الفصل الخامس: مجرد أحلام

38 3 0
                                    




عمّ الظلام شبه الدامس تلك الليلة على القصر المنيف الذي يتجاوز حجمه حجم قرية صغيرة من القرى الفقيرة في المملكة.. ورغم مضيّ ساعات تلك الليلة وخلود أغلب سكانه للنوم، فإن بضع مواقع فيه ظلت ساهرة لشأن أو لآخر.. مثل تلك القاعة التي اجتمع فيها الأمير زياد مع نخبة من أصدقائه لا يقلّون عنه خبثاً وصفاقة، ودارت بينهم الكؤوس في جلسة ستطول عدة ساعات قبل أن يغرق بعضهم في النوم في مكانه بينما يغادر الأمير زياد لجناحه برفقة أحد الخدم وهو يترنح ويضحك لأقل كلمة.. وفي جانب آخر فإن الملك ظل ساهراً بدوره برفقة بعض وزرائه يتناقشون أمر الهجمات التي طالت قوافل تجارية خرجت من (الزهراء) نحو أحد الجوانب القصيّة من المملكة.. ومغزى مثل تلك الهجمات المتكررة في طريق اشتهر بأنه آمنٌ يسلكه التجار كل عام لتسويق بضائعهم..

في تلك الليلة، لم تكن رنيم قد غادرت سريرها سوى بعد المغيب لاستبدال ملابسها ولتناول بعض الطعام بعد أن أجبرتها كاينا على ذلك.. فمنذ صدمتها لما يخططه الأمير زياد لها، وهي محبطة ومكتئبة بحيث لا تملك الإرادة للجلوس ناهيك عن الخروج من جناحها أو مقابلة أي شخص من القصر.. وبالطبع لم يعبأ شخص لأمرها بعد رحيل نوران وهي الوحيدة التي أبدت اهتماماً صادقاً تجاهها، ومع انشغال مجد وعدم تمكنه من الاقتراب من جناحها لئلا يثير تصرفه الأقاويل في شأنها وشأنه..

ظلت رنيم منطوية على نفسها في سريرها وهي تجبر عقلها على أن يتوه في عوالم أخرى بعيدة عن القصر وعن (الزهراء) وعن المملكة كلها.. بعد أن فقدت كتبها، فإنها فقدت وسيلتها الوحيدة للهرب من الخيبات التي تحاصرها.. لذلك لجأت لخيالها الذي اتسع وتمدد مع الحكايات والكتب التي أدمنت قراءتها لسنوات طوال.. سرحت في عالم تكون فيه طليقة.. وربما تكون كإحدى تلك الكائنات ذوات الأجنحة تحلق في السماء بكل حرية دون أن يقيدها شيء للتراب.. استرسلت في خيالها حتى غرقت في النوم بالفعل ليتمدد خيالها في حلم طويل وجدت نفسها فيه..

كانت في الحلم كائناً يغزو الريش اللامع الأخضر جسده، بذيل طويل جميل وجناحان يلتمع ريشهما تحت ضوء الشمس.. كانت تحلق بكل سلاسة ونعومة، وترى (الزهراء) من تحتها كأنها رقعة صغيرة لا تتجاوز متراً واحداً ولا تكاد تلمح بشرياً من سكانها لعلوّها في السماء.. أدارت رنيم بصرها عن الأرض التي باتت تمقتها وحوّلت بصرها للغيوم التي تعلو رأسها وهي تحاول جاهدة الارتفاع فوقها.. رفرفت بجناحيها بقوة ودفعت نفسها حتى اخترقت جانباً من الغيوم وارتفعت فوقها لتبدو لها الشمس الوليدة في الأفق أشد لمعاناً من أي وقت مضى..

اتسعت ابتسامة رنيم كما لم تفعل من قبل، ولم تلبث أن تحولت إلى ضحكة عالية مليئة بسعادة لم تذقها منذ زمن.. رغم أنها مدركة أن هذا لا يعدو كونه حلماً، لكنه كان أجمل من أن تتمنى انتهاءه.. تمنت لو سجنت نفسها في هذا الحلم للأبد ولم تعُدْ لواقعها القاسي.. فليس في حياتها ما يدعوها للتلهف عليه أو البكاء على فقدانه..

على جناح تنينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن