الفصل الثاني والأربعون والأخير
أسفل المظلة التي تعمل على حمايتها من أشعة الشمس الحارقة، في هذه المنطقة الساخنة بعمل العمال المتواصل لإنجاز المطلوب والإنتهاء من الوحدات السكانية الجديدة، كانت هي لم تكف بعد عن محاولات الإتصال بشقيقتها، لمعرفة السبب في تأخرها حتى الآن.
رفعت رأسها فجأة على نداء مساعدها:
- ست شهد تحبي نجيبلك غدا معانا ؟
نفت بهز رأسها تقول بعدم تركيز:
- لالا متجيبش حاجة يا عبد الرحيم، أنا أساسًا ماشية، بس انت زود السندوتشات، وجيب كام علبة كانز ساقعة عشان اللجنة اللي على وصول واعمل حساب أمنية معاهم.
- طيب هي فينها؟ مجاتش ليه لحد دلوقتي؟
سؤاله المباشر أعادها لنفس النقطة وهذا القلق الذي بدأ يتزايد بالوقت الذي يمر في انتظارها، بعد أن أخبرتها بقرب الوصول منذ فترة تقارب الساعة.
زفرت لتجدد المحاولة، فجاء هذه المرة الرد ولكن بصوت اخر:
- الوو يا شهد.
قطبت في البداية تكذب الصوت، ثم ما لبثت أن تستعيد شراستها في الرد باستهجان:
- بترد ع التليفون ليه يا أستاذ انت؟ في أمنية أختي؟ خليني اكلمها البت دي؟
- ما هو انا بكلمك عشان كدة يا شهد، أمنية أغمى عليها معايا في السكة وانا مش عارف اتصرف ازاي؟
وصلها الرد بنبرة بدا فيها الجزع، مما جعلها تردد خلفه بارتياع وعدم تصديق:
- اختي أنا اغمي عليها؟ انت بتقول ايه؟
عاد يضيف لها مؤكدًا:
- والنعمة زي ما بقولك كدة، احنا كنا قربنا نوصلك أصلا، بس انا اتفاجأت بيها بتسخسخ من جمبي، وقفت العربية على ناحية اشوف مالها، لقيتها بتشهق ومش عارفة تاخد نفسها، خرجت بيها من العربية لتكون مخنوقة من الحر والسخونة، ودخلت بيها في عمارة مبنية جديد عشان الضلة والهوا يعني، بس بقالي فترة جمبها بهوي بالورقة وافوق فيها، لكن برضوا مفيش فايدة.
بلغ بها الرعب حتى تحركت قدميها نحو سيارتها بدون تفكير، ولسانها يردد بالتوبيخ والاستنكار:
- يخرب عقلك وقاعد ساكت محلك؟ طب روح بيها على أي مستشفى، مستني يجرالها حاجة؟ انت ايه يا أخي؟
واصل يردد بدفاعية:
- واعملها ازاي دي بس يا شهد؟ وانا بصراحة ما اعرفش اي حاجة عن المنطقة الجديدة بتاعتكم دي؟
دلفت لداخل السيارة تشعل محركها لتنهي الجدال قائلة:
- خلاص فوضها، وقولي انتوا فين دلوقتي وانا جاية اخدها، بس اخرج واقف لي في الطريق عشان اعرف مكانكم.❈-❈-❈
في داخل الحجز النسائي بغرف المراحيض الخاصة، خرجت تجفف شعرها الذي تبلل مع اخذها حمام صباحي، بميزة تتمتع بها عن باقي المسجونات، بفضل النقود التي توزعها بدون حساب على الجميع من أجل خدمتها وتسهيل الأمر لها حتى تخرج من هذا المكان، وقد منحها التعويض السخي من عدي عزام الأمل في نيل الحياة التي تتمناها بعد قضاء العقوبة، التي فرضت عليها قصرًا
تفاجأت بهدوء غريب يعم المكان، ف ارتفعت رأسها تلقائيًا تبحث عن رفيقتها المطيعة:
- بت يا سكسكة انتي روحتي فين؟
حينما لم تجدها، طرقت على عدد من الكابينات المجاورة وحين لم تجد ردًا منها أو من أي صنف من النساء الأخريات زاد الارتياب بقلبها بشعور غير مريح على الإطلاق، ابتعلت لتأخذ القرار سريعًا بالخروج لتستكشف الأمر، ولكنها لم تتمكن فقد تفاجأت بزوج النساء الغبيات الاَتي حاولن معها في بداية دخول السجن ولكنها أوقفتهن بقوتها وبخبرتها في التعامل مع مخضرمات قبلهن من عتاة الإجرام، وذلك ما شجعها لتقابهلن الاَن بصيحة ساخرة، رغم الخوف الذي زحف بقلبها بوجودها وحيدة معهما في المكان الخالي من الجميع على غير العادة.
- اسم الله يا حلوة انتي وهي، واقفين متصدرين قدامي كدة ليه؟ عايزين تاخدولي صورة؟
لم يتفوهن ببنت شفاه، بل ظللن على حالة من الصمت المريب يطالعنها بنظرة فهمتها جيدًا، لا تونبئ بالخير أبدًا، يتقدمن نحوها بخطوات متأنية تزيد من رعبها، ولأنها ذكية وتعلم انها الخاسرة لو حدث واشتركت معهما في الشجار الغير متكافئ على الإطلاق، حزمت امرها للهروب تكتيكيًا:
- دا باين فطار الفول تربس دماغكم، بلا خيبة
قالتها وهي تتحرك ببطء بعيدًا عن محيطهما، حتى كادت تتخاطهم لتعدوا هاربة، ولكنها تفاجأت بالمرأة البدينة تباغتها بأن حاوطتها من خصرها لترفعها كطفلة بيدها قائلة:
- على فين يا حلوة؟ هتهربي برضوا قبل ما نرحب بيكي؟ ولا انتي فاكرانا نسينا الواجب؟
قاومت تضربها بمرفقها، وترفس بقدميها في الهواء مرددة:
- اوعي يا بت، مين دي اللي تناوليها ترحيبك؟ هو انتي خيبتي ولا ايه؟ أوعي كدة بدل ما اضيعك.
التفت لتقابلها المرأة الأخرى قائلة بتشفي:
- ما احنا برضوا كنا فاكرينك كبيرة ع الترحيب، لكن دا كان الأول، قبل ما تيجي الإشارة، دا انتي متوصي عليكي بالجامد.
- مين دا اللي موصي عليا بالجامد؟
سألتها ميرنا بجزع، قبل أن تجفلها المرأة البدينة بدفعة قوية جعلت ظهرها يصطدم بقوة بحائط الحمام الرخامي، فصرخت على أثرها متأوهة:
- ااااه، انتوا مجانين؟
ضحكتا الاثنتان، لتعلق احداهن:
- هو انتي لسة شوفتي جنان؟ واديكي زي ما انتي شايفة اهو، الساحة خالييية، يعني التظبيط هيبقى ع الكيف.
دمدمت بشفاه مرتعشة وقد علمت بصدق نواياهن الخبيثة، وما قد دبر في الخفاء لها:
- بقولكم إيه؟ انا مستعدة اديكم الفلوس اللي انتوا عايزينها، بس بلاش تأذوني، دا انا اللي بيقرب مني بيكسب اوي، تحبوا تشوفوا
قالت الأخيرة وهي تضغ يدها في جب صدرها في الاعلى، لتخرج مجموعة من الأوراق المالية، فتطلعت لها المرأة البدينة تجلجل بضحكة عالية لتردف بحسم:
- هو انتي لسة هتعزمي علينا؟ ما احنا هنشوف بنفسنا.
قالتها كإشارة بدء لتهجم هي والأخرى، يكيلن لها باللكمات والضربات الموجعة في كل انحاء الجسد، وهي غير قادرة على تفادي ما تتلقاه من الاثنتان، وصوت ضرخاتها يصل لخارج المبني، ولكن لا أحد يستطيع المساعدة، حتى رفيقتها سكسكة كانت تستمع بقلة حيلة، ولا تجرؤ على الاقتراب، حتى لا ينالها هي الاخرى نصيب من الضربات.
أنت تقرأ
وبها، متيمٌ أنا
Chick-Litولا أعلم مسمىً ولا صفة لهذا الذي ينبت بداخلي نحوها، ورغم غضبي الدائم منها، لا أستطيع إزاحة عيني عنها ولا عن مراقبة أفعالها وحفظ تفاصيلها. هي كالبحر ويبدو أنني الغريق به.