«الفصل الرّابع»

4 1 0
                                    

"لقد كنتُ غير كافٍ بالنّسبة لكِ... منذ البداية" خمد غضبه ليحلَّ محلّه اليأس المطلق.
"بماذا تفكّر يا كارل؟!! ما خطبك؟!!!
كلُّ ما تقوم به، لا أستطيع أن أجد له تفسيراً!!! أنا ... أشعر بالخوف، ولا أفهم أيّاً مما تقوله!
لقد كنّا بخير منذ أيّام، ما الّذي حصل لكَ فجأة؟!!"
حاولت الاقتراب منه مجدداً
"ابتعدي جوليا! لا أريد رؤية وجهكِ!! فقط ... ارحلي"
انهمرت دموعها بسخاء و شعرت بغصّة شديدة تمنعها من التنفّس، لكنها لم تتوانى عن الاقتراب منه
"قلتُ ابتعدي!!"
دفعها بقوّة لتسقط أرضاً، و غادر المكان بسيّارته

***

_يوليو 1999_
«برلين_شونيبرغ»

أخيراً سيزور والده، كان سعيداً بذلك، بل كاد يطير فرحاً.
ذو الستّة سنوات يجلس في السّيارة الفاخرة، بملابس أنيقة، و ابتسامة عريضة.
قهقهت شقيقته ذات الثلاثة عشر عاماً، كان منظره لطيفاً حقّاً، و عيناه الصّغيرة كانت تلمع.
"كيف تشعر يا كارل؟"
"أنا سعيد!"
كعادتها ... ابتسمت حتّى بانت غمّازاتها اللطيفة.
داعبت شعره الذّهبي بلطف، هذا الطّفل كان يعني لها الكثير.
أحتضنها بجسده الصّغير
"أختي، شكراً لكِ!"
بادلتهُ العناق، بل و ضمّته إليها بقوّة.
وصلت بهما السيارة إلى قصرٍ كبير.
أمسكت يده الصّغيرة، و مشت به داخل قصر والدها، كان يمسك هديّة صغيرة لطيفة بيده، أراد التّعبير عن مشاعره البريئة تجاه والده.
لم يكن يراه كثيراً، لكنّه كان يعلم أنّه مشغول، لذا لم يمانع غيابه الطّويل.
شقيقته كانت تخبره دائماُ أنَّ والده يحبّه و يهتمُّ لأمره.
"طاب مساؤك آنستي"
حيّا الخادم شقيقته بأدب
"هل والدي هنا؟"
"سيدي ما زال في العمل"
أهتزّت ابتسامتها لبرهة، كانت متأكدة أنّها أعلمته برغبتها في حضور شقيقها إلى قصره اليوم، بل و أصرّت على عودته باكراً... لكن يبدو أنّه لم يكن يعير اهتماماً لأيٍّ مما قالته.
دنت من الطّفل الصّغير بجانبها.
"حسناً عزيزي كارل، يبدو أنَّ والدنا ما زال في العمل .. هل تريد أن تلعب معي حتّى يأتي؟"
"أجل ... لكن متى سيأتي والدي؟"
"هذا ... بالتّأكيد لن يتأخر!"
أومأ بلطف
مضى الوقت ببطئ بينما ينتظر عودة والده، ساعة؟
ساعتين، ثلاث ساعات؟، لا يدري حقّاً كم من الوقت انتظره، كلُّ ما يعرفه أنّهُ دخل القصر صباحاً، و الآن بدأ شفق السّماء بالظّهور ... بل حلَّ الليل بالفعل.
"متى سيأتي والدي؟"
قررت أن تلتزم الصّمت، لن يجدي الأمل نفعاً، و كان من الواضح أنّه لن يعطّل عمله و لو لدقيقة لأيِّ سببٍ كان.
لحسن الحظ ... سمع تحيّات الخدم لسيّدهم، ليهرع بسرعة نحو والده الذي اشتاق لرؤيته.
"أبي!"
بخطواتٍ بريئة و سعيدة و على الرّغم من طول الانتظار، ركض نحوه، لكنَّ الأخير لم يقم بأيِّ ردِّ فعل، بل ألقى نظرة سريعة على ذلك الطّفل الصّغير.
"أبي أحضرت لكَ هديّة!"
لم يأبه باليدين الصّغيرتين اللّتان امتدتا نحوه.
"إيمّا!"
نادى بنبرة متجمّدة، ليرتعش الخدم بعنف.
مشت نحوه بخطواتٍ بطيئة
"أبي--"
"اتبعيني!"
بصق كلماته بصوتٍ أجشَّ يثير الرّعب في النّفوس.
دنت من الطّفل الصّغير، ابتسمت على مضض
"حسناً، انتظرني هنا ... سأعطي والدي هديّتك، أتّفقنا؟"
"أنا أريد أن أعطيها إياه بنفسي، هل أبي حزين؟ أستطيع أن احتضنه كما تفعل والدتي معي، سيكون بخير، دعيني أذهب معكِ"
حدّقت في عينيه البريئتين بألم
"إيما!"
شعرت بالقشعريرة تنساب على طول ظهرها عندما سمعت صوت والدها مجدداً
"انتظرني"
مشت عبر الرّواق، و دخلت مكتب والدها بخوف.
كان غاضباً.
"لقد أخبرتكِ مراراً ألّا تتدخّلي في حياتي الشّخصيّة، ألم أفعل؟"
"والدي أرجوكَ--"
"ماذا يفعلُ هذا الطّفلُ هنا في منزلي؟!"
"أبي إنّه ابنك!! كيف تقول ذلك؟!"
"أنا لديَّ فقط ابن واحد إيمّا!! ابنٌ واحد فقط!!
ذلك الطّفل، لم يكن يفترض أن يكون موجوداً في الأصل!"
اعتصر قلبها ألماً، أغمضت عينيها بقوّة
"أبي--"
"لا أريد أن أراه في منزلي مجدداً، هل سمعتِ ذلك إيمّا؟"
"لا يمكنك أن تفعل هذا!"
"هل عليَّ أن أكرر كلامي؟!
أخبرتكِ مسبقاً، بين و أنتِ فقط أولادي، لا أحد آخر!
لا تجبريني على القيام بما لا أريد أن أفعله إيمّا، لطالما كنتِ فتاة عاقلة"
أومأت ببطء
"هو أراد أن يعطيكَ هذه--"
"عودي به إلى والدته، بسرعة"
"فقط... أقبل هديّته أبي"
استطاعت أن تشعر بغضب والدها يتصاعد مجدداً، لكنّها وعدت شقيقها أنّها ستسلّمه الهديّة.
لم تكن تريد من أخيها أن يتأذّى أكثر، على الأغلب إذا حاول إعطاء والده تلك الهديّة سيستقبله باللامبالاة، و لكن ما تخيّلته لم يكن سوى شيء بسيط ممّا حدث.
فجأة فقدت الهديّة و سمعت صوت تهشّم الزّجاج الرّقيق و الخشب الجميل، لتدرك أخيراً أن والدها قد حطّم هديّة طفله البريئة بالكامل!
"لقد أخبرتكِ إيمّا! عودي به إلى والدته"
"كيف تفعل هذا يا والدي؟!!"
صرخت بحرقة
"أخرجي إيمّا"
"أبي!، كيف لكَ ألّا تهتمَّ و لو بإي شيء--"
"أخرجي!!"
صرخ في وجهها بغضبٍ جلي، وجه لم تره من قبل، شعرت بالخوف و الوحشة، خرجت بسرعة من ذلك الجحيم، لكنّها توقّفت ما إن لمحت أخاها الصّغير واقفاً عند عتبة الباب.
'سمع كلَّ شيء!'
كان جسده متصنّماً، ما أراده هو أمرٌ بسيط ... أن يشعر بوجود و دفء والده.
جذبته إلى حضنها بقوّة.
"أنا آسفة"
انبسّت بصوت بالكاد يُسمع
"سامحني، كارل ... أنا آسفة يا صغيري"
لم يجب، كان يبدو و كأنّه فقد كلَّ شيء
قتله الأمل الذي زرعته في قلبه، أخبرته مراراً و تكراراً كم يحبّه والده و يشتاق لرؤيته، لكن ما سمعه الآن دحض كلّ ادّعاءاتها ... لم يكن من المفترض أن يكون موجوداً.
ركبت معه في السّيارة، أرادت البقاء معه أينما ذهب
مرّت فترة لا بأس بها، حتّى سمعت صوت شهقاته الخافتة
لم يمضي كثيرٌ من الوقت حتّى أُغرِقت ملابسها بدموع شقيقها الصّغير ... بكى بحرقة، بألمٍ لم تستطع وصفه
كان يعانقها بقوّة و يتشبّث بها بحزم.
دفنته بين ذراعيها، لتشعر بصراخه ينتشر في جسدها، بقيا على هذه الحال حتّى بعد وصول السيارة إلى وجهتها.
في وقتٍ ما من الليل، غفا شقيقها بين يديها، و كانت آسفة لأنّها ستتركه مجدداً.

***
_أكتوبر 2022_

جالسٌ في سيّارته، وأمام المنزل القديم.
يحاول أن يدفع كل ما يشعره بالأسى ليستطيع زيارة والدته دون أن ينتابها القلق على حاله.
دفن رأسه بين يديه بتعب، لا يستطيع نسيان ما حصل.
يشعر بفوضى عارمة داخل رأسه.
تنفّس بعمق ليستقيم مجدداً، لكنَّ عيناه التقطت ظلّاً أسوداً أمام سيّارته، يراقبه بصمت.
ترجّل من السّيارة بعجل بغية اكتشاف هويّة ذلك الرّجل، لكنّه لم يجد له أيَّ أثر.
حدّق في المنزل لبرهة، ليقرر أخيراً الدّخول.
كان المطر يهطل فوقه ليبللّ سترته، شعر ببرد الشّتاء يلفحه، ليسرع في الدّخول.
كان المنزل مظلماً كالعادة، ساكناً لا حياة فيه، و بسبب الغيوم المتلبّدة و السّماء الدّاكنة شعر بالوحشة.
"أمّي!" ناداها بصوتٍ مرتجف
مشى بخطواتٍ حذرة، زادت هالة المنزل المظلمة قلقه و خوفه.
"أمي! أين أنتِ؟"
جالت أبصاره في المكان تحاول تفسير ما حوله، و إذ بها تقع على قدمين رقيقتين تطفوان في الهواء.
رفع بصره ليبصر جثّة والدته البائسة معلّقة في السّقف.
خارت قواه ولم تسعفه قدماه بالوقوف ليقع أرضاً و يحدّق في جثّتها الهامدة ذات الوجه المحتقن و البشرة الشّاحبة و العينين الباهتتين.
خفض بصره، رفض عقله تصديق ما يراه، تداخلت أصابعه بين خصلات شعره الذهبيّة لتشدّها بعنف.
"أنتِ... لِمَ فعلتِ ذلك...؟!"
سأل جسدها الذي فارق الحياة، وتردد صدى سؤاله دون العثور على الإجابة.
"لماذا؟!!"
فتك الصّداع برأسه ليضغط عليه بقوّة علّه يخفف من ألمه.
رفع رأسه مجدداً ليبصر ذلك الرّجل أمامه، يحدّق به بصمت.
انسابت قطرات العرق على طول ظهره، ظنَّ أنَّ ما يراه مجرّد وهم لكنَّ ذلك الظّل كان يقترب منه كلّما حاول الابتعاد عنه.
"من أنت؟!!" صرخ بانفعال
دلف المطبخ، ليمسك السّكين بيدٍ مرتجفة.
"ماذا تريد منّي أيّها الوغد!، ماذا تريد؟!!!" ما زال يصرخ برعب
لوّح بسكّينه في وجه ذلك الرّجل الملثّم أمامه، لكنّه لم يتحرّك.
"أخرج من منزلي أيّها اللعين و إلّا قتلتك!!!" يرتعش خوفاً
سمع ضحكاته المزعجة، لينبض قلبه بفزع
ضحكه يتعالى ليملأ كلَّ أركان المنزل، و كي يزداد الأمر سوءاً صدح صوت الرّعد و لمعت السّماء لتخفي الإنارة من حوله و تخفي معها هويّة ذلك الرّجل.
"أنا من سيقتلك دون أن يرفِّ لي جفن" بصوتٍ عميق جعل جسده يقشعرُّ خوفاً، ما زال يسمع ضحكاته الصّاخبة.
خرج من البيت بفزع ليتبعه ذلك الرّجل بهدوء.
دخل سيّارته و أشعل المحرّك دون هوادة، رفع رأسه ليكتشف أنَّ ذلك الرّجل ما زال يتبعه أينما حلَّ و ارتحل.
كان عليه أن يفرَّ بأيّة طريقة، لذا قاد إلى الطرّيق السّريع، و لكنَّ الرّجل ظلَّ يلاحقه، بل و استطاع سماع ضحكاته.
لقد أدرك أنّه رجلٌ خطير لا يريد به خيراً.
اختفى من محيطه فجأة ليوقف سيّارته بعد حين.
يكاد قلبه يخرج من صدره.
اتّكأ بمرفقيه على المقود، و كان قد استنفذ كلَّ طاقته، ولم يعد يشعر بما حوله.
"كارل!!! كارل عزيزي!!"
كالحلم سمع صوتها تهتف باسمه و تناديه
انتشر البرد في كلَّ أجزاء جسمه، و اصطدم به الهواء المتجمّد مجدداً، ليلتفت دون وعي لمصدر تلك الجلبة.
"يا إلهي ... كارل" همست بألم عندما رأت هيئته تلك
كان ضعيفاً شاحب الوجه، يقود بجنون.
"أمّي ... لِمَ؟ لماذا فعلتْ ذلك أمّي؟!!"
انسابت دموعه
"أمّي انتحرت ... أنا ... آنا!"
احتضنته بقوّة، و ربّتت على ظهره بلطف.
قبّلت صدغه بهدوء.
"أمّي انتحرت..." ما زال يردد بأسى
بعد فترة وجيزة غلبه التّعب.
.
.
.
يُتبَع...
___

(هذا المستخدم يبكي برضو) 🌚💔

"لقد كنتُ غير كافٍ بالنّسبة لكِ ... منذ البداية" 💔😿
مين عم يلاحق كارل؟

ماضي كارل

TSCHÜSS! ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن