الفصل التاسع عشر
- صاحية عندك بتعملي ايه دلوقتي؟
سألها مجفلاً بعد أن ايقظته برودة الفراش بجواره وقد خلا منها، ليجدها الاَن هنا، في شرفتها جالسة بشرود، وكأنها غابت لعالم اخر، حتى أنها لم تشعر بوجوده، سوى بعد أن بادرها بالحديث، إلتفت إليه مغتصبة ابتسامة لتخفي اضطرابها قائلة:
- معرفش يا قلبي، بس لقيت نفسي صحيت وبتقلب كتير، خوفت لازعجك، قالت اجي هنا اشم هوا نضيف واستنى الصبح يطلع .
قطب مضيقًا حاحبيه ليجلس جوارها يقول باستغراب:
- اه بس انتي مش شايفة ان الوقت بدري اوي ع الصبح، دا الفجر لسة مأدنش يا نور، والضلمة مالية الدنيا؟
- عادي يا حبيبي، ما هو الفجر مش باقي عليه كتير، دا غير ان الجو هنا برضوا جميل، دا كفاية الهدوء.
تكتف بذراعيه ينقل بنظره نحوها ونحو الحديقة التي مازالت مصابيح انوارها مضيئة حتى الاَن، مع شعوره ببرودة قاسية بعض الشيء تجعله يتسائل داخله عن وقت مجلسها بعد هذا الشرود الذي وجدها عليه، فقال:
- انا حاسس ان الجو هنا ساقع، هو انتي مش حاسة بكدة؟
وكأنه قال ليذكرها ، مررت بكفيها على ذراعيها، توافقه :
- اه تصدق صح، هي فعلًا في الوقت ده بتبرد .
قطب بزيادة من حيرته ليعود للداخل، يتناول لها شيئًا ما تضعه على كتفيها، رددت بامتنان:
- متشكرة أوي يا حبيبي، متحرمش منك، بس انت هتفضل رابط نفسك هنا جمبي، ما تدخل كمل نوم.
مسح بسبابته على طرف أنفه يجيبها:
- لا ما انا كمان خلاص النوم طار مني، هقعد جمبك شوية على ما يجي الفجر واصليه.
أومأت بهز رأسها لتعود للنظر للأمام مرة أخرى فتابع سائلًا لها:
- ايه أخبارك مع الدكتورة يا نور.
التفت إليه بنظرة مفهومة إليه، ف استطرد بحماس:
- جاسر بيشكر فيها اوي، وبيقول انها لها فضل كبير عليه بشفا زهرة من خوفها .
تنهدت بتفكير، متيقنة من عقم الجدال معه في هذا الامر الثقيل على قلبها، فقالت بابتسامة خاوية:
- كويسة وجميلة كمان، كل كلامها زوق واكنها بتراضي عيلة صغيرة، مش واحدة كبيرة فاهمة الاعيبها.
- وايه هي الاعيبها؟
- قصدي يعني انها خبيثة، تسأل السؤال في ناحية، وهي بتجرجرني لناحية تانية خالص.
- وانتي مش عايزة تتكلمي صح؟
أجفلها بسؤاله، فقالت بارتباك:
- لأ يعني.....،بس..... اصل انا هتكلم في ايه مثلا؟
يبدو أنها لم تحسن الرد مع انتباهها لهذه النظرة التي يرمقها بها الاَن، وكأنها تغوص بداخلها، تستكشف ما يدور بعقلها، لتزيدها توترًا وخوف، اشاحت بوجهها عنه، علٌه يمل ويبتعد بنظره هو الاخر، ولكنه فاجئها بقوله:
- حاولي تستجيبي مع الدكتورة يا نور، عشان خاطري على الاقل .
قالها وانتفض ناهضًا أمام عينيها يردف:
- انا رايح اراجع على بعض الملفات، اهو استغل الوقت بدل القعدة.
ابتلعت ريقها تتابع خروجه بأسف وتأثر لحالته، يؤلمها الحزن في عينيه، يؤلمها ان يظل متوقفًا عن تقدمه في انتظارها، وهي لا رجاء منها، تعلم بذلك، بل تكاد تكون متأكدة.❈❈-❈
عاد أمين صباحًا بعد أن انتهى من ورديته الليلية في القسم، ليفاجأ بشبح احد الأشخاص جالسًا بالشرفة التي تتوسط الصالة، تقدم بخطواته وقد عرفه من ظهره:
- صباح الخير يا ابو علي.
رفع رأسه الأخير يجيبه بجمود:
- صباح الخير.
استند امين على إطار مدخل الشرفة يخاطبه:
- مش بعادة يعني تصحى بدري
بصوت مختنق:
- انا منمتش اساسًا، حاولت كتير لكن مفيش فايدة
زفر امين ليترك محله متناولا الكرسي الأخر كي يجلس بجوار شقيقه وامامهم أصايص الزهور التي تزرعها والدتهم، عبقت الأجواء بالروائح الزكية، كما ساهمت الألوان المختلفة لها مع الخضرة لتخلق مشهدًا يسر العين ويشرح القلب، ولكن هذا في وقت آخر، ليس الاَن والرأس مشغولة بما يقلقها.
تطلع أمين نحوهم ونحو شقيقه الواجم ليربت بكفه الكبيرة على ركبته بدعم قائلًا:
- بتحصل كتير يا ابو علي، بتحصل كتير، دا انا احيانا بقعد باليومين مطبق، حتى ولو كنت كان طالعان عيني في الشغل.
- ليه بتفكر انتي كمان؟
سأله حسن بقصد، تبسم له شقيقه قائلًا بمشاكسة:
- قصدك يعني بحب زيك؟
برقت عيني حسن بحدة، ليقول بانفعال:
- انا قولت اني بحب، انا بقول تفكير، هو انت دماغك دي دايمًا تحدف شمال.
اطلق أمين ضحكة مدوية ليقول بمرح:
- يا عم الحج بقولك حب، ايه جاب الحب الطاهر اللي هو فطرة ربنا للشمال، ايه يا ابو علي ما تركز كدة.
عبس الاَخير ليُشيح بوجهه عنه بضيق صامتًا، ليتأمله أمين قليلًا باستمتاع، هذه اول مرة يجده على هذه الحالة، حالة الشرود المحببة للعشق، حسن الواقعي المحافظ بمعنى أصح، كان لا يعترف بالمشاعر ولا التأثر حتى بالافلام الرومانسية، حسن الغاضب الاَن ذو القلب الأخضر، يقع اخيرًا وتحرقه نار اللوعة على المحبوب.
نهض فجأة يبتاغته بقبلة فوق رأسه قائلًا:
- اطمن، ان شاءالله هتكون بخير .
انتفض حسن يسأله:
- مين دي اللي هتكون بخير؟ انت بتتكلم عن مين؟
اطلق أمين ضحكة رنانة أخرى ليقول ساخرًا وهو يترك الشرفة:
- قطة الجيران، قصدي على قطة الجيران يا بشمهندس يا حيران.
اكمل ضاحكًا وهو يغادر ليغمغم حسن خلفه بالكلمات الحانقة، قبل أن تفاجأه مجيدة بظهورها أمامه فجأة، بحجاب الصلاة الكبير، ونظارة القراءة على عينيها بعد أن انهت وردها من قراءة القرآن، لتخاطبه بابتسامة:
- غلس عليك الواد ده زي عادته، عامل فيها جامد الباشا، لكن اطمن يا حبيبي، قريب اوي هتفرح فيه.
فكر قليلًا في العبارة، قبل أن يرد بإنكار واضح ليدعي عدم الفهم:
- افرح فيه ليه؟ هو انتي كمان هتتكلمي بالالغاز يا ماما؟
فجأة تبدلت ملامحها من ابتسامة شاردة، لشراسة بغضب، وعقبت بغيظ ضارب بكفها فوق الأخرى المستندة على بطنها:
- احنا برضو اللي بنتكلم بالالغاز، ولا انت البعيد اللي عاملي فيها من بنها وانت اساسًا مفضوح .
تمتم مجفلا بأعين توسعت بذهول:
- انا مفضوح يا ماما!
- اه مفضوح، واتنيل على عينك بقى واسكت عشان انا اتعصبت منك ومن خلقتك اللي أصطبحت بيها دي على أول الصبح، جاتك القرف، ماشية وسايبهالك، وانت بقى خليك في استهبالك ده.
بصقت كلماتها وما ان همت لتستدير إلا وقد وجدته يوقفها، ممسكًا بمرفقها يستجديها بعينيه قائلًا:
- مش هستهبل يا ماما، بس انا قلقان عليها ونفسي اطمن.
تبسمت بحنان الأم تضمه إليها، لتقبل وجنته قائلة:
- ان شاءالله ربنا هيطمن قلبك عليها، كلنا بتيجي علينا اوقات بنضعف فيها ونقع كمان، ورغم ان مش كل الناس بتقدر تقف من تاني، لكن انا بقولهالك اهو، شهد قوية وهتقوم.
أنت تقرأ
وبها، متيمٌ أنا
ChickLitولا أعلم مسمىً ولا صفة لهذا الذي ينبت بداخلي نحوها، ورغم غضبي الدائم منها، لا أستطيع إزاحة عيني عنها ولا عن مراقبة أفعالها وحفظ تفاصيلها. هي كالبحر ويبدو أنني الغريق به.