الفصل الخامس والثلاثون

20.3K 1.2K 84
                                    


الفصل الخامس والثلاثون

- في ذاك المطعم القريب من منزلهم، وذلك في البلدة التي يسيطر عائلتها على معظم المنشاَت التجارية الهامة بها، كان جالسًا حول طاولة وحده ينتظرها، بعدما ضافت به كل سبل التفاهم مع جدها المُصر على رأيه، في الاحتفاظ بحضانة الأطفال، بغضب شديد كان يرتشف قهوته، وقد أهلكه كثرة المفاوضات والتعنت في فرض الشروط القاسية حتى على حق الرؤية، يساعدهم امتياز المسافة الكبيرة بين الدولتين.
ارتفعت عينيه نحو المدخل يطالع هيئتها الجديدة وهي تخطو بثقة أمامه، ترتدي فستان من اللون الأزرق، انساب على جسدها الرشيق حتى بدت كعارضات الأزياء، والشعر الحريري المصفف بعناية على زينة وجهه الرقيقة، لتبدوا في غاية الجمال.
ابتسم ساخرًا بزواية فمه، يتذكر أن هذا الإنبهار بمظهرها؛ قد كان سببًا رئيسيًا لموافقته لوالدته في الإرتباط بها، قبل ان يرهقه صقيع العيش معها في زواج استمر لعدد من السنوات، أثمر في إنجاب طفلين، وهي على حالها لم تتغير، بل وساهم برودها في اتساع الهوة بينهم، حتى صار كبُعد البلدين.
- مساء الخير .
قالتها فور أن توقفت أمام الطاولة، نهض عن مقعده أتباعًا لقواعد الإتيكيت التي يحفظها عن ظهر قلب، ليستقبلها بابتسامة مصطنعة في رد التحية ومصافحتها؛ قبل ان يدعوها لتجلس مقابله، ثم بدأ في الأسئلة الروتينية المحفوظة:
- عاملة إيه يا ميسون؟ وعاملين ايه الولاد؟
ردت بلغتها التركية رافعة ذقنها للإمام:
- أنا بخير يا عدي كما تراني الاَن.
كز على أسنانه يحجم الانفعال من البداية معها، فدمدم بتحذير:
- كلميني عربي يا ميسون، مش عشان ما انتي في بلدك دلوقتي، هتنسي اللغة اللي اتعودتي عليها بقالك سنين؟
ظهر الحنق على قسماتها لتردف بقهر مكتوم:
- وماله لما اكلمك بلغة بلدي او حتى امشيك على قواعدها، ما انا بقالي سنين معاك في بلدك وبتكلم بلغتك، وبتبع كل اوامر والدتك، حتى وانت هاجرني بالشهور، مرمية زي الكرسي اللي قاعدة عليه دلوقتي.
اشاح بوجهه عنها يزفر انفاس متسارعة كي يهدأ من عواصفه، يمنع نفسه عن التلفظ برد قاسي، وكي يمتص غضبها قليلًا، فهذه البداية غير مبشرة على الأطلاق.
بعد لحظات قليلة استعاد توازنه، ليقول بلهجة هادئة نوعًا ما:
- ميسون انا اتصلت بيكي وطلبت أننا نتقابل عشان نلاقي حل وسط، مش عشان نتخانق؟
على نفس الوتيرة التي لم تهدأ داخلها، ردت بتحفز:
- وماله لما نتخانق، هتصدق لو قولتلك اني ياما اتمنتها دي، ما هو معنى اننا نتخانق يا عدي، يبقى في فرصة للصلح والتفاهم بعدها.
عادت بجذعها للخلف على مقعدها تتابع:
- لكن انت مش عايز كدة صح؟ عايز الحياة ما بينا تبقى مستمرة على حالها في الجمود، لحد اما ازهق انا واقول حقي برقبتي، زي ما حصل فعلا.
قلب عينيه بسأم، وافتر فاهه يهم بالتحدث، ولكنها اوقفته بقولها:
- انت ليه محبنتيش يا عدي؟
فاجئته بالسؤال حتى لاح على ملامحه الاضطراب، ولكنها واصلت في البوح بما يجيش بصدرها:
- شايفني وحشة ولا باردة؟ طب لو وحشة او مش عجباك ليه اتجوزتني؟ أو لو باردة مسألتش نفسك انا ليه كدة؟
تلقف سؤالها الاَخير وكأنه وجد الثغرة، ليبادل سؤالها بسؤال:
- حلو أوي، قوليلي بقى يا ست ميسون، ليه انتي كدة؟
امتدت رأسها نحوه، واضعة عينيها بخاصتيه تجيبه بقوة:
- عشان انت اللي وصلتني لكدة، انا عارفة اني كنت الاختيار الأمثل لوالدتك، وانت وافقت تنفيذًا لرغبتها، لكن انا وافقت بيك عشان كنت بحبك، أيوة كنت بحبك.
على قدر اللحظات القليلة اللي قابلتك فيها وانت عازب في الحفلات اللي جمعت بين العيلتين، دا ما منعش اني أحبك.
اجفل لهذا الإعتراف المباغت، وللمرة الثانية تربكه بصراحتها الغريبة عن طبعها المتحفظ في العادة، ظل على صمته وهي واصلت:
- مستغرب كلامي صح، وأكيد بتسأل نفسك، هي ليه عمرها ما قالت الكلام ده واحنا مع بعض، انا برضوا هرد واقولك انك السبب.......  عشان انت أناني، عايز اللي قدامك بس هو اللي يعطي، انا لو حسيت بربع الحب اللي في قلبي منك، كنت رميت نفسي في حضنك من غير انتظار، إنا كنت بموت على كلمة حلوة تقولها، كنت بتقهر لما اشوف الحب في عيون مصطفى لمراته، وانا  نفسي الاقي منك اي اهتمام يا عدي.
خرجت الاَخيرة بضعف لم تقوى على كتمانه، وقد أسقطت كل حصونها أمامه، فلم يعنيها أي شيء الاَن، أما هو فقد ابتلع ليُحاول الرد بلطف، يبتغي من خلفه المساومة:
- انتي أكيد انسانة رائعة يا ميسون، وانا لو كنت قصرت في حقك، فدا بيحصل كتير، ياما جوزات بتفشل الأيام دي، ودي مش نهاية الدنيا،  اهم حاجة دلوقتي الأولاد، لازم نراعي البعد النفسي للمرحلة دي من سنهم، مينفعش يتقلعوا كدة من جدورهم مرة واحدة، انا والدهم وعمري ما هبعدهم عنك، لو عايزة اجيبهم كل شهر ويقضوا الأجازات معاكي بالشهور، أكيد مش همانع.
تبسمت ساخرة، فلم يفاجئها رده الصادر من أنانية بحتة، جعلته حتى لا يتأثر بقولها، وما باحت به منذ قليل، وهي لن تكون ضعيفة او تستجدي عطفه عليها، انتفضت فجأة لتقف متلبسة ثوب الامبالاة، سلاحها المتبقي للحفاظ على كرامتها، وقالت بتعالي:
- انا شايفة المقابلة لحد دلوقتي مفيش منها جدوى، انت مصمم تاخد الولاد معاك، وانا خلاص سيبت الأمر في إيد جدي، واظنك عرفت قراره كويس.
نهض هو الاَخر سائلًا بانفعال:
- يعني إيه يا ميسون؟ جدك اصدر فرمانه، ومفيش منه رجوع.
مطت شفتيها وهي ترفع النظارة الشمسية لتضعها على عينيها مرددة بعدم اكتراث،  قبل أن تنسحب وتذهب:
- والله انا بلغتك اني سيبت الأمر في إيده، يعني مفيش فايدة من الكلام معايا، عن اذنك.

 وبها، متيمٌ أنا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن