الفصل الحادي والثلاثون

20K 803 28
                                    

الفصل الواحد والثلاثون

من وقت عودتها من زيارة الطبيبة وهي داخل غرفتها ولم تبارحها قط، تضم بذراعيها نفسها وكأنها تلمتس حنانًا تفتقده، محتجزة داخل ماضيها القبيح والذكريات المؤلمة تنعاد متوالية متكررة دون رحمة، كانت تظن نفسها نجت، حتى وهذه اللعنة لا تفارقها، على الأقل نجت بجسدها، رغم خسائرها الفادحة، يكفيها سنوات العذاب والمحاولات الحثيثة منها في التخلص من هذا الزواج البائس، يكفيها الأطفال التي ضحت بهم اجل الخلاص، وهي الآن تتمنى ظفر أحدهم، حتى وهي نجمة محاطة بمحبة الجمهور وقد من الله عليها بأعظم الرجال وتقريبًا أنجحهم.
بكاء عنيف لا تستطيع التوقف عنه، مع كل لمحة سوداء تمر بعقلها، من تعنيف وجرح في الكرامة وتلذذ بعذابها، ثم هذا الصراخ الذي يفتك بأسماعها:
- زي ما حرمتيني من ولادي، هتعيشي انتي كمان محرومة منهم، انا هخرج من الدنيا وحيد من غيرهم، وانتي كمان، هتفضلي كدة يا نورهان، مش انا بس، انتي كمان يا نورهان.
زاد صوت شهقاتها بنشيج حارق، حتى لم تعي بالغرفة التي انقشع ظلامها وهذا الذي دلف فجأة ليقتلعها من الهاوية التي كانت ماكثة بها، وقد ضمتها ذراعيه بعنف يشدد عليها تستفيق وتعود إليه:
- نور، نوور ، فوقي يا نور انا معاكي، فوقي يا حبيبتي، اسف اني كنت السبب في اللي انتي فيه دلوقتي، سامحيني يا حبيبتي سامحيني.
ظلت على بكائها، وهو يزيد بضمها لمدة ليست قليلة من الوقت، حتى توقف، وقد اكتنفها دفئه، غمرها عطر أنفاسه التي كانت تلفح وجهها في كل قبلة على جبهتها او بين بصيلات شعرها في الأعلى، وكلماته الرقيقة تطن في أذنها:
- بس يا قلبي انا معاكي، اهدي يا نور عيوني، مفيش حاجة تزعلك تاني طول ما انا موجود، انا جمبك يا روحي، انا جمبك.
تنهدت ببعض الراحة وذراعيها التفت حول خصره، ليخرج صوتها اَخيرًا:
- أنا بحبك اوي يا مصطفى، وعمري ما ازعل منك، انت نعمة ربنا عليا ورحمته رغم كل ذنوبي.
تنهيدة طويلة خرجت من العمق، سبقت رده على كلماتها:
- محدش فينا خالي من الذنوب يا نور، احنا مش ملايكة ماشية على الأرض.
صمتت قليلًا داخل احضانه، ثم قالت بدون أن ترفع عينيها إليه:
- الدكتورة قالتلك ع اللي الكلام اللي حكتهولها؟
ابعدها بيده ليواجها قائلًا:
- لأ يا نور مقالتش، الدكتورة ست محترمة مبطلعش اسرار المرضى بتوعها، حتى لأقرب ماليهم، الا اذا كان في تفاهم عن كدة.
- يعني انت ميهمكش تعرف؟
سألته والشك يدور برأسها، وكان رد قاطعًا:
- عمر ما هسأل ولا هبحث عن حاجة انتي مش عايزة تقولي عليها، كل كلامي مع الدكتورة بيتلخص في المطلوب، واللي انتي محتاجاه، كانت شكوتها دايما انك رافضة العلاج وبتعتبري الجلسات فرض مكروه عليكي .
بنظرة خاوية اعتدلت تعقب بلمحة من السخرية ومعالم الغضب تعتلي قسماتها:
- ودلوقتي بعد ما اتكلمت وجعلتني ارجع لذكريات....
انا مش طايقاها، رايها بقى اني كدة حلو.
ندمت على اندفاعها فور رؤيتها لتغيرًا سريعًا يطفو على تعبيراته، ليقول بعتاب:
- للمرة الألف بقولك لو مش عايزة تكملي مع الدكتورة انتي حرة، انا مش بغصبك على حاجة يا نور، تحبي اتصلك بالدكتور حالًا ابلغها قرارك؟
- لا يا حبيبي متعلمش.
توقفت برهة، ثم تابعت وكأنها تحدث نفسها:
- برغم كل الوجع اللي حسيته بعد ما اتكلمت بس انا...... بقى عندي شيء غريب جوايا دلوقتى بيدفعني اكمل، حتى والكلام بتعبني برضوا عايزة....... افضفض، على الرغم ان الكلمة دي مكنتش مقتنعة بيها نهائي قبل كدة.
❈-❈-❈

 وبها، متيمٌ أنا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن