البارت العاشر

64 4 1
                                    

البارت العاشر
 
صباح جديد والحزن يخيم على الجميع وكأنه غمامة سوداء خيمت على القلوب، تجلس ببيتها بعد أن انتهوا من مراسم الدفن كي تأخذ عزاء جدتها، الحزن والتيه مسيطرون عليها، جل ما يدور برأسها أنها باتت وحيدة من كانت تأويها وتحوى ألم قلبها بحنانها المعتاد رحلت دون سابق إنذار، تذكرت الكثير والكثير مما فعلته لأجلها، الآن أمام ناظريها صورة لامرأة عجوز تتمسك بفتاة لا تتعدى سن الخامسة عشر وتضمها إليها بشدة كأنها تخفيها من شيء ما وأمامها رجل وامرأة في حلة غضب شديد،  ما كانت  سوى جدتها التي انتشلتها من أنقاض ما خلفه والديها، نظرت المرأة لابنتها بكره واشمئزاز ولطمتها على وجهها وطردتها خارج المنزل ثم ولت نظرها للرجل ووبخته وطلبت منه ألا يأتي لهذا  البيت ثانيتًا، أخذت الفتاة وولجت بها لغرفة جميلة وحاولت أن تخفف من حزنها قليلًا، ابتسمت لها وقبلت يدها واندست داخل أحضانها تفتش عن حنان وحب حرمت منه، ومضات تمر على عقلها  تشعل نيران لم تنتطفأ بعد،
مسحت دموعها التي الهبت روحها ودعت لها بالرحمة فهي لن ترجع بالعويل والبكاء، ظلت تدعوا لها فهي كانت نبع لحنان فياض أغدقتها بكل المشاعر التي لم تجربها مع والدتها، كانت معها لحظة بلحظة في كل شيء فرح حزن غضب جل شيء، ألمها قلبها على حنين واحتواء رحلوا عنها، عن سند ووتد انهارت هي دونه،
بعد رحيل الجميع بقى فقط من كانوا بجانبها طيلة الوقت ولم يفارقوها عائلة يونس وعائلة مالك، النساء معها أما الرجال فتكفلوا بأخذ العزاء بالمسجد، ولجت لغرفة جدتها تنظر بأركانها هنا كانت تجلس ممسكة بمصحفها، وهناك كانت تغزل بالخيط، وعلى ذاك الفراش كانت تجلس ورأسها بحجر جدتها تمسد على شعرها وتقص عليها الحكايات، ابتلعت غصة بحلقها ومسحت دموعها ناظرة للمصحف والمسبحة أخذتهم  بأحضانها، اقتربت من كرسي جدتها الخاص وتناولت الشال الساكن عليه ولهنا لم تستطع منع بكاءها ضمته لقلبها، جلست على المقعد وتكورت على نفسها وشردت بما مضى وبما هو قادم.
بالخارج حدثت حور يونس واخبرته أنهم سيبيتون الليلة هنا وطلبت منهم الرحيل، طلب منها أن تتوخى الحذر وفي حالة حدوث شيء تحدثه على الفور، أخذ مالك الهاتف منه واطمئن عليها وعلى زوجته والجميع وأخبرها أن تنتبه على نور جيدًا، أغلقت معهم وبعدها توجهت صوبهم وحثتهم على الولوج للنوم، تقدمت حور وجنة من الغرفة القاطنة بها نور وفتحت الباب بهدوء فوجدوها على حالتها ، تقدموا منها فنظرت لهم بتيه، أمسكت جنة بيدها وحثتها على المضي معها حتى وصلت الفراش، سطحتها عليه وقامت حور بتدثيرها جيدًا، أودعتها كلا منهما بقبلة على رأسها وتركاها ورحلا.
بعد قليل دخلا اليها صديقتيها وانضموا اليها بهدوء وأخذت كلاً منهم موضوعها حيث هي بالمنتصف، انكمشوا على نفسهم واقتربوا منها يحيطونها وتضع كل واحدة يدها عليها فأمسكت بيدهم وشدت عليها وكأنها تخشى أن يتركوها.
في صباح اليوم التالي كان  صوت القرآن يعم المكان بالراحة، ذهبت جنة لمنزلها كي تطمئن على الأمور هناك، اصطحبها حمزة راضخًا لرغبتها، وصلت للمنزل فوجدت كل من يونس ومالك يتجهزون كي يذهبوا لعملهم، تركتهم بعد أن اطمأنت عليهم ثم  توجهت للداخل جاءت بملابس لها ولسدن، بعدها صعدت للطابق الذي يليهم وأحضرت أيضًا ثيابًا لحورية وسدرة، لم يخلوا حديث يونس ومالك من الإرشادات المعتادة فهي تعودت على ذلك، ودعتهم ورحلت مع ابنها.
قامت حورية بتجهز الإفطار بعد أن أيقظت الفتيات، انضمت لهم جنة التي جاءت للتو، لم تعارض نور وأخذت بعض اللقيمات حتى تمنحهم الفرصة في تناول الطعام ولا تسبب لهم حرجًا، انتهوا ورتبوا المكان وقد شرعت النساء في الدلوف لأداء واجب العزاء.
حضر زملائها في المكتب وأيضًا العديد من أهل المنطقة يؤدون واحب العزاء، كان يوم عصيب عليها وعلى الجميع الإرهاق بادي على وجهها فهي لم تنم طوال الليل،   رن هاتفها فظهرت على وجهها علامات الإستفهام، ردت فوجدته والدها ارتسمت ابتسامة مريرة على شفتيها وقد بُتر الأمل بداخلها ككل مرة،لا يسبب لها سوى الخيبة ولقلبها الملكوم الألم، أغلقت معه ونظرت للجميع منكثة رأسها ولم تقوى على مواجهة نظراتهم بعد أن أخبرتهم أن من يحدثها والدها، تركوها على راحتها حتى يغادر هذا الجمع.
بعد رحيل الجميع جلست بينهم وقد فاض بها الضيق والحزن، وجدت نفسها تتحدث إليهم بما تضمره بقلبها، نظرت لهم بدموع وقالت بخذلان أصاب معقل قلبها:
-تصوروا بابا حتى مسألش أنا هعيش ازاي؟  طب هقعد مع مين هبقى كويسة وبخير ولا لأ؟ هو مش خايف عليا ليه؟ ها دا بشمهندش يونس وعمو مالك اللي غرب عني خايفين عليا وهو حتى مبينش انه مهتم لأمري وخايف عليا؟ للدرجادي هو مش طايقني ولا بيحس إني بنته.
اقتربت جنة وغمرتها بأحضانها ودمعت عيناها وقد تذكرت هاجر وخشيت أن يطيلها ما أصابها، أمسكت بوجهها وقالت لها بحنان:
-       - استهدي بالله يا بنتي صدقيني كلنا بنحبك، ومعتبرينك بنتنا، أول مشفتك دخلتي قلبي وحبيتك على طول، أوعي تخلي اليأس والشيطان يسيطروا عليك، استغفري ربنا واشكريه إن في ناس بتحبك غيرك حياته جحيم وانت أحسن من غيرك بكتير قولي الحمد لله.
أمسكت بيدها وقبلتها وهومت برأسها والدموع تتقاذف من عينيها، نظرت لهم بامتنان  شكرت الله على نعمة وقررت أن تلتفت لمستقبلها وتحقق حلم جدتها ولا تنتبه لما مضى.
🌸🌸🌸🌸🌸
 مضت أيام العزاء وأصر الجميع على مكوثها  معهم وحتى تكون على راحتها ستسكن  بالشقة المقابلة ليونس، فبعد ما قصه عليه حمزة  بأمر  الشاب الذي يطاردها لم يرض بأن تكون وحدها ذاد اصراره هو ومالك على أن تكون بجانبهم فهم يعاملونها كابنتهم وايضًا تنفيذًا لوصية المرأة التي أمنته عليها، عادت الحياة لطبيعتها وسارت الأمور كالمعتاد لكن ما تكنه القلوب غير البادي على الوجوه، فداخل كل منا سراديب تحوي الكثير وتتكتم عليها خافية ما في جعبتها عن أنظار الجميع.
 
في الصيدلية
يقف محمد وقد أصابه الأرق من كثرة التفكير،  لا يعلم كيف يحل هذه المعضلة، كان يراقبه حمزة متعجبًا من حالة مالذي يقلقه هكذا، أمن الممكن أن يكون شكه بمحله؟ عزم على معرفة الأمر فاقترب منه وسأله ما به؟ فنظر له محمد وكأنه طوق النجاة الذي سخره الله له لينتشله من داخل البؤرة التي سقط بها،  قص عليه كل شيء يخص أخيه وما اصابه من مرض خبيث، كان يحكي وقلبه مفطور على صغيره الذي لم يتعدَ التسع سنوات، ربت على كتفه وقد اشفق عليه وعلى أخيه،طلب منه أن يأتي له بالأوراق الخاصة بأخية وهو سيقوم باللازم  ولا يحمل هم شيء فهو يعرف أطباء سيقومون بمعالجته داخل المشفى المخصصة لحالته، عانقه محمد وقد شكره كثيرًا فقد زال عن عاتقه هم كبير، نظر له وبشعور صادق اعتذر منه وقد دمعت عينيه، لم يفهم عليه الأخر ومما يعتذر لم يفكر كثيرًا  وأرجع ذلك لحالته،  بعد قليل استأذن محمد كي يذهب للمنزل وسيعود سريعًا أذن له حمزة وطلب منه عدم التأخير لأن لديه موعد هام.
 
التقى الصديقين كما اتفقا مسبقًا، صافحا بعضهما بحرارة وجلسا على طاولة تطل نافذتها على الشارع، تحدث إليه علي عن حاله وما الذي يقلقه هكذا، نظر له  بتنهيدة  عميقة نابعة من لج روحه وقص عليه كل شيء بدايةً من معرفته بهدير حتى الآن، صعق علي مما ألقى على سمعه وكأنه أصيب بصاعق كهربي، نظر له مطولُا وهو يعلم ما يجول في نفس صديقه فقال في نفسه نطرق على الحديد وهو ساخن فيلين نظر له  وقال بجدية مخالطة للنصح بلطف:
-       أنت طبعًا غلطان من  الأول لما كلمت البنت دي، لا دي أخلاقنا ولا دينا اللي اتربينا عليه وكمان بقالك سنه يا حمزة ؟ لا واللي مستغرب له أن حضرتك بعدت عن كله حتى أخواتك، وأنا  كنت حاسس إنك بتهرب مني، لازم تفوق يا  لازم قبل ما رجلك تغوص أكتر ومحدش ساعتها هيعرف ينجدك.
نظر له والأفكار تفعل برأسه الأفاعيل دون رحمة أو شفقة فقال وهو يشعر بتأنيب ضميره :
-       صدقني غصب عني كل دا معرفش عملت كدا ازاي ولا اني بعدت عن ربنا وبقيت عادي، كنت حاسس اني متكتف ولا قادر على حاجة، وهدير جات لي في وقت كنت ضعيف وضعفت أكتر معاها واتساهلت بحاجات كتير، صدقني أنا من يوم ما شوفت نظرة الخيبة والخذي في عيون أبويا وأنا سكاكين بتقطع فيا حاسس إني زبالة أوي، أنا بعدت عن كل حاجة كنت بعملها يا علي حتى العبادات دا أنا كنت بصلي بالعافية وأحس انها تقيلة على قلبي، أنا ندمان والله العظيم ندمان ونفسي ربنا يسامحني ويتوب عليا، وبابا واخواتي اللي ظلمتهم معايا يسامحوني هما كمان .
شفق على حالة كثيرًا فربت على كتفه بمواساه وقال له:
-       توب يا صاحبي قرب من ربنا وابعد عن أي حاجة تلهيك عنه، للأسف دا كان اختبار وربنا حطك فيه حاول تصلح اللي عملته، أنوي التوبه وصلي ركعتين لله  وأبعد عن البنت دي وابدأ من جديد على نضيف.
هز رأسه وعزم على التخلص مما لوثه وجعله ينحدر وتنزلق قدمه في طين لازج.
ودع علي ووعده بأنه سيفعل ما يرضى الله فقط دعى له بصلاح الحال وتركه كي يذهب لبيته، دخل الصيديلة مرة أخرى فوجد محمد ابتسم له وأخذ طريقه للداخل، توضأ وصلى ركعتين وفي سجوده بكى كأنه لم يبكي من قبل، كطفل صغير غابت عنه أمه فانفطر من كثرة البكاء،
دموع غسلت روحه وقلبه وأحيت ما دفن في الأعماق وما كان يتجاهله، استرد طمأنينة احتلت جوارحه، الدمع الغاسق يجري بلا هوادة ندمًا وحسرة على ما اقترفه، تضرع لربه شاكيًا راجيًا العفو والسماح، ظل هكذا وقت طويل وهو لا يعي لشيء من حوله سوى الحالة التي هو عليها فقط .
 
🌸🌸🌸🌸🌸🌸
حينما تحاول أن تعود لطبيعتك أو ما كنت عليه فهو أشبه بعودتك من متاهة ألقيت بها عنوةً ولم تعرف سبيلًا للرجوع.
 عادت نور  لعملها وأنهكت نفسها به علها تخمد  النيران الناشبة بقلبها،
لم تقوى  على المتابعة أو بالأحرى عنادها على أنها بخير وهي ليست كذلك، فقد أصابها دوار جعل  رأسها تؤلمها، استكانت قليلًا وبعدها دخلت ليونس تستأذنه حتى ترحل،  أذن لها وأخبرها أن تطمئنه حين تصل، هزت رأسها وذهبت، أشارت لسيارة الأجرة واملته العنوان، استندت برأسها على الزجاج شاردة في كل شيء، تحمد ربها على من هم بجانبها الان وتيقنت بأن الله لطيف رؤف بها حتى يهيئ لها أناس مثلهم لكن ما بداخلها خيوط متشابكة لا تستطيع فكها، كيف تتخلص منها تريد حرق جل ما تشعر به من قهر وألم وخيبات تراكمت فوق بعضها محدثه جدار صلب،
لم تفيق إلا على صوت السائق وهو يخبرها بأنهم وصلوا، شكرته ونزلت بعد أن حاسبته، دلفت للبناية وصعدت الدرج كما اعتادت وحينما وصلت للطابق الخامس فتح المصعد فجأة وظهرت منه سدن والتي ابتسمت حينما رأتها، أصرت على دخولها معها فغي هذا الوقت لا يوجد سوى والدتها، لم تعترض لكنها قالت أنها ستبدل ملابسها وتصلي ثم تأتي على الفور،
دخلت سدن وأعلمت والدتها بقدوم نور، أبدلت هي الأخرى ملابسها وجلست أمام التلفاز تنتظرها،
دق الباب فهرولت تجاه ، اتسعت ابتسامتها وأمسكت بيدها وقالت بمرح:
-تعالي دا أنا هستفرد بيك بعيدًا عن البت سدرة.
ضحكت بخفوت على حديثها وسيارتها حتى وصلوا غرفة المكتب الخاصة بوالدها، دخلا فنظرت نور حولها بانبهار من كل  الكتب التي رأتها، الغرفة جوانبها عبارة عن رفوف حاوية العديد من الكتب، بها مكتب ضخم عليه جهاز حاسوب وبعض الأوراق والعديد من الأقلام المنظمة داخل علبة من الخذف أنيقة، بعد التحف المنتقاة بعناية، وراءه أيضًا رفوف من الكتب كما حال بقية الحوائط، بها أريكتين وطاولة صغيرة،  أفاقت على حديث سدن وهي تقول بخوف مصطنع:
-       بصي بقى الكنز دا تبع بابا وحمزة  أحنا هناخد الكتب اللي عاوزينها ونجري قبل ما يجوا لحسن بابا يعلقني، هو مش هيعملك حاجة عشان هترجعي الكتب إنما أنا اللي بيدخل أوضتي مش بيرجع أبدُا.
سألتها مستغربة لما؟
قالت بصوت هامس وهي تنظر حولها:
-       أصل انا بعمل مكتبة في أوضتي وبحاول املاها  بالكتب وبصراحة بابا زهق مني.
أومأت بتفهم وضحكت على طفلته المشاغبة، سمعا صوت جنة ينادي عليهم، اقتربت منها وحثتها على اخيار كتاب لتقرأه اتجهت لرف ما واختارت كتاب وقالت أنها ستغامر فهو نوع جديد بالنسبة لما قرأته من قبل، خرجا لجنة والتي أحضرت لهم بعض الشطائر ومشروب من الفواكه الطازجة، حاولت نور الاعتراض لكن زجرتها الاخرى بنظرة منها فتناولت الشطيرة وقربتها من فمها بهدوء، نظرت لهم في حنان ودخلت كي تكمل ما تفعله بعد ان ألقت أوامرها بإنهاء كل الطعام، دنت سدن من نور وهمست لها:
-       جوجو لو ناوية تزغطنا مش هتجيب لينا كل السندوتشات دي كلي بدل ما تلاقي كف خماسي نزل على دراعك.
انفجرت الاخرى ضاحكة على روحها المرحة وتمنت أن تظل معهم طوال العمر.
🌸🌸🌸🌸
دخلت سدرة للصيدلية فلم تجد سوى  حمزة ، ألقت التحية وجلست بجانبه بإنهاك أخرجت حاسوبها وبعض الأوراق كي تعمل عليها، كان  يراقبها ولا يعرف سببا للابتعاد عنها هو في أوج حالاته للجوء إليها، كانت تتظاهر بالانشغال لكن كلام خالها الذي حدثها به يتردد بذهنها وهو يقول لها" بصي يا سدرة محدش عارف هو دماغة فيها إيه بس محدش هيرجعه عن اللي هو فيه دا غيرك ، دا توأمك يعتبر فأرجوكِ يا بنتي حاولي وربنا يجعل الخير في إيدك وترجعيه، ولو مسمعش ليك ساعتها حسابه معايا عسير عشان انا فوت كتير ودا كان غلط مني" تجمعت الأفكار بذهنها وعزمت على حسم الأمر  وقد باغتته بسؤال هو نفسه لا يعرف اجابته، حيث قالت بحزن نابع من أعماقها:
-       حمزة هو أنت ليه اتغيرت كدا؟ بعدت عني أنا وسدن وقولت مش مشكلة جايز ضيقناك من غير ما ناخد  بالنا، بس انك تعمل حاجات لا اتربينا عليها ولا ديننا يسمح بيه، ليه كدا فين أخونا  اللي كان بيساعدنا ويعلمنا أمور ديننا، اللي كان بيعاقبنا لو شك بس اننا مقصرين؟ أرجوك رجعلي أخويا بالله رجعهولنا.
 
كلامها كان يجلد روحه المتألمة فيلهبها
انفطر قلبه على الألم الذي سكن روحها ودموعها التي جلدت روحه لم يقوى على الفتور أكثر من ذلك وجذبها لأحضانه فتشبثت به وهي تدعو الله أن يعود لرشده والا يفترق عنهم مرة اخرى،
أخرجها من حضنه ومسح لها دموعها مبتسمًا لها بحنان فرأت في عينيه وميض أمل وحنان كنظراته لها في السابق، فرح قلبها وانشرح صدرها، طبع قبلة على جبهتها وربت على كفها بهدوء وجاء ليتحدث فسبقته التي دخلت فجأة وهي تصيح به وقد تلبستها الشياطين وأخذت تهذي بكلام عديد ، اقتربت منهم وقالت بغضب فج:
-       الله الله، بقى كدا يا حمزة عشرة أيام أرن عليك ولا تردواجي لك هنا تتهرب مني وتتحجج بكلام فارغ، وأنت قاعد هنا مع  السينيوريتا بتاعتك، دا جزاتي إني حبيتك واستحملت عقدك ها، وأنت يا حرباية  يا حقودة غيرانة مني وبعديه عني عشان محدش معبرك يا عانس أنت، عملالي فيها محترمة وقال الله وقال الرسول وأنت جواك سواد بقى أنت كدا متربية لما تبعديه يا. ...
جهر بصوته ومنعها من الاسترسال ونظر لها بكره عارم وقد ثارت أعصابه وتفاقم الغضب بداخله كالحمم البركانية، ضرب الطاولة بيده فارتدت هي للخلف خوفًا من أن يصيبها أذى، أما عنها فهي تنظر لها باستخفاف وكلماتها لم تهز ثباتها لكن لمعت برأسها فكرة واستخدمت مكر حواء خاصتها ونظرت تجاهه وأمسكت بيده تمنعه مرة اخرى كي لا يؤذي نفسه، ناظرته بحزن وعتاب ودخلت للغرفة سريعًا وأغلقت الباب خلفها، وجه بصره  للمنكمشة على نفسها فهي لا تعرفه حينما يغضب وبخت نفسها على تسرعها وحاولت التحدث فأشار لها بالصمت وقال بصوت يحمل الغضب منها والكره من نفسه:
-ولا كلمة لحد كدا وكفاية إلا أختي يا هدير واللي يزعلها أو بس يفكر يهينها أنا أفعصه، أنا غلطت من الأول لما اتساهلت معاكِ وانجرفت وراكِ ونسيت اللي أمرني بيه ربي، اللي هي عقدي اللي دايمًا بتقوليها، لحد هنا وكفاية أوي مش عايز أعرفك تاني روحي لحالك وسيبيني أحاول أصلح اللي بوظته كل حياتي اتقلبت لما دخليتها وأنا كنت معمي وماشي وراكِ بس الحمد لله إني فقت بدري قبل ما أضيع أكتر، روحي الله يهديكِ ويهديني، ولو سمحت متجيش هنا تاني عشان ساعتها تصرفي مش هيعجبك.
نظرت له بصدمة من حديثه، غضبت منه كثيرًا ونظرت له بكره وحاولت أن تثأر لكرامتها فقالت:
-       قال يعني انا اللي هموت عليك في داهية يا بابا مش هدير اللي تزعل على حد بس خلي بالك من نفسك بقى وخاف مني عشان مش أنا اللي اتهان كدا واسكت.
تركته ورحلت أما هو فقد هوى على المقعد بإنهاك وقد شعر بالارتياح، تبرأ قلبه من الذنب وقد أخذ سبيله تجاه شفاء روحه وعلاجها مما اصابها من  مضاعفات، يعرف كم الألم الذي سيقابله لكن لابد من الاستمرار فهو أشبه بجرح عفن لابد من فتحه وتطهير ما به من قيح كي يشفى،.
 تذكر ما حل به منذ وفاة جدة نور وهو في حال غير الحال تذكر كلام والده له وكيف خذله، لاحت أمامه نظرات صغيرته وهي تريده بجانبها وكم الألم والحزن المسيطر عليها وعلى توأم روحه، اختتمها بعيون نور الحزينة ولا يعرف لما تذكرها لكنه أحب ذلك، عزم على شيء ما وابتسم، طرق الباب على سدرة ففتحت له وقد جاهدت أن تداري فرحتها بما حدث فنظر إليها وهو يعلم ما يجول داخلها وقال لها بابتسامة واسعة:
-       كنت متأكد من منظرك دا، اضحكي يا روحي ممكن تنفجري مننا في أي  وقت. ولا حاجة.
لم تسطع اخفاء بسمتها اكثر من ذلك فصدرت عنها ضحكات عالية وعانقته بسعادة وفرحة طغت على روحها، أشرقت شمس قلبه وقد حزن على ما اقترفه لكنه وعد نفسه بأن يعوضهم عما سببه لهم من ألم.
قالت له سدرة بعدما جلسا على المكتب بحماس:
-       تعرف مين اللي هتفرح أوي برجوعك وإن الحمد لله الحرباية دي خرجت من حياتك البت سدن دي احتمال تزغرط.
نظر لها وقد ارتفع حاجبه الأيمن وقال بسخرية:
-       يا ما شاء الله وحضرتك بقى مصياتني عند الكل.
قالت بجدية:
-       بصراحة أنا وهي كنا مستغربينك جدًا واللي زاد وغطى ست هدير، سدن كانت هتتجن إزاي زعلان من معاملة بابا ليا وهو كان بيعاملني زيه، لما اكتشفت علاقتك بهدير قولت بس التفسير الوحيد إن حضرتك خايف ليحصل كدا معانا فقومت بعدت عننا، ماهو مش معقول هتبقى عدم ثقة في أخلاقنا.
أكد على كلامها وقد شرد في اخته مرة أخرى هو كان مغيب وكأنه إنسان آخر ناقم على  كل شيء، حمد ربه كثيرًا بأنه عاد لرشده في الوقت المناسب وطلب منه الثبات.
.🌸🌸🌸🌸
  
   هناك نيران مستعرة تدب بداخلها لا تعلم ما عليها فعله لكنها تريد اخمادها قبل أن تلتهمها، امسكت بهاتفها وقامت بالاتصال عليه عله يخفف عنها، أنهت معه فرحة بما ألقاه عل  أذنها ، هاتفت الآخر و
طلب مقابلتها فوافقت على الفور، خرجت من غرفتها فلم تجد أحد كالمعتاد ذهبت بطريقها ولم تلقي بالا لأحد، جلست مدة حتى وصل ابتسمت بسعادة ورحبت به وقالت بحماس:
-       بص بقى يا محمد ركز معايا عشان أنا المرة دي مش.....
لم تكد تكمل حديثها حتى قاطعها هو وألقى ما في جوفة دفعةً واحدة:
-       بصي يا هدير أنا ساعدتك في الأول لأني كنت محتاج الفلوس دي لنفسي ومنكرش إني طمعت بس أنا مش مكمل في الحكاية دي كفاية انه  بسبب عمايلي أخويا جالة كانسر، اللي لسه عند تسع سنين حياتة انتهت من قبل ما يبتديها، وأول حد لجأتله هو حمزة  والحقيقة مخذلنيش، صدقيني أنا ندمان على اللي عملته فيه بس خلاص وقت الندم عدى وأنا لا يمكن أذيه تاني.
نظرت له  وهي لا تصدق ما تسمعه وقالت له بسخرية:
-       خلاص توبت على إيد الشيخ حمزة ولا إيه؟
امتعض من سخريتها وقال وهو يهم بالمغادرة:
-       الخلاصة إني مش هكمل في القذارة دي كفاية بقى فرقنا إيه احنا عن تجار المخدرات لما بنساعد الشباب انها تلاقي البديل صدقيني أنا بستحقر نفسي وبحمد ربنا إن فوقت.ه
لم تستطع أن ترد عليه فقد ألقى حديثه ورحل سريعًا، ظلت محملقه في مكانه فترة ثم أخذت أغراضها ورحلت هي الأخرى لا تعلم مالذي ستفعله، هي أقحمت نفسها  داخل هذا العالم العفن لأجل المال فهي لا تسطتيع العيش دونه، ترى مالذي يجري داخل لبها وهل ستستسلم بكل سهولة؟ أم أن انتقامها لا يخمد بهذه الطريقة ؟.
🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸
البارت الحادي عشر
 
السعادة التي تحوي القلب أشبه بشمس ديسمبر حينما  تسطع تغمر الكون بدفئها مانحة الجميع الحب والأمان دون مقابل، تجلس الفتيات بالشرفة يثرثرون دون ملل وبالأخص سدن التي باتت لا تتوقف عما تنتوي فعله، نظرا إليها كلا من نور وسدرة بملل ، استدارت سدرة وغمزت للأخرى ففهمت عليها وسرعان ما أنقضوا عليها  وضعت سدرة يدها على فمها وقالت بحنق ونفاذ صبر:
-       يا بت اتهدي بقى إيه مزهقتيش، دا انا زوري وجعني بدلك.
نظرت لها الأخرى بغضب وقامت بغرز اسنانها بيدها ابتعدت متأوه ووقفت سدن على باب الشرفة وأخرجت لها لسانها بغيظ وفرت هاربة على الأسفل، ضحكا على تصرفاتها الحمقاء وجلسا الفتاتان مرة أخرى على أرضية الشرفة دون حديث، تناولت نور دفتر الرسم خاصتها بعد أن قامت بجذب القلم من عقدة شعرها فهي عادة لديها تغرزه بكعكتها دائمًا أنشغلت في رسم شيء لا تعرفه وهي شاردة الذهن، لا تدري ما تخطه يدها،
أما عن سدن فهي انشغلت بالبحث عن انشودة تستمع إليها، ظلت تبحث حتى وجدت ضالتها قامت برفع الصوت قليلًا حيث أنساب صوت “حمزة نمرة"  وأخذت هي تتمتم معه وعقلها رحل بها لذكرى بعيدة، ذكرى لا زالت نداباتها عالقة بروحها، طهرت جوارحها منه؛ لكن تلك الندبات باقية حتى تكون درس لا تغفل عنه.
 
" في ناس بتسيب لك علامة في قلبك لو مهما بعدوا لفين، وناس مش فارق وجودها  في روحك لوحتى عشرة سنين، في ناس مش بتقول بتعمل  وجنبك في الشدة تظهر وناس حلفت لك تكمل لكن زي الورد تدبل، في ناس من قلبك تعدي فتاخد أكتر ما تدي وناس من روحك تهدي تشوف بها الدنيا أجمل"
انتبهت نور للكلمات وكم هي تصف حالها  ابتسمت بدفء لما هي عليه الآن وكم الحب والإحتواء الذي تعيشة، صحيح ان جدتها عوضتها كثيرًا ؛ لكن تبقى العائلة والصحبة هي ذروة المشاعر حائط الأمان والدفاع،
نظرت تجاه ما رسمته وتوسعت عيناها بشدة ما هذا ؟ أغلقت الدفتر سريعًا خشيةً أن يراه أحد ولا زالت الصدمة تحتل كيانها.
 
 
نزلت الدرج بمرح وهي تطوق لرؤية اخيها الحبيب طرقت الباب بمرح فتح لها والدها بابتسامته العذبة، قبلت وجنته وتعلقت بيده، سارت بجانبه حتى وصل للأريكة وجلسا عليها، دارت بنظرها علها تجده لكن خاب املها، تأخر عن موعده كثيرًا يا ترى أين يكون؟ هذا ما يدور بخلدها الأن، كان الأب منشغلًا بتصحيح  الاختبارات فلم تود ازعاجه دخلت لغرفتها في محاولة منها للمذاكرة.
 
فتح باب المنزل وألقى السلام بهدوء، رمق أبيه الغارق في أعماله والذي رد السلام دون أن يرفع رأسه، اقترب منه وجثى على ركبتيه أمامه، نظر له باستغراب، فقام حمزة بإمساك يده وتقبيلها وهو يعتذر له ويتأسف وأجهش في بكاء مرير ،خزيًا وندمُا على ما اقترفه، اغرورقت عين  مالك بالدموع فرحًا وحزنًا في آن واحد، فرحًا على عودة ابنه الضال عن الطريق، وحزنًا لما يشعر به من ألم وتأنيب الضمير، ضمه مالك لأحضانه وربت على ظهره بود وظل يحدثه كي يكف عن البكاء، هدأ أخيرًا وابتعد عن أبيه مقبلًا رأسه ووعده ألا يتهاون بعد ذلك، أماء له أبيه وشجعه على ذلك، اتجه ناحية غرفة والدته وقد عزم على إصلاح ما أفسده ، وجدها غافية على الفراش قبل رأسها ودثرها جيدًا وخرج صوب غرفة صغيرته، طرق الباب ودخل وجدها جالسة خلف مكتبها واضعة يدها على وجنتها عابسة الوجه، ضحك على مظهرها العابس وناداها بصوت خفيض، رفعت أنظارها إليه ولم تصدق أخذت تفرك في عينيها علها تتخيل، أقترب منها وبعثر لها شعرها وضحك بخفة عليها، فغرت فاها وابتسامة بلهاء مرتسمة على وجهها، هزها بلطف وقال بمرح:
-       هتفضلي متنحة كدا كتير يا بنت، اقفلي بقك لناموسة تدخل فيه ولا حاجة.
ابتسمت له وقد لمعت الدموع بعينيها وسرعان ما جرت على خديها ابتسم بحزن واقترب ماسحًا دموعها  وجذبها في عناق اشتاقت له الأنفس وهفت إليه الروح، شهقات متقطعة صادرة منها وصوتها المكتوم وهي تقول له:
-       وحشتني أوووي يا حمزة  بالله متبعد عني تاني أنا محتجاك جنبي دايمًا.
ربت على رأسها نزولًا برأسها وقال بنبرة مليئة بالحب والحنان:
-       وأنت كمان يا حبيبتي وحشتيني خلاص متقلقيش مش هبعد أبدًا.
نظرت له وكأنها تقول هل أنت صادق؟ وكان رده إماءة برأسه ثم طبع قبلة على جبينها وجلس معها على الفراش وظلا يتحدثا كثيرًا، أخذها الحماس وظلت تقص عليه كل ما حدث معها وعلاقتها الجديدة بنور، لم يدري لما خفق قلبه على ذكرها، لكن الأجدر بالذكر أنه بات مستمتعا بالنبضات التي تخصها وحدها.
🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸

شفاء الروححيث تعيش القصص. اكتشف الآن