البارت السابع

24 2 1
                                    

الفصل السابع

صرخات وأصوات عالية هرج ومرج أمام البناية التي شهدت على سقوط فتاة لا أحد يعرف من هي فوجهها غارق بالدماء ولم يتبين من ملامحا شيء، الجميع منتظر كي يتعرف على السبب في سقوطها أهي بفعل فاعل؟ أم محاولة انتحار؟ البعض مشفق على ما أصابها والبعض الأخر يريد معرفة التفاصيل، بعد قليل كانت سيارات الإسعاف تقف أمام البناية لحقها عربات الشرطة، أبعد العساكر التجمهر وعاينت المكان، ثم وضعت الحواجز حتى تمنع أي أحد من الاقتراب، جريمة بشعة والمشهد ينفطر له القلب ،تقشعر له الأبدان، استكملت الإسعاف دورها وقامت بمعاينتها.

فاقت العجوز من سباتها وتوجهت ناحية غرفة حفيدتها فلم تجدها،خمنت أنها خرجت كعادتها جذبها اصوات جلبه نظرت من الشرفة فوجدت حشد من الناس في الأسفل، غلبها الفضول كي تعرف ما يحدث، توجهت لأسفل ترى ما يحدث، لم تسعفها بطء حركتها فهي قد وصلت للمصعد بصعوبة،
سألت البعض عما حدث فأخبروها بأن هناك فتاة لقت حدفها ولم يتبين بعد ما السبب؟ أو من هي؟ تمتمت بالحوقلة وجاءت لتذهب فوقعت عيناها على ملابس تشبه ملابس هاجر، أوهمت نفسها بأنه مجرد تشابه، اقتربت من المكان وهي تدعوا ألا يصدق حدسها، ولكن قد سبق السيف العزل، حاول بعض أفراد الشرطة منعها لكنها قالت لهم بأنها ستتأكد من كونها حفيدتها أم لا، أفسحوا لها المجال بأمر من قائدهم ، اقتربت بيد مرتعشة تزيل طرف الرداء المغطى لوجهها فأطلقت صرخة قوية نابعة من داخلها ولم تقوى على النظر إليها فتراجعت للخلف قائلة بألم:
- لا لا دي مش هاجر أكيد شبهها صح لا يا هاجر قومي قومي يا بنتي متوجعيش قلبي.
جذبها العسكري بهدوء مشفقًا عليها وابعدها عن الجثة، رجعت للخلف وكادت أن تسقط لولا الشاب الذي ساعدها وأجلسها على الرصيف، أقترب منها الشرطي ودون أسم الفتاة وسألها بعض الأسئلة ثم رحل، أخذ رجال الإسعاف جثتها وتوجهوا للمشفى، والبعض عاون العجوز كي تركب مع أفراد الشرطة وتلحق بهم.
🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸

- صباح الخير.
رد الجميع تحيتها، جلست على مقعدها بصمت وأخذت تأكل بعض اللقيمات، نظر لها مالك بحزن فالدموع ما زال أثرها على وجهها، عيونها منتفخة وحمراء، تألمت جنة على صغيرتها، أنهى مالك طعامه وقال موجهًا حديثه لحمزة:
- تعالى أوصلك في طريقي وندردش شوية مع بعض.
أومأ له وذهب كي يجلب أشياءه، أقترب من ابنته وقبلها على رأسها وابتسم لها مربتًا على ظهرها بحنان بادلته الإبتسامة المتشبعة بالدموع الحبيسة داخل مقلتيها وقبلت يده ، ودع زوجته ثم انطلق هو وحمزة لوجهتهم،
اقتربت منها والدتها بحنان وربتت على يدها الموضوعة فوق طاولة الطعام، نظرت لها بحزن وانهمرت دموعهم معًا جذبتها لأحضانها وتحدثت بحزن جلى على نبرة صوتها:
- لا متبصليش كدا، أنا آسفة يا حبيبتي مكنش قصدي والله كنت مضايقة ومخنوقة وطلعت فيكِ أنت، حقك على قلبي يا قلب ماما.
غاصت داخل أحضانها وما زال البكاء يلازمها، مسحت دموعها ونظرت لوالدتها وقالت:
- خلاص يا ماما حصل خير، أنا بس كنت حابة أساعدك والله مكنش قصدي إني أبوظ الدنيا كدا.
- مش مهم أي حاجة المهم أنك متزعليش مني، أنت عارفة لما بتعصب مبعرفش أسيطر على أعصابي.
لفت نظرها الضمادة على يدها فامسكت بها بحذر وقالت بقلق شديد:
- إيه دا؟ هو أنت اتحرقتي؟
هومت بإيجاب، قبلتها على رأسها وأخذت تعتذر منها وتطمئن أنها بخير، ربتت الاخرى على كتفها كي تهدأ وطمأنتها أنه حرق بسيط وقد قام حمزة بتطهيره، جذبتها ثانيةً لأحضانها وهي تلوم نفسها على ما اقترفته دون ذنب لصغيرتها في ما حدث.

بعد قليل دخلت غرفتها كي تهاتف هاجر لكنها لم تجب، حاولت عدة مرات لكن دون فائدة، زفرت بغيظ منها وقررت في نفسها أنها لم تمررها لها مرور الكرام، تناولت الهاتف مرة أخرى وتصفحت صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فلم تجد شيئًا جديدًا، لفت نظرها منشورًا عن الانتحار يسرد واقعة تمت منذ بضعة ساعات قليلة لفتاة ألقت بنفسها من على سطح البناية والتي تحوي عشرة طوابق، قبض قلبها وتألمت كثيرًا، أغلقت الهاتف فورًا فهي لا تحبذ قراءة المنشورات من هذه النوعية ، فقلبها يؤلمها وبشدة لتأثرها بهم.
🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸
اليوم هو اجازتها قضت بعض الوقت برفقة والدتها بالمنزل وظلا يتحدثان وهما يقومان بالمهام المنزلية، أخذت تتحدث مع والدتها بشأن نور واثناء حديثهم تذكرت سدرة شيئًا هامًا واستأذنت والدتها كي تذهب قليلًا لوالدها، ابدلت ملابسها سريعًا وهي تدعو أن يوافق والدها على قرارها.
وصلت لمكتب والدها التقت بنور في الخارج وبعد التسلام والترحيب طلبت منها أن تنتظرها فهي تريدها، وافقت الأخرى وجلست حتى تخرج، تقدمت وطرقت على الباب ثم ولجت للداخل، تفاجأ والدها لكنه تحدث بمرح:
- لا لا الدكتورة بنفسها عندي يا ناس، وأنا اقول المكتب نوره زاد.
ضحكت على مزاح والدها وقالت بعد أن طبعت قبلة على وجنته:
- تسلم لي يا رافع معنوياتي يا أجمل بشمهندس في الدنيا، أنا لقيت نفسي فاضية وحورية هانم مستلماني من الصبح ترويق وتنضيف لما ضهري اتقطم، قولت أجي أكلمك في موضوع كدا.
- اه يعني زوغتي منها، ماشي يا اروبة انتِ خير موضوع إيه اللي عايزة تكلميني فيه.
اعتدلت في جلستها ورفعت نظارتها للأعلى قليلًا في حركة باتت تلازمها حينما تتحدث:
- الصراحة يا بابا واحدة صحبتي بتقترح عليا نفتح صيدلة مع بعض، الموضوع حلو بس أنا مش بحب الشراكة، وفي نفس الوقت عندي وقت فاضي كتير ونفسي أستغله.
نظر لها مطولًا وقال:
- الفكرة حلوة انك ترجعي تشتغلي تاني، بس ليه تشاركي غريب طالما اخوكي موجود، وأنا الصراحة مقتنعتش تمامًا بأسبابك لما سيبتي الصيدلية عنده، أنا مش برجح موضوع الشركة لأن مشاكلة كتير، وفي نفس الوقت لو حابة تشغلي وقتك عندك صيدلية حمزة اللي أنت شريك فعلًا فيها.
نظرت له بتوتر وقد طال صمتها فتحدث ابيها إليها ناهيًا المناقشة:
- بصي يا سدرة أنا مش طالب منك أسباب انقطاع علاقتك بحمزة المفاجئ دا، ولا بغصبك على الشغل معاه، بس معلش ميبقاش عندي صيدلية وليها اسمها واروح اشترك مع حد وياعالم يطلع كويس ولا لأ، فهماني يا حبيبتي.
هزت رأسها بالإيجاب ووعدته بالتفكير في أمر عملها مع حمزة مرة أخرى، خرجت شاردة الذهن تفكر فيما قاله والدها، لا تعلم ماذا تفعل تنهدت واقتربت من نور وقالت:
- من غير رفض قومي تعالي معايا البيت عشان تتعرفي على طنط جنة و سدن.
ابتسمت على عفويتها في الحديث ، حاولت الرفض فهي ما زالت تشعر بالحرج منهم ، لم تسمح لها بالرفض واصرت على ذهابها معها للمنزل لم تلقى جدوى من الرفض فهومت بالإيجاب، حدثت جدتها تستأذن منها، وأثناء انتظارها لنور رن هاتفها باسم خالها مالك، ردت سريعًا لكنها تعجبت من طلبه بل أنه أمر غير قابل للنقاش وعليها التنفيذ، تأرجحت الأفكار برأسها لما هو متمسك برأيه هكذا؟ هي بدت استياؤها من الفكرة وهم احترموا رأيها ولم يناقشها أحد في قرارها، تشعر بأن هناك خطب ما، فلأول مرة يكون خالها بهذه الصرامة والحدة معها؟ عصفت بها الظنون فلم تنتبه لنور التي نادت عليها كثيرًا، أغلقت معه وظلت على حالتها حتى أنها لم تشعر باقتراب الأخرى منها، وجدتها هكذا فهزتها بلطف، انتبهت الأخرى ونظرت إليها بجهل ، سألتها ما بها فهي لم تكن كذلك قبل قليل، فقالت بقلق:
- بقالي ساعة بنادي عليك مالك في حاجة حصلت؟
نفت برأسها وقالت:
- لا كله تمام تعالي ننزل وهحكي لك بعدين.
هزت رأسها واتجهت معها للنزول.

جالسة بالغرفة ينتابها القلق دقت كثيرًا على هاتف هاجر ولم تجيب وأيضًا هاتف المنزل، سا ورها القلق فليس من عادت صديقتها ألا تختفي هكذا دون ان تخبرها، كما انها لم تهاتفها في المساء كعادتها ،فجأة هبت واقفة بسعادة وكأنها حصلت على كنز، تناولت الدفتر الصغير الذي تدون فيه أرقام أصدقائها تحسبًا لأي شيء، بحثت عن رقم هاتف جدتها والذي قد دونته لها هاجر حينما تغلق هاتفها ولا تريد التواصل مع أحد ،ضغطت على زر الاتصال وهي تدعوا أن تجيب كي تطمئن، تهللت أساريرها عندما سمعت صوت الجدة يسأل عن هوية المتصل، أخبرتها بأنها سدن صديقتها فارتفع نحيب المرأة من جديد وقالت لها بصوت مزق ربوع قلبها:
- هاجر ماتت يا سدن، انتحرت صحبتك خلاص راحت.
صعقت لما سمعته للتو من؟ هاجر أهي تقصد صديقتها لا لا بالطبع هي فقط تمزح معها، وقالت:
- حضرتك بتقولي ايه هاجر صاحبتي أنا؟
- أيوة يا بنتي ادعي لها يا سدن هي كانت بتحبك اوي.
لم تجيب بل الصدمة أصابت قلبها في معقل فاقت على قول العجوز بأنها مضطرة لغلق الهاتف كي تستكمل اجراءات الدفن،
وقع الهاتف من بين يديها وهوت هي على الأرضية الصلبة لم تشعر بألم فهي كالمخدرة التي عقرت بدواء وسار بأنحاء جسدها فارتخت له أعصابها، بؤبؤ عينيها يدور في جميع الأرجاء، فقط دموعها تنزل على وجهها بغزارة تحرك رأسها يمينًا ويسارًا وكأنها تنفي الخبر، تنفض الفكرة التي تمقت أن تكون حقيقة.

كانت سدرة وصلت لتوها استقبلتهم جنة والتي رحبت بهم بحبور، تركوها وذهبوا حيث غرفة سن،
دخلت عليها بمرحها المعتاد وهي مبتسمة وورائها نور التي يسيطر عليها الخجل، وقع نرها عليها فخرجت منا شهقة عالية حينما رأتها على حالتها هده، هرعت إليها تجلس بجانبها تتفحص ما بها في خوف شديد، نظرت إليها ومن ثم ارتمت بداخل أحضانها وعلى صوت بكاءها، سقط قلبها خوفًا أن يكون أخيها أصابه مكروه، أخرجتها وقالت بلهفة متلعثمة:
- سدن... هو... هو... حمزة حصله حاجة متوقعيش قلبي اكتر من كدا بالله تتكلمي.
هزت رأسها نفيًا ولم تقوى على التحدث، جذبتها للفراش وأجلستها، ناولتها كوب ماء ارتشفت منه القليل ولا زالت الدموع تتساقط ، قالت سدرة بحنو ولا زال القلق يساورها :
- سدن حبيبتي اهدي وفهميني حالتك دي بالله عليك اتكلمي.
نظرت لها بحزن وأغمضت عينيها بمرارة واخذت تقص عليها ما حدث وهي لازالت تبكي، اتسعت عيني الأخرى بشدة ووضعت يدها على فمها تكتم شهقاتها المفاجأة، تمتمت بالحوقلة وهي لا تصدق ما سمعته، ضمتها لأحضانها بقوة ومسدت على ظهرها بحنان وقد أصابها الحزن على هاجر.

كانت تراقبهم منذ ولوجها بعد سدرة، لم تفهم ما بها سدن الا بعد سردها لما حدث، تأثرت بشدة لحال هاجر التي هانت عليها نفسها، سمعت سدن تتمتم ببعض الكلمات والأخرى تحاول تهدئتها، عرفت أن والديها منفصلين وياللسخرية فحالها ليس بأفضل منها، نفس ظروفها تقريبًا توجع قلبها ورأت نفسها مكانها وقد تمكن منها اليأس والقنوط، خرجت من شرودها على صوت سدرة تدعوها كي تجلب لها الغطاء ،تقدمت منها وساعدتها كي تدثرها جيدًا وجلست بجانب سدن من الناحية الأخرى تناظرها بحزن ،ظلت سدرة تمسح على رأسها مشفقة عليها، رفعت بصرها لنور بشبه ابتسامة ثم قالت محاولة لتلطيف الأجواء:
- معلش بقى يا نونو كان نفسي تتعرفي عليها في ظروف أحسن من كدا.
أومأت في حبور وحزن وقالت:
- ولا يهمك المهم انها تكون كويسة.
نظرت إليها وانحدرت يدها تجاه وجهها تمحو لها دموعها ثم قالت:
- يا رب، هي أصلًا هتصحى على طول دي عادتها،بتحاول تهرب بالنوم بس مبتقدرش، شوية وهتصحى.
جاءت جنة لترحب بنور مرة أخرى حاملة بيدها أكواب من العصير، شاهدت ابنتها متكومة على نفسها،انخلع قلبها و اقتربت بتوجس وضعت ما بيدها جانبًا وسألت ما بها فقصت سدرة ما حدث، وضعت يدها على قلبها بطريقة عفوية تعبر عن مدى صدمتها، افسحت لها المكان فجلست بجانبها وهي تمسح على رأسها وأودعتها بقلبة على جبينها تخفف عنها ببضع كلمات،
بعد قليل استأذنت نور ووعدتها بلقاء قريب حتى تطمئن على سدن، ودعت جنة التي غمرتها بحنانها في عناق دافئ، أثناء سيرها للخارج أوصت سدرة بان تطمأنها على سدن أومأت الأخرى وودعتها،
عادت مرة أخرى للداخل فوجدت سدن مستيقظة وتحاول أن تتحرك من على الفراش، ساعدتها وأخبرتها الأخرى أنها ستذهب لبيت هاجر هي فقط تريد أن تخبر والدتها ووالدها، هدأتها ممسكة بيدها وأعلمتها أن والدتها قد عرفت وذهبت كي تخبر أبيها، تنهدت وجلست على الفراش والحزن تمكن منها، ربتت على يدها بهدوء وقالت:
- وحدي الله وادعي ليها هي محتاجة الدعاء اكتر من أي حاجة.

🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸

-كدا يا حمزة متكلمنيش ولا حتى بترد عليا؟
زفر بضيق من حديثها فهو لا يعرف ما انتابه تجاهها فجأة، اصبح يمقت وجودها رد قائلًا باستياء:
- معلش يا هدير عندي شغل كتير ومضغوط، متزعليش.
وضعت يدها على يده وقالت محاولة استمالة قلبه مجددًا بعدما أحست ببعده عنها:
- ولا يهمك يا حبيبي المهم إنك كويس، بس متبعدش بليز.
سحب يده بهدوء وأماء لها وهو شارد في حديث والده، مشتت ولا يعرف سبيلًا لما يريد، هدير التي جذبت نظرة وكانت سقطة منه وبعدها تاه في متاهة الانجذاب كالفراشة التي جذبها ضوءً فاقتربت منه ببهجة فأحرقها الواقع بناره المستعرة،
كانت تقص عليه ما حدث معها في الأيام الماضية واقتربت من يده مرة اخرى ممسكة بها،يتابعها بصمت وذهنه مشغول وريثما هو شاردٌ في لجة أفكاره إذ بأبيه يدلف إلي داخل الصيدلية على حين غرة منه، تيبس مكانة ولم يقوى على التقدم فهو رأي فتاة ممسكة بيد ابنه ووالأخر على ما يبدو منسجم في الحديث معها،
رفع رأسه فتفاجأ بالواقف على بعد خطوات منه، وقف مسرعًا تارك يدها وكأنه كان ممسكًا على جمر ملتهب فأحرقه، نظرت للخلف فوجدت رجل في عقده الخامس تقريبًا يشبه حمزة كثيرًا فاستنتجت أنه والده،
تقدم ببطء من جلستهم وعينه لم تحيد عن حمزة المرتبك الذي خفض رأسه في خزي وكأنه طفل صغير أذنب منتظرًا لعقابه، غض بصره عنها، فهو تفاجأ بالوضع البغيض الذي رأه، جلس بهدوء على المقعد الموجود قريبًا منهم رحب به محمد كثيرًا فابتسم له مالك وحياه، ولم ينبث بحرف واحد لأبنه،
نظرت إلى مالك بجهل لما لم ينظر إليها أو يحاول التعرف عليها، لم تعلم ماذا عليها أن تفعل، نظرت لحمزة وعلامات الحيرة والتوتر بادية على محياه فهو لا يعرف كيف يتصرف، سألته بصوت هامس:
-هو دا باباك؟
ففط إماءة بسيطة منه كانت رده، تهللت اساريرها وتقدمت منه في ترحيب وهي تعلم ما تفعله جيدًا، تحسب كل خطوة تخطوها هي فرصة ولم تدعها تفلت من تحدت يدها، نظرت له ومدت يدها قائلة:
- ازاي حضرتك يا أونكل ، أنا هدير كنت زميلة حمزة في الجامعة وجيت له عشان يشوف لي شغل، وهو قالي هشتغل معاه لأني محتاجة للشغل دا جدًا.
نظر لها حمزة بصدمة من حديثها ثم فاجأة أكثر ما قاله والده:
- أهلا يا بنتي، آسف مش بسلم، ثم نظر لأبنه وقال :
طيب كويس كدا هبقى مطمن على سدرة أكتر لأنها قررت ترجع تشتغل في الصيدلية تاني.
ألقى كلامة والذي كان بمثابة قنبلة دوى صوت فرقعتها داخل الأثنين، نظرا كلا من هدير ومحمد لبعضهم بصدمة،
وشعر حمزة بأنه في ورطة ولم يعرف الخلاص منها، لم يستوعب لما قالت هدير هذا؟ وأيضًا لما قررت سدرة فجأة الرجوع؟ والأدهى نظرات والده التي تنزل عليه كالسوط فتجلد روحه، أغمض عينه عله يكون ما يفكر فيه كابوسًا وسيفيق منه وكأن شيء لم يكن.
🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸

طوال الطريق وهي شاردة الذهن، تتخيل الكثير والكثير من المشاهد داخل عقلها، ترى هل يستقر بها الحال منتحرة؟ أم أن حياتها ستظل على نفس الشاكلة؟ زفرت بضيق تخرج كم الأفكار الشيطانية التي عششت داخل رأسها وهي تقول بداخلها:
" استغفر الله العظيم إن شاء الله مش هوصل للمرحة دي من اليأس وإن حياتي ونفسي تهون عليا كدا، أنا واثقة في ربنا إنه شايل لي الأحسن، اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف به" وصلت أمام البناية ولم تلحظ المتربص الذي ينتظر عودتها فينقض عليها كذئب ينقض على فريسته، كانت الشمس أوشكت على المغيب فتوهجت بقرصها البرتقالي المائل للحمرة والذي أخذ لونه في الاختفاء رويدًا رويدًا، أثناء اقترابها من الدرج شعرت بمن يجذبها من يديها ويحاول تكتيفها، أصدرت رد فعل عنيف بأنها ضربته بحقيبتها على رأسه وسحبت يدها بقوة من داخل كفيه، ارتد للخلف قليلًا من أثر الضربة فالحقيبة ثقيلة كما أن ردة فعلها أجفلته، نظر لها بسخرية فبادلته النظرة بتحدي ثم قالت بغضب أشتعل فتيله بداخلها:
- أنت اتجننت يا بني آدم أنت إزاي تتجرأ وتلمسني كدا، أقسم بالله لو ما مشيت وسبتني في حالي لاكون مبلغة عنك البوليس.
صمت برهة ثم قال:
- كل مرة بتبهريني بردة فعلك، بس تعرفي دا ما بيزدنيش إلا إصرار على إنك تكوني ملكي.
نظرت له باشمئزاز ثم قالت:
- طول عمرك حيوان وأنا اللي كنت مخدوعة فيك، بحذرك يا مراد من إنك تتعرض لي تاني، ساعتها ماتلومش الا نفسك.
تركته يكاد ينفجر من شدة غضبة كالبركان الثائر وصعدت الدرج سريعًا وقلبها ينتفض بذعر، نظر في طيفيها وهو يتوعد لها ويخطط لشيء ما ثم رحل.
وصلت امام الشقة ووقفت قليلًا تحاول تهدئة أنفاسها المتلاحقة، أخرجت البخاخ من حقيبتها ودثته داخل فمها ضاغطه عليه، استنشقت الرزاز بهدوء وأخذت تزفر مرة تلو الاخرة حتى انتظمت انفاسها، ولجت للشقة ترسم البسمة على وجهها وقد بذلت مجهودًا مضنيًا كي تحظى بثبات ولا تسبب قلق لجدتها، وضعت حقيبتها على الطاولة واقتربت من جدتها التي ما زالت تغزل لها الشال الصوفي وعانقتها، ابتسمت لها الأخرى بعد أن حيتها وقامت بطبع قبلة على جبينها، تركت ما بيدها وقالت لها تذهب كي تبدل ملابسها وبعدها تأتي للمطبخ كي تساعدها في نقل الطعام.
🌸🌸🌸🌸🌸🌸

الهدوء يعم المكان إلا من صوت المذياع الذي يصدح بالقرآن، النساء متشحات بالسواد يجلس أغلبهم في صمت والبعض الأخر يتحدثون بهمهمات هامسة، دلفت سدن ووالدتها تجاه الجدة والتي ما إن رأتهم حاولت الوقوف والتقدم منهم، اقتربوا منها وتفاجأوا حينما جذبتها الجدة لأحضانها وأخذت تنتحب وتتفوه بكلمات يتمزق لها الفؤاد ألمًا، جلسوا وهي لازالت محتفظة بيد سدن داخل كفها المجعد، تشعر بأنها حفيدتها التي أفنت عمرها في تربيتها، المشهد مريع بالنسبة لها ولا تستوعب موت صدقيتها بعد ومن فنية لأخرى يصفعها عقلها بذكرى تجمعها بهاجر، وفي كل مرة تحدث نفسها قائلة:
" معقول اللي ماتت دي هاجر؟ يعني خلاص معدتش هاتبقى موجودة؟ يالله لطفك بينا "
استأذنت منهم الجدة قليلًا متجه للداخل ثم عادت وبيدها مظروف أبيض اللون وضعته بيد سدن ثم قالت بصوت مجهد من كثرة البكاء:
- خدي يا بنتي الجواب دا لقيته على سريرها بعد ما ماتت ومكتوب عليه اسمك، ادعيلها يا سدن ادعليها كتير.
ربتت على يدها والدموع تنهمر على خديها، لا تسطيع كبح بكاءها فهي متألمة وبشدة على صديقتها،
ودعا الجدة وداعًا حارًا مليء بالبكاء والشهقات نزلا اسفل البناية حيث مالك منتظرهم بالسيارة، اقترب والدها وعانقها، بكت كثيرًا على صدره، مسح على ظهرها بهدوء وعاونها في الركوب، أسندت رأسها على الزجاج ومواقفهما معًا تمر أماما أعينها، تتذكر الكلمات التي قالتها هاجر لها ذات مرة فانهمرت دموعها كاشلال.
"فلاش بلاك"
كانوا يجلسون بغرفة سدن وقد أعدت لهم جنة الكثير من الحلوى والمسليات، نظرت هاجر للأشياء وفمها ممتليء بالطعام وقالت:
- بت يا سدن أنا مينفعش أقيم معاكي هنا أصل امك دي قمر أوووي، ما تيجي نبدل وأهو كله بثوابه.
علت ضحكات سدن وقالت بعد أن جذبتها من ملابسها مقربة إياها منها:
- جاتك القرف، وانت بقى بتقري على أمي ولا إيه، ع العموم تعالي يا ختي مشوفتيهاش لما بتقلب دي بتبقى عاملة إزاي.
صمتت هاجر قليلًا ثم قالت :
- تفتكري ماما لو كانت منفصلتش هي وبابا كانت هتبقى حنينة عليا؟
القت بجملتها في وجهها والتي أصابتها بالخرس وكأن لسانها شل وأحبالها الصوتية قد قطعت،لم تعرف بما تجيب فصمتت، نظرت لها هاجر ثم قالت بمزاح:
- اقولك كانت هتخلي عيشتي هباب لدرجة إني ممكن انتحر بسببها، اممم تصدقي في كلتا الحالتين الإنتحار هو سبيلي الوحيد عشان اتخلص منهم.
جحظت أعينها مما تفوهت به وقالت لها بحدة:
- أنت هبلة يا بت انتحار إيه وهبل ايه، هو أنت ملك نفسك عشان تموتيها؟ يعني غاوية توجعي قلبي عليكِ كمان بالله متقوليها تاني.
ابتسمت لها وسرعان ما غطت على كلماتها بالمزاح والمرح، قضوا وقت ممتع برفقة بعضهم البعض وهم لا يعلمون أن القدر سيسلب منهم أجمل الأوقات.
" باك"
حدثت نفسها قائلة" مكنتش اعرف انك بتتكلمي جد ليه يا هاجر ليه تعملي في نفسك كدا، سامها يا رب سامحها واغفر لها."
فاقت على صوت والدها وهو يحثها على الهبوط ، فتحت الباب ببطء قد بلغ الضعف منها مبلغة امسك بيدها حينما ترنحت قليلًا، شعرت وكأنها هوت من فوق جبل شامخ وغاصت في بحر لجي خضم،
صاحت والدتها بفزع حينما أسرع أبيها يلتقطها بين يديه ،توجه بها ناحية منزلهم والقلق ينهش بصدره، وصل امام الشقة فاقتربت جنه كي تفتح الباب،
تفاجأ به حمزة الذي خرج من غرفته للتو، أسرع ناحيته فأشار والده على الغرفة كي يفتح له، وضعها والدها برفق على الفراش، ثم فك لها حجابها كي تتنفس براحة، طلب من حمزة أن يجلب قنينة العطر، جاء بها على عجل فأخذها منه نثر بعضًا فوق يده مقربها من أنفها، كانت جنة تجلس بجانبها ممسكة بيدها تمسد عليها وتدلكها وقلبها يرتجف، رمشت بأهدابها عدت مرات وهمهمت ببضع كلمات لم يتبين لهم ماذا تقول، أنت بضعف حينما حاولت الجلوس، عاونتها والدتها وضعت لها وسادة وراء ظهرها كي تجعلها أكثر راحة، نظرت لهم تسألهم عما حدث،
اقترب والدها طابعًا قبلة على رأسها داعيًا أن تكون بخير، أطمأن الجميع انها بخير وبعد قليل اقترب أخيها طابعًا قبلة على رأسها ثم رحل كي لا يتأخر على عمله، تركهم مالك هو الآخر وأوشكت جنة على اللحاق به بعدما دثرتها جيدًا لم تعطيها الفرصة كي تبتعد عنها وقالت بصوت مبحوح من كثرة البكاء:
- أرجوكِ يا ماما خليكِ معايا النهاردة محتاجة أنام في حضنك أووووي.
حركت يدها على رأسها بحنان وقالت:
- أنا جمبك يا حبيبتي نامي متقلقيش أنا مش هقوم.
هومت برأسها وتعانقا جفناها سريعًا كي يحظوا بالنوم والراحة.
🌸🌸🌸🌸🌸🌸
صباح جديد بنسيمه العليل وزهرة السماء تلمع ببريق خاطف للقلوب بلونها الذهبي،
كانت سدرة في طريقها للجامعة تمسك بمسبحتها وتتمتم ببعض الأذكار بعد ان اطمأنت على سدن، وصلت إلى وجهتها فهي اليوم ليس لديها محاضرات تلقيها فقط ستجلب شيئًا من مكتبها وتعاود للصيدلية كي تبدأ رحلة العمل بها من جديد، أخذت الملف ووضعته بحقيبتها ثم غادرت سريعًا، استوقفها نداء أحدهم عليها، فالتفتت له فإذا بذاك الطالب الذي تدرس له، اقترب منها وتحدث دون النظر إليها قائلُا:
- السلام عليكم يا دكتور، متأسف لو عطلت حضرت بس كنت محتاج من حضرتك أسم كتاب ضروري.
أماءت له وحثته على طلب ما يريد، أخبرها على الجزئية التي يرغب في وجود كتاب يبسطها له، أخبرته على اسم مجموعة من الكتب التي ربما تفيده، شكرها كثيرًا ثم غادر.

دلفت للصيدلية والتي لم يتغير بها شيء منذ أن غادرتها، وأثناء التفاتها شاهدت ما جعلها تفرغ فاها وتجحظ عينيها ، تيبست أطرافها لا تقوى على الحراك........

يتبع.....

شفاء الروححيث تعيش القصص. اكتشف الآن