الأخرى كل هذا الوقت، الدمى الأخرى كانت لها قصص مماثلة الا ان هذه كانت مميزة، وضعتها جانباً و انتقلت للصناديق الأخرى.

الصندوق التالي كان يحتوي على اكسسوارات عفى عليها الزمن، وبالقعر تختفي تحتها أوراق باهتة، ضحكت بخفوت عندما ادركت ماهيتها، لم تكن سوى رسائل وصلتها من صديقات طفولتها عندما كانت هذه الطريقة للتواصل شائعة، تصفحتهم سريعاً، تذكرت كيف كانت تلك الأيام، ايام ملئ بالحرية من الخوف والقلق، كن وقتها صديقات عزيزات، لم يكن يكتمل اليوم بدون رؤية بعضهم، لم تستطع ان تكُون صداقات بهذا العمق بعد الان، تسائلت أين اخذهن الزمان، لم تراهم منذ عشر سنوات. بتنهيدة جرتها من اعماق روحِها مصحوبة بنية ان تتقصى اخبارهن، وضعت الرسائل بجانب الفيل جانباً

الصندوق الأخير كان يحتوي على الكثير من الأوراق و الكتب البالية، أوراق اختبارات قديمة تُخبر ان صاحبتها اجتازت الامتحانات بعلامات مثالية، تصفحت كل واحدة منهن ومع كل ورقة تذكرت كم كانت شغوفة بالتعلم والدراسة وبالحصول على درجات كاملة، أين انتهى بها المطاف الان؟ لعمل بالكاد تطيقه.
وجدت كتبها المفضلة وقد انتهى الحال بها للغبار يغطيها و لحشرات العث تأكلها، كم من الوقت أمضت بين صفحاتها، كم من الأمل أعطتها عندما احتاجت ذلك، كانت مُغرمة بالقراءة، ماذا حل بها؟ لم تمسك كتاب منذ وقتٍ طويل.

كانت على وشك ان تضعهم جانباً مع البقية عندما سقطت في حجرِها رسالة من بين صفحات احد الكتب، ادركت ما هي قبل ان تفتحها، سحبت قدر استطاعتها من الهواء بشهيقٍ واحد وفتحتها، كانت رسالة قد حررتها لكن الجُبن تمكن منها فلم ترسلها، احتوت على صدق مشاعرها وحبها لشخص كانت متيقنة من انه يحبها اكثر مما يطلبه اي شخص، لكنها كانت خائفة من هذا الحب، تخشى ان تترك نفسها تحب و تُحب، لم ترسلها وبذلك انتهى ما لم يحظى بفرصة حتى ليبدأ والآن لا تزال غارقة بوحدتها.
هذه المرة سقطت دمعاتها بقوة، احتضنت الورقة لصدرها وبكت، بكت الآمال، الأحلام و الحب الذي كانت تحظى به عندما كانت في هذا المنزل، اعتقدت انها تكره هذا المكان عندما غادرت الا ان الحقيقة انها تكره ما آلت اليه بعد ان تركته.

عندما توقف البكاء وغسلت الدموع قلبها الثقيل، كانت خفيفة و اقل خواءً بشكل لم تعهده منذ زمن. وضعت اللعبة، الرسائل والكتب في صندوق ذلك انها قررت انها تحتاجه، غادرت المنزل مختلفة عندما دخلته، تحمل الصندوق الذي يحمل في جوفه الحنين للماضي، براءة الطفولة، احلام وذكريات اعتقدت انها فقدتها، و فوق كل شيء كان يحمل الأمل الذي اضاعته، كان هذا الصندوق، صندوق باندورا الخاص بها.

هذيان ليلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن