5

783 20 5
                                    

الجزء الخامس


.
،
.


في الدانـة


كان الجميع صامتًا.. متسمّرًا أمام شاشة التلفاز الضخمة
الجميع يشاهد الرماد في كل مكان.. صوت التفجيرات لا يهدئ.. يقاطعه فجأة علو صوت الأذان من أحد المساجد
كان المؤذن يؤذن بصوت متحشرجٍ باكٍ وسط ضجيج الانفجار والصراخ

الله أكبر من كل هذا الظلم.. الله أكبر وأعظم.. الله أكبر

مسحت دموعها بأطراف غطائها التقليدي: حسبي الله ونعم الوكيل.. حسبي الله.. الله يرحمهم برحمته

كان الجميع متأثّرًا.. ما يحدث في فلسطين أكبر من أن تتصوّره الأنفس.. أكبر من أي جريمةٍ خلّدها التاريخ
سمعنا عن تفجيرات في الكنائس، والحدائق، والبيوت.. ولا نهوّن الأمر ولكن أن يتم تفجير مأمن الجريح.. أن يتم تفجير مستشفىً!
في أي عرف، وأي دين، وأي حربٍ قذرة قد يحدث هذا؟ أي نوعٍ من البشر هؤلاء وأي دمٍ ملوّث قد يسري في تلك العروق؟

أم مطر بتأثر بالغ: لا حول ولا قوة الا بالله.. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. شهداء عند الله يارب

أم حياب: الله يرحم مستضعفيهم يارب.. والله كسروا خاطري.. بس سمعت يقولون إنها لعبة سياسية وداخلين فيها امريكا والغرب

الجدة: يا أمي امريكا ولا الغرب ولا غيره.. الموضوع مايبغي له تفكير.. صغاريّة ينذبحون في فراشهم، الواحد يموت ولقمته في ايده.. شو تخربطين علينا انتي
الواحد مب لازم يكون فاهم عشان يوقف مع هالمساكين.. يسده إنه يكون إنسان

أم حياب بتبرير: الله يهديج أمي أنا ماقلت شي.. بس أشوف الناس تتكلم

الجدة: يا حب الناس للخريط (الكذب) والكلام الفاضي.. يا أميه هذيل يبون يمسحونهم من الدنيا يبيدونهم، بادهم الله

سلامة تمسح أنفها: امايه صغيْرة خلينا نشوف شي ثاني دخيلج.. والله هلكنا من الصياح.. نحن قليلين حيلة نشوف ونتويّع (نتوجع) بس

الجدة: الناس تتعذب وتموت يا سلامة.. شو بيستوي لو قلبج عورج شوي؟

سلامة: بس شو الفايدة؟ محد مستفيد منا لا نحن ولا هم

أم سلطان: الرسول عليه الصلاة والسلام يقول "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"

كانت صغيرة منهارة من البكاء: يارب الله يمحيهم من الوجود ونفتك منهم.. حسبي الله عليهم.. ليش للحين ماستوا فيهم شي.. كل هالمساكين استشهدوا وهذيل كل يوم يزيدون قوة وجبروت

أم سلطان: استغفري ربج يا صغيرة.. الله موجود يعلم ويرى.. واجّل عذابهم لحكمة عنده نحن ما نعلمها.. كل اللي ماتوا في الحرب بإذن الله شهداء فرحين عند ربهم أما الظالم فيا ويله من ربه.. واللي يشرد من محكمة الدنيا وراه محكمة الآخرة.. عند الذي لا يُظلم عنده أحد

أم غديّر تؤيد أختها: الله قال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ).. لا يهتز إيمانكم ويقينكم بالله.. الله موجود.. ربي قادر إنه يمحي كل شي وينسفهم.. لكن حتى البلاء هذا رحمة على عباده

الجدة: يعل الجنة مثواهم.. لا حساب ولا عذاب يارب

قامت سلامة وهي تشاهق: اسمحولي أنا بدخل داخل.. الحمدلله أنا ادعي لهم واتذكرهم بالصدقات.. لكن هالمناظر.. والله ماقدر

أم غديّر: والله قلبي تقطع.. كيف بتهنى لي لقمة وتهنى لي حياة وهم يعانون؟

أم سلطان: الله يرحمهم ويلطف بحالهم يارب.. هذا اللي يعور القلب.. إن رغم كل هالألم مضطرين نكمل حياتنا طبيعي.. الله يرحمهم برحمته.. يارب


،


وقفة.. مع ما يحدث في فلسطين.. لم استطع أن اتجاوز الأمر وإكمال الرواية وكأن أمرًا لم يكن
لعلّ ذكري للحادثة لا شيء.. هو بالفعل لا شيء.. ولكنه تبريري الوحيد لنفسي إن لسعتني جلدات الضمير

لا تنسوهم من الدعاء


.
،
.



في المملكة المتحدة

نقلوا حياب إلى غرفته بعد أن أفاق.. وكان ابناء عمومته معه

كان حياب يضحك ضحكًا هستيريًا.. بينما كان الممرضين حوله مستمرين باداء عملهم بتجاهلٍ تام.. وكأنهم قد تعودوا على هذه الحالات

غديّر: الحمدلله والشكر بلاك حياب؟

حياب: هههههههههههه حواجب قرواش تضحكني

قرواش باستغراب: وابوي.. شو بلاهن حواجبي (طالع هزاع) هذي داست راسه شكلها مب ظهره

غديّر قهقه: تأثير المخدر يمكن

رنّ هاتفه للمرة المليون.. تأفف ورد: الوو.. ها محمد.. شوفيك مليون مرة تتصل؟ مارديت يعني مشغول.. يعني اصبر شوي.. شو هذا

نطق بالاسم.. وتجمد الرجال حوله.. محمد هو عامل الاسطبل المسؤول عن الخيول كافة

فتح غديّر عيونه بصدمة: شوووووووو؟؟؟ (طالعهم) هذا قافز بالجامح؟

سكتوا.. شو بيقولون؟ ما كان عندهم رد.. ما توقعوا إن الأمر بيكبر لهالدرجة

قال غديّر بقلق شديد: عطني الدكتور اكلمه.. الحين انا في المستشفى مع حياب.. بخلص وبييكم

دخل في نقاش مطوّل مع الطبيب البيطري الذي كان يخبره عن وضع الجامح.. استشار اطباء آخرين.. وقرروا الخطة العلاجية

قال بغضب: تماديتوا وايد.. وايد

هزاع بتبرير: كان تحدي ماتوقعنا انه بينجلب بالفرس

غديّر: بالله عليك.. وما حصلتوا حد تلعبوا به الا الجامح؟ تعرفون منو هذي انتوا؟

قرواش يحاول يسيطر على اعصابه: ندري إنها فرس سلطان.. بس سلطان مايدري ولا تخبره

غديّر: لا والله أحلف أنته بس؟ الجامح هذي من الخيل النقايا.. من سلالة ربدان خيل الشيخ زايد الله يرحمه.. والله انكم حميير مب رياييل.. تعرفون هذي كم تسوى؟ واللي في بطنها كم؟ ولو إن الخيل مب بالفلوس
لكن والله انكم حمير حمييير


.
،
.


في الجامعة

لم يحضر حياب، لم ترى سوى قرواش وهزاع.. استغربت فبالعادة إن غابوا يغيبون معًا.. دفعة واحدة
لم تكترث كثيرًا.. ولكن لفت انتباهها حديث الدكتور "غدّير" عندما تحدّث بنفسه عن حياب.. قال بأنه قد تعرّض لحادث ولذلك تغيّب عن الامتحان اليوم

انتظرت إلى أن خرج الجميع وذهبت إليه بقلق

قالت: دكتور

ابتسم: آمري

ريّان: سلامات.. سمعتك تحكي ان حياب تعبان

غديّر: هيه مسوي عملية في ظهره

ريّان: يالله.. في ظهره! شكلها عملية كبيرة

غديّر تنهد: الله يهديه بس.. طيش وتهور.. طايح من الخيل

شهقت: انته قلتلي إن طيحات الخيل ماتعور

غديّر: لو انه عاقل مابيطيح.. لكنه هو وعيال عمه طايشين وهذي اخرة الطيش.. الله يهديهم بس.. دعواتج

ريان: مسكين الله يشفيه يارب

غديّر: آمين.. مشكورة على السؤال


.
،
.



كان صوتُ الاغاني عاليًا جدًّا.. كبداية فهو لا يحبذ سماع الاغاني كثيرًا.. بالاضافة إلى أنه يستغل هذا الوقت بالقراءة.. والآن الضجيج يصل حتى غرفته ويشعر بنفسه مشتتًّا.. فحتى هذا الضجيج ليس بجديد عليه.. ولكنه اليوم لا يستطيع المقاومة

أغلق كل شيء وخرج إلى غرفة المعيشة.. رأى منظرًا معتادًا عليه.. كان المرضى والممرضين يرقصون سوية مع المغنية والراقصة في التلفاز

كل من يشاركهم المكان كان مركزًا مع الراقصة وحركات جسمها.. المرضى، الممرضين، الحرّاس، وحتى المنظفين
الفطرة هنا تُخضِع الجميع.. سواء كنت عاقلًا أو مجنونًا
قد يختلف الرجال في أمور كثيرة، ولكنهم يجتمعون على فطرة الانجذاب للنساء

لم يُعجبه المسار الذي وصل إليه بالتفكير.. فإن أمر النساء قد غاب عن باله فترة طويلةً جدًّا.. على عكس بعض المرضى الذين يودّون الزواج من أي امرأة يرونها.. حتى الممرضة الحامل!

في السابق، قد كان راضيًا ومستسلمًا لكونه ابن بوالخيول وبالتأكيد سيتزوج أحد بنات عمه.. بل وكنَّ هنَّ بنفسهن يحاولن التودد إليه وإلى والدته

أما الآن، وهو يبغض أي شيء يربطه بهم.. فمحال أن يفعلها.. هو حتى لا يرغب بأي صلة بأهله، فما بالكم بزوجة منهم.. هذا محال.. ولكن عليه أن يبحث عن زوجة أخرى
سيخرج قريبًا بإذن الله.. ويريد أن يكوّن اسرة تأنس بها نفسه.. ولكن.. من ستكون الزوجة؟


.
،


كعادتها عند عودتها إلى المنزل تشارك أمها الأحاديث، واخبار اليوم

قالت: وهيك ألّي غديّر.. ابن عمو قفز بالفرس الحامل وهلأ هو بالمستشفى

فتحت عيونها بصدمة: وليييي.. ان شاءالله ماصار لُو شي؟

ريان مدت بوزها: مابعرف والله.. بس دخل غرفة العمليات

حركت رأسها بأسف: الله بيشفيه ان شاءالله.. يالله رح اعمل لهون شي مساكين ما معهن مرة!

وكعادة أم ريان النشيطة جدًّا.. ما أن سمعت بأن أحدهم يحتاج مساعدة وخصوصًا إن كان أمرًا مرتبطًا بالطبخ حتى تهم إلى مطبخها.. لم تأبه بالتفكير بالصلة ما بينه وبين المريض
ذهبت مسرعةً تعجن وتحضر الحشوات

وقفت عند باب المطبخ بملل: لشو عم تعجني هلأ؟

أم ريان: مسكين كابتن غدير والشباب معه ماعندهن حد يطبخ لهن.. بلكي حدا اجاهم ضيوف أو هيك؟ وليييي ع الفضيحة
لازم حضر إلهون الضيافة والشاي

قالت ريان بيأس من والدتها النشيطة أكثر عن اللازم: بتدورري على التعب.. انا رح اتسطح شوي


مضى الوقت بينما كانت ريان في قيلولتها.. وسمعت طرقًا على الباب

أم ريان بصوت عال: يلا ريانووو اووومي خدي الأكل للمستشفى

تأففت: ماما كتير تعبتيني هاليومين

أم ريان تصفق تستعجلها: يلا ولي.. خديه ابل لا يجي ضيوف

نهضت من مكانها بكسل.. تغسلت وتناولت الحافظات من والدتها.. استلقت حافلة عمومية إلى المستشفى

والآن المصيبة.. لا تمتلك رقمه.. فكرت بأن تسأل عن رقم الغرفة.. ولكنهم أبوا أن يعطوها اياه بحجة أنها خصوصية المريض
اتصلت بمدربها جون واخذت رقم غديّر واتصلت باستحياء

ريان: الو

غديّر: مرحب.. منو وياي؟

ريان: أنا ريان

همس غديّر: ريان؟ "ثم خرج مسرعًا"

ريان باحراج كبير: ايوا.. انا هون بالمستشفى ماما بعتت فطاير وشاي وهيك شغلات.. آل ممكن يجيكون ضيوف

غديّر: وين انتي؟

ريان: عند الاستقبال

كان يسألها عن مكانها بينما كان يبحث عنها بعينيه

ابتسم لها: يا هلا والله بريان

ريان: اهلين كبتن

غدير: يا مرحبا وسهلا.. جيف (كيف) الحال؟

ريان: الحمدلله.. انت كيفك؟

غديّر: الحمدلله رب العالمين.. تعبلتوا (تكلفتوا) يا ريان.. ماكان له داعي الحمدلله المطاعم وايدة وتسد ماكان له داعي تتعبون عماركم

ريان بإحراج: قلت لماما لكنها مارضيت.. انا اسفة ممكن اكون احرجتك

غدير اخذ منها الاغراض: ولا يهمج يا ريان.. دقايق بس بوديهم فوق وبرجع.. اترييني (انتظريني)

دقائق وعاد إليها يلهث: السموحة تأخرت

قالت بدعابة: بالعكس حطمت الرقم القياسي في السرعة

غديّر ابتسم: ييتي بالباص؟

ريان: ايوا

غديّر: يالله بوصلج

ريان: لاااا لا تتعب حالك

غديّر دز شنطتها بخفة: مافيها تعب.. يالله تعالي

ريان: لااا مابيصير كابتن

غديّر: والله ماتطلعين الا وياي وانا اوصلج

بوزت: ليش تحلف طيب!

غديّر: نحن جذي (هكذا) العرب إذا استعصت أمورنا حلفنا

ابتسمت له بمجاملة ومشت على مضض.. وبتوتّر شديد.. لا تشعر بالراحة لركوبها مع رجل غريب.. صحيح بأنها تركب التكاسي لوحدها.. ولكن أن تركب مع رجل تعرفه؟ بل وهو مدرّسها ومدرّبها.. أمر عجيب



***



كانت د. وديمة مع الفريق الطبي في مكتب المدير يناقشون اجراءات تسريح المريض الفريد من نوعه

وديمة: لقد تحدثت الاخصائية الاجتماعية مع والده ورفض إخراجه رفضًا تامًّا.. حاولت أنا أيضًا محادثته ولم يتقبل الأمر أبدًا.. وعندما علم بأننا سنخرجه في كل حال استشاط غضبًا.. وهدد بمقاضاتنا لاخراج المريض بدون إذن أهله

د. إسلام: فليفعل، لقد سقطت صلاحيته منذ سقط التشخيص عن المريض.. الآن هو يعتبر بكامل الاهلية لاتخاذ القرار

وديمة: اخبرته بكل هذا ولكنه رفض الاستماع

د. إسلام: أنا أسست هذا المستشفى لمساعدة المحتاج وتأهيله للخروج من المصحة.. لست عبدًا للمال لوضع شخص مستقر النفسية وعاقل بكامل قواه العقلية بلا حاجة
جميعنا نعلم بعبء العيش في مصحة نفسية على المريض، فكيف بشخص صاحٍ كسلطان؟

حدث سكرتيرته: أبلغي القسم القانوني بالأمر كله وللاستعداد للقضية

د. شيبرد: المريض الآن بلا أي دعم عائلي.. ولكننا بذلنا ماستطعنا لأن نهيئه للأمر ونعطيه تصورًا واقعيًا عما ستكون عليه الحياة.. بمساعدة الفريق كامل بالطبع

د. إسلام: إذًا سنخرجه اليوم

د. شيبرد: ولكننا لم نخبره بالمستجدات بعد.. لم نرد أن نحبطه باخبار أبيه

د. إسلام: يمكنكم استدعاؤه الآن


.
،
.


عاد إليهم وهو تحت تأثير صحبتها المؤقتة.. تذكر ضجرها من صوت المطرب المزعج بالنسبة لها وابتسم لابتسامتها التي زرعت الورد في قلبه

قرواش همس لهم: شوفوا الابتسامة بس

هزاع كان ياكل بتلذذ: والله تسلم ايدها طرررر فطاير النقانق

خذ وحدة ياكلها وهو يأمر: صبولي جاي حمر

حياب الذي استعاد وعيه: منو هذي راعية الفطاير؟ بعد هي حرمك المصون؟


لم يكن ليخبر هؤلاء بأمرٍ خاص كهذا.. ولكن الأمر قد انكشف.. ولا فائدة من التهرب

مثل الانشغال بالأكل: هي نفسها


.
،
.


دخل سلطان بجسمه فارع الطول، ومنكبيه العريضين وهدوئه المعتاد.. سلّم وشق الابتسامة على وجهه

سلطان بانجليزية احترافية: يبدو بأنه اجتماع مهم!

نهض د. إسلام خان واحتضنه بحبور: بالطبع.. اجتماع مهم مع شخص مثير للاهتمام مثلك يا سلطان

سلطان: يسرني ويسعدني ذلك دكتور

د. إسلام: كما أبلغك الفريق الطبي من قبل.. نحن قد بدأنا إعادة تقييم حالتك النفسية، ولله الحمد كانت النتائج مبشّرة.. بعد أن قللنا جرعات الادوية وبدأنا بإعطائك جرعات وهمية

سلطان: البلاسيبو.. صحيح؟

هز د. إسلام رأسه: إن كنت تعلم فليس بلاسيبو ناجحًا

قهقه سلطان: هههههه لأصدقك القول فإن الطعم مختلف قليلًا

ضحك الجميع بقلة حيلة مع هذا الداهية

د. إسلام ربّت على ظهره: سنشتاق إليك حقًّا

سلطان: إن كنت ستشتاق فبالطبع هي أخبار جيدة!

د. إسلام هز رأسه بإيجاب: لقد اتفق الفريق الطبي على أنك خالٍ من المرض تمامًا والتشخيص السابق كان خاطئًا.. وقد استشرنا المؤسسة العالمية للصحة النفسية وأخذنا الموافقات اللازمة لتسريحك

سلطان تنهد وهمس: الحمدلله

د. إسلام: وقد بدأنا كل الاجراءات منذ مدة.. ولم نخبرك بها إلى أن استلمنا الموافقة النهائية.. ولذلك يمكنك الخروج اليوم

سلطان بصدمة: اليوم!

د. شيبرد بابتسامة: لمَ؟ أتود قضاء المزيد من الوقت معنا؟

لم يتمالك نفسه سلطان.. نهض واتجه إلى زاوية معينة.. وسجد.. وأطال السجود.. نهض كل الفريق الطبي لينظر إليه بتأثر شديد.. لقد صبر سلطان على هذا المكان صبرًا لا يُصدّق.. كان ساجدًا وجسمه يهتز كمن أجهش بالبكاء.. أطال حتى ظنوا بأنه لن ينهض

وقف فجأة.. ومسح دموعه.. ثم عاد إليهم بابتسامته المعتادة.. وعيون محمرّة على غير العادة

قال: آسف.. لم استطع تمالك نفسي

احتضنه دكتور إسلام، ومن بعده دكتور شيبرد.. ثم تبعهم كل رجال الغرفة
سلطان لم يكن مريضًا عاديًّا أبدًا.. وبالطبع ليس شخصًا يمكن نسيانه بسهولة


.
،


أخذ أغراضه كلها وهو يشعر برعشة تسري في جسمه.. سيذوق الحرية غير المشروطة لأول مرة منذ سنين
ألقى نظرةً على حقيبته الصغيرة.. لم يأخذ سوى الأغراض المهمة ووزع المتبقي على زملائه في المصحة

لا يريد أي شيء يذكره بهذه الايام.. كانت أيامًا صعبة.. مختلفة عن كل يوم قضاه خارج هذه الجدران
محال أن ينساها.. فإن بصمتها في روحه.. ذكرى سيئة لن تواريها السنين

فأن تكون بكامل قواك العقلية.. وتعيش محبوسًا في مصحة للأمراض النفسية.. لهو أمر ثقيل جدًا على العقل

كان يراهن بأنه سيفقد عقله.. لم يظن بأنه سيستطيع الصمود كل هذه المدة

ما بين شخص يبلغه بمحاولات متكررة للانتحار.. وآخر يخبره بأنه قد اغتصب ابنته.. وثالث ينوي تفجير المبنى.. وآخر يتعرى فجأة.. وشخص لا يتحدث ولا يعي أي شيء مما يحدث حوله
كان المرضى يدخلون المستشفى ويخرجون.. بينما هو باقٍ لا يتحرك.. كان يشعر بخناجر في فمه كلّما سُأل.. متى ستخرج؟ فهو لا يمتلك أي إجابة.. بل وصل إلى مرحلة ظن فيها أنه باقٍ إلى آخر يومٍ في عمره

كان يعيش مع أشخاص منفصلين عن الواقع تمامًا.. وإن كان انفصالًا مؤقتًا للبعض
هو يتعاطف معهم.. ويعلم بأنهم يعانون بصمت.. أو بطريقة لا يستطيع فهمها الناس.. ولكنهم مُجبرون.. أما هو فلا.. فقد احتاجها فترة.. لا ينكر هذا.. ولكن قد صحّ بدنه وعقله.. وعاش بقية المدة قسرًا

كان يأخذ الادوية النفسية بلا أي داعٍ رغمًا عنه.. وهو على علم تام بكافة أعراضها الجانبية.. والتي لم تكن هيّنة أبدًا.. اختلال في الفحوصات، زيادة وزن، متلازمة ايضية.. وغيرها الكثير من الأعراض الجانبية للادوية النفسية
والتي تعتبر أهون بالطبع من أعراض المرض بالنسبة للمرضى نفسيًّا.. ولكن ماذا عنه وهو صاحِ البدن؟ .. لمَ كان عليه أن يعاني كل هذا بلا سبب؟

العيش في مصحة نفسية.. ليس كالعيش في السجن.. وليس كأي شيء آخر
هي تجربة لن يستطيع وصفها أو تخيلها إلا من جربها.. وكفى

طرد هواجيسه.. واتصل بابن عمه

سلطان: السلام عليكم مرحبا غديّر

غديّر: وعليكم السلام يا مرحبا والله.. صوت سلطان ولد العم هذا ولا انا غلطان

سلطان: نعم سلطان

غديّر: حياك الله يا سلطان.. آمرني.. عساه خير يارب

سلطان: مر علي المستشفى ماعليك أمر

غديّر: طلعوك اجازة بعد مرة؟ غريبة

سلطان بنظرة ذات معنى: تعال وبخبرك




نهاية الجزء الخامس



لا تنسوا إخوتنا في فلسطين من الدعاء..

على وطايا الخيلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن