«الفصل الخامس»

8 1 0
                                    


_إبريل 2002_
«برلين_جرونوالد»

ذو العشرة سنوات يلعب في حديقة المنزل، بين الأعشاب اليانعة و الزهور الصّغيرة.
أخيراً استطاع أن يصطاد فراشة!
نظر إليها بتمعّن داخل الوعاء الزجاجي الصّغير، أجنحة بيضاء جميلة و أقدامٌ صغيرة.
تصاعد الحماس في داخله.
كان شعره الأشقر يلمع تحت شمس الصّباح الجميلة، و عيناه التي تختزن زرقة البحر مغمورةٌ بالمشاعر.
أوّل ما تبادر إلى ذهنه هو رغبته بجعل والدته ترى ما فعل.
ركض عائداً إلى المنزل.
"أمّي!"
نادى عليها لكنّها لم تجب، شرع يبحث عنها في أرجاء المنزل الّذي يقع بعيداً عن الأنظار، في مكان ما من الغابة.
  "أمّي! ...أين أنتِ؟!"
استقبلة صمتٌ مطلق، لا بل سمع صوتاً غريباً.
حبلٌ مشدود بقوّة ... لطالما أرادت والدته أن تركب الأرجوحة، هل صنعت واحدة؟
اقترب من مصدر الصّوت الّذي كان غرفة والدته، ليدلف الغرفة و ما زال محدّقاً بالفراشة الجميلة الّتي بين يديه
ناداها مجدداً و هو شاردٌ بفراشته، لكنّها لم تجب!
رفع رأسه و كان أوّل ما رآه ... كرسيٌّ خشبي صغير و
قدمان رقيقتان تطفو في الهواء.
رفع بصره ببطء، جثّة لامرأة صغيرة ... معلّقة في السّقف
تترنّح ذهاباً و إياباً.
غزا السكون المطلق للمنزل صوت تحطّم الزّجاج،
الفراشة البيضاء لم تستطع الطيران، بل قتلها الزجاج المنتاثر.
و إلى جانب جثّتها الهامدة، ما زال ذو العشرة أعوام يحدّق في والدته الميتة.
وجهٌ محتقن، و عينان باهتتان لا حياة فيهما، قدمان شاحبتان، شعرها الذّهبي الطّويل يتدلّى بهدوء، لم يعد ذهبيّاً، فقد بريقه.
خرج من الغرفة، و سار بلا هدى.
لقد قامت والدته بالانتحار ...
تعثّرت قدماه و وقع بعنف على الأرضيّة، لم يستطع البكاء و لا الصّراخ.
جعله سكون المنزل يرتعد خوفاً.
لحسن الحظ مضت ساعتين لتصل شقيقته الكبرى ذات الثمانية عشر سنة، فقد وعدته بزيارته اليوم.
و لكن ما رأته حين وصلت هو فتى يضمُّ ركبتيه لصدره، يرتجف بشدّة، بوجهٍ شاحبٍ لم تعهده من قبل.
"كارل؟! ... ماذا حدث؟!"
سألته و قد بدأ القلق يتسرّب إلى قلبها.
رفع نظره نحو شقيقته.
"والدتي ... والدتي قامت بشنق نفسها"
***
_أكتوبر 2022_
«برلين_ميتي»

"اسمعني أرجوك، كارل!"
ركضت خلفه برعب، أمسكت يده تترجّاه أن يتوقّف.
"جوليا ما خطبكِ؟!، لقد أخبرتكِ سلفاً، جثّة والدتي ما زالت معلّقة في المنزل!!"
قال بانفعالٍ واضح، يكاد يفقد صبره.
"كارل!! والدتك ... انتحرت منذ عشرين عاماً يا كارل!"
"أيُّ جزءٍ من كلامي لا تفهمينه!!!"
إنّه لا يستجيب!
اغرورقت عيناها بالدّموع، احتضنت يداها وجهه المتعب
وجهت نظره نحوها بحزم.
"والدتكَ توفّيت منذ أن كنتَ في العاشرة، أتسمعني؟!!
كارل! انظر إليّ!!"
دفع يديها بغضب
"هل تظنين أنّني جننت؟!!، جوليا لقد رأيتها بعينيَّ هاتين و سمعت صوتها، طيلة الأسبوع الماضي كنتُ أزورها!!
جوليا ابتعدي عنّي!! أنا لم أصب بالخرف بعد!!"
أبعدها عنه بقسوة.
"كارل!!! كارل!!"
صرخت باسمه علّه يستفيق من وهمه، لكنّه تجاهلها بحنق.
لم تعد باستطاعة قدميها أن تحملها.
فقدت زخمها لتنهار أرضاً، لم ترى زوجها في هذه الحالة من قبل، يبدو أنّه يفقد صلته بالواقع شيئاً فشيئاً، و إصراره لا يساعدها البتّة.
تريد أن تضمّه إليها و تخبره أن ما يراه مجرّد كوابيس قبيحة، أن تمسح على رأسه و تهمس له حتّى يستفيق و يعود له وعيه.
انهمرت دموعها تِباعاً دون هوادة، استرسلت في البكاء عندما استحضرت صورته في مخيّلتها يبكي بحرقة، خاسراً لقوته، و يهذي بكلمات لا معنى لها.
ذلك الرّجل الذي لطالما كان منضبطاً، هادئاً، و لم يسبق له أن فقد رابطة جأشه قط ... أصبح ضائعاً في فوضى ذكرياته و ماضيه البشع.
ما يرعبها أكثر من هذا كلّه، هو أخذه لمسدّسه معه.

TSCHÜSS! ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن